لا أحد من أسرة إسماعيل تمكن من تفكيك شفرات كلماته ودغدغاته الطفولية التي يرطن بها طوال اليوم، حتى والدته لم تستطع فهم طبيعة اللكنة الدخيلة التي يتحدث بها صغيرها، وعندما يئست الأسرة من تحقيق أدنى تقدم في فك هذا اللغز، رغم المحاولات المتكررة والمتعبة، قصد الأب أحد أقرب مراكز تعليم اللغات بالمدينة. ومع أن إسماعيل طفل صغير لم يتجاوز بعد صيفه الرابع، فإن علاقته بالتيكنولوجيا أمر غريب عجيب، فما أن تقع عيناه على لوحته الإلكترونية حتى يمرر أصابعه بسلاسة على أيقونة اليوتوب الحمراء المميزة YouTube لينطلق بذلك مسلسل المشاهدات الحلقة تلو الأخرى بشراسة نمر جائع. بعد الاستماع إلى الطفل في حصة نفسية مريحة، سأل الخبير اللغوي والد الطفل بتعالم: متى كانت آخر زيارة لك لروسيا؟ أجاب الوالد بذهول: روسيا، يعني الاتحاد السوفياتي سابقا …مطلقا سيدي، ولو في الأحلام حتى أنني لم أجدد جواز سفري منذ خمس سنوات تقريبا. مرر الخبير يديه بتواز أفقي على جبهته، وبدأ يفرك في الاتجاهين كما لو يعاني من صداع نصفي وعقب بنبرة متفهمة «أجل أتفهم هذا جيدا. صمت لحظة وسأل: هل لديكم جيران من آسيا أو تستقبلون في بيتكم ضيوفا أجانب من روسيا مثلا؟ نظر الأب إلى الخبير بشيء من التردد لكن بوثو : أبدا أبدا سيدي …وبدا كمن يحدث نفسه «آخر ضيف حظي بشرف استقبالنا كان صهري أستاذ مادة التربية الإسلامية وزوجته .. ابتسم الخبير خفيفا ثم أردف بتفاؤل»حسنا.. وفي لحظة، كما لو أن فكرة عجيبة اقتحمت ذاكرته للتو فسأل : أريد منك إجابة صريحة وواقعية: كم ساعة في اليوم يشاهد صغيرك شاشة التلفزيون؟ لا أهمية لهذا السؤال، فصغيري لا يشاهد التلفزيون إلا نادرا، بينما لا تفارق عيناه شاشة لوحته الالكترونية … النهار وما طال يا أستاذ .. ثم أضاف الأب بنفور مفاجئ، لكن ما علاقة التلفزة بذلك سيدي الخبير؟ فإسماعيل منذ بداية الصباح يشرع في مداعبة مفاتيح لوحته الإلكترونية خاصة قناة اليوتوب، فيغرق الصالة ضجيجا وصخبا، يدندن بصوت عال تارة، ويردد كلمات لا نفهم مصدرها تارة أخرى. حسنا قال الخبير وأردف متسائلا: هل سبق لكما مشاركة صغيركما ما يشاهده على لوحته؟ الحقيقة لا..ثم أردف في انبساط :سنفعل .. إذا بدأ لك ذلك ضروريا ..وواجبا سيدي طبعا أجاب الخبير: ثم انطلق في وصف تشخيصي للظاهرة» ابنكم يا سيدي يتحدث اللغة الروسية بطلاقة…. ويبدو لي، حسب المعطيات المتوفرة، أن له سرعة بديهة خارقة، ومنسوب ذكاء مرتفع يساعده على تخزين الرسائل المسموعة بدقة متناهية، وهو ما مكنه من التقاط العديد من الحوارات والعبارات وحفظها من خلال الأشرطة والأفلام القصيرة التي يشاهدها أويسمعها على قناته المفضلة وبوضوح شبه تام… لا تقلقوا..الأمر في غاية المتعة.. أجل أن تأثير التكنولوجيات الحديثة على تصرفاتنا الشخصية والجماعية فاق الكل التصورات» ثم أدار وجهه جهة إسماعيل»أنت لطيف ورائع يافتى، أما إسماعيل فقد ظهرت على ملامحه ابتسامة عريضة وغمرت محياه سعادة بلا ضفاف..آه لو تسنى له مشاهدة إحدى حلقاته المفضلة للتو… حتما سيكون ذلك في غاية السعادة .. والسؤال هوهل ما قام به إسماعيل عملا إبداعيا؟ وهل من الضروري أن تكون عند الطفل موهبة لكي يكون مبدعا اعتبارا أن كل طفل له استعداد إبداعي أو إمكانية الإبداع بالاعتماد على مؤهلاته مهما بدت صغيرة وعلى ما يقدمه له الوسط الذي يعيش فيه؟ وحسب الباحثين فإن»الإبداع بشكل عام هو تفوق عقلي، عند الكبير والصغير، يتمثل في إبداع أفكار جديدة عن طريق تناول الأشياء والتعامل معها بشكل مختلف، من زاوية أو من زوايا متعددة» وهو أيضا نوع من التفوق وجب تثمينه في المساعدة وتسهيل التعبير عن الأحاسيس والأفكار، خصوصا عند الأطفال الذين يعانون من الخجل ولا يستطيعون مواجهة الآخر.» ومن المحقق أن مع بداية الألفية الثالثة شهد تطورا باهرا في مجال التيكنولوجيا والتقنيات الرقمية وقد بدأت العديد من التقنيات والتطبيقات بالفعل تغزو كل قطاعات النشاط البشري، وتمتد إلى التأثير بقوة وفاعلية لافتة في مختلف الأعمار. في هذا الصدد، يذكر ريمي ريفيل مؤلف كتاب الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية؟ الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بغورة شهر يوليوز تحت عدد 462 طبعة 2018 بترجمة موفقة لسعيد بالمبخوت ومراجعة الزواوي بغورة، أن الثورة التيكنولوجية خاصة منها تلك المتعلقة بالرقمي هي في الأساس غير مستقرة ومتناقضة، وتحمل في الوقت نفسه وعودا وتهديدات كبيرة، فالأمر يندرج في سياق تتعارض فيه قيم التحرر والانفتاح من جهة، واستراتيجيات المراقبة والهيمنة من جهة أخرى. ويرى ريفيل أن التيكنولوجيات الرقمية لاسيما في الميدان الثقافي ليست سوى انعكاس الاستعمال الذي يقوم به الفرد ولا يمكن أن تحلل بمعزل عن الفاعلين الذين يمتلكونها ، وأنها لم تضع حدا لعدم المساواة فيما يتعلق بالاستخدام ولم تخف سوء التفاهم بين البشر ولمتقلص بتاتا النزاعات، لكنها وسعت بشكل ملموس الاطار في الزمان والمكان ووفرت وصولا غير محدود الى المعارف ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة لأنها تحاول بشكل ما تغير تصور المرء للعالم. فعالم التكنولوجيا الرقمية يشكل وسيلة للتحرر والهيمنة في الوقت نفسه. وفي كل الاحوال فإنه لايزال في الوقت الراهن وعد وتحدي، لأن الرقمي والوسائط وتيكنولوجيا المعلومات والاتصالات تعتبر أحد أشكال المؤانسة الجديدة عبر الربط والتعبير للأفراد. المؤلف وهو أحد اكبر المتخصصين في دراسة وسائل الإعلام والمجال الرقمي والصحافة والانترنيت يقترح في كتابة المتكون من ثلاثة أجزاء تحليلا اجتماعيا من شأنه أن يتجنب التركيز فقط على الابتكارات التكنولوجية بل يتعين كذلك ملاحظة تاثير التيكنولوجيات الرقمية على عالمنا ويبين السهولة في الوصول إلى المضامين الثقافية بكل أجناسها. فالرقمي يظهر في الواقع مثل فارماكون PHARMAKO Nدواء وسم في الوقت نفسه وفق التوصيف الشهير الذي استعاده برار ستيغلر بخصوص التيكنولوجيات الرقمية. الكتاب الجديربالقراء ة يتكون من ثلاثة أجزاء في الجزء الأول يحاول تعريف التكنولوجيات الجديدة واستعمالاتها. ويتطرق الجزء الثاني إلى ازدهار المدونات والشبكات الاجتماعية وثقافة التقاسم والطرائق الجديدة في القراءة على الشاشة ومستقبل الكتاب. وفي الجزء الثالث يناقش الكتاب العلاقة بين الإعلامي والسياسي والمشهد الاعلامي الجديد والصحافة الرقمية والأنترنيت كمصدر إعلامي والتواصل السياسي عبر الأنترنيت …