تقديم: بقي ترسيم وتسطير الحدود الفاصلة بين المغرب والجزائر عالقا و محكوما بقاعدة بقاء الحال على ما هو عليه، بعدم الحسم فيها رغم الاعتقاد الجزائري، ورغم تعدد محاولات التسطير النظري، و أقدميتها . أولاً: فقدان الثقة عسر مفاوضات الاتفاقات بين المغرب والجزائر. فمحاولات اتفاق الطرفين، وعلى ما يبدو من جسم الاتفاقات ذاته ، تصطدم على الدوام بفقدان الثقة وغيابها، و توجس الخوف من مناورات الآخر ، والانتباه لعدم الوقوع ضحية مكر أو غبن أو تدليس من الطرف الآخر، والريبة الدائمة، الذي فرضه الشعور بثقل وجسامة المسؤولية ، تولد عنه ضغط شديد انعكس على الاتفاقات في بنيانها اللغوي وفي تنفيذها الذي لم يتم تبعا لكل ذلك . فالحرص والحيطة والحذر الذي انتاب الأطراف وتحكم في ادارتهم لمفاوضات الاتفاقات كان بينا وواضحا من خلال الصياغة اللغوية، ومن انتقاء العبارات و طريقة تركيبها، اللفظي والدلالة ، و وقوف المعنى عند الأمور العامة العائمة رغم وضوح الكلمات وانتقائها بعناية فنان الزخرفة، بحيث تعمدت الأطراف استعمال كثرة الاحالات، الذي جعل المغزى يتيه وينتهي حيث بدأ بالرغبة المشتركة في بناء التعاون وتمثين العلاقات. وكأنه يدور في حلقة مفرغة. ثانياً: فقدان الثقة بين المغرب والجزائر أثر سلبا على البنيان القانوني للاتفاقات؛ فطغيان المخاوف والشكوك وعدم الثقة حتم على كل طرف مفاوض التزام الحرص الشديد من خلال فرض اقحام تعبير معين أو جملة خاصة أو عبارة مختارة، وفي نواياه أنه يحصن و يحافظ على حق او يؤسس له . الأمر الذي فقدت الاتفاقات بين المغرب والجزائر وحدة محلها و استقلالية في موضوعها ومضمونها وهدفها بالنظر الى تعدد مراجع هذه الاتفاقات و ربط بعضها البعض بالاحالات . و يبدو من ظاهر التمعن في قراءة الاتفاقات أن الأطراف تعمدوا عنوة وعن قصد تعقيد مسطر البث والفصل في النزاعات المرتبطة باحتمال بروز فرضية اختلافهما في تفسير تأويل الاتفاقية ، وجعلوا الحسم فيه رهين الرجوع الى اتفاق او اتفاقات سابقة. ثالثاً: تنفيذ الاتفاقات في اطار حزمة واحدة لا تقبل التجزئة ولا الانقسام؛ فالحسم في النزاع العارض الناتج عن الاختلاف في التنفيذ يتم الحكم فيه خارج الاتفاق نفسه، و ينظر اليه في علاقته وارتباطه باتفاقات سابقة معينة؛ وبالضبط اتفاقية ايفران واعلان تلمسان والمحمدية والرباط، فهذه الاتفاقات و غيرها الذي يأتي يعتبر مكملا بعضها البعض ومرتبط بها، وليست كائنا قانونيا مستقلا، بل أرادوها كذلك، وجعلوها وحدة واحدة في اطار جمع واحد متعدد لا يقبل التجزئة و لا الانقسام في قيامه وفي تنفيذه وفي سقوطه بعدم تنفيذ احدهما او كلاهما للالتزام. إذ إن البث في استشكال او صعوبة في التنفيذ يستدعي خلق لجنة مشتركة مغربية جزائرية، و انتظار ميسرة ومهلة وأجل غير محدد لانعقادها، و ترقب النظر في مخرجاتها التي يحكمها التوافق غير القائم، فلو حصل ما برز الاختلاف والنزاع أصلا. وفي حالة عدم الوصول الى نتيجة، الذي هو الصورة الأكثر غلبة واحتمالا، فان الاتفاقات جعلت المبادرة في مباشرة المسطرة وتتبعها على الطرف الذي يريد التعجيل وليس على اللجنة المشتركة، التي لها الصفة التمثيلية، وهو الصورة الأخرى لغياب الارادة والنية في التعاقد الجدي من أصله ومنذ البداية. رابعاً: الاتفاقات تتضمن عيوبا قانونية تجعلها باطلة بقوة القانون مع عدم تغيير الحالة الأولى؛ وكأن الاتفاق صوري و مستتر لارادة وعقد آخر غير معلن، وليس عقدا ملزما للجانبين، يتضمن التزامات متقابلة يحب على كل طرف تنفيذها تحت طائلة سقوطه لعدم صلاحيته . او انهما جعلا تنفيذ الاتفاق متوقف على ارادتهما خارج مبدأ وجوب تنفيذ الالتزامات، وهي كلها عيوب قانونية تبطل الالتزام، خاصة وأن تنفيذه معلقا على ارادة الملزم نفسه. او أن نية الطرفين غير متجهة أصلا لتحقيق هدف المصالحة كشرط للأمن والتنمية والاستقرار في المنطقة. فالأطراف اعتمدوا خلق صعوبات منذ البداية من خلال توافقهم على اقرار تضخم مثبط للعزائم ويشجع على التماطل في التنفيذ، من خلال تعدد مسطرة الفصل في النزاعات المرتبطة بتنفيذها وفي ضرورة احترام تدرجها، إذ جعلوا على عاتق الذي يريد التعجيل في فك النزاع أن يتبع مجموعة من الإجراءات والمساطر. خامساً: التعقيدات الشكلية في اشكاليات التنفيذ جعلت الكرامة فوق المطالبة بالتنفيذ؛ وهي تبدأ برفع الأمر أمام محكمة العدل الدولية أولا ثم بين يدي لجنة منظمة التجارة الدولية من أجل تفعيل مسطرة التوفيق ، وفي حالة فشلها التحكيم قبل التدخل النهائي لمحكمة التحكيم بقرار لا يقبل اي طعن. وجعلوا اطار ومرجعية التوفيق او التحكيم مضمون اتفاق او اتفاقين سابقين بينهما ( انظر المادة 17 من اتفاق الاستغلال المشترك لمنجم غارة اجبيلات الذي يتضمن 13 فقرة) فالأمر وعلى فرض ادعاء أحد الطرفين ضررا ناتجا عن عدم تنفيذ الطرف الآخر للاتفاق، و توفره على رغبة مستعجلة للفصل في الأمر وفقا للطريقة المشار اليها في الاتفاق، فعليه أن يتحلى بالصبر و الاستعداد لتحمل طوله، وأن يضبط تعقيدات المسطرة، فهي بمثابة طواف قضائي بين الوسائل البديلة لفك النزاعات؛ وساطة توفيق وقضائية؛ محكمة العدل الدولية و تحكيمية؛لجنة منظمة التجارة الدولية. فالأطراف خصصوا للشكل اهتماما أكثر من الجوهر والموضوع، ففهم الاجراءات و ضبط و تتبع المساطر المقررة في الاتفاقات عمل شاق وصعب وعسير، وقد يكون ذلك مقصودا . فهي اجراءات متعددة ومعقدة، تستغرق وقتا طويلا للوصول الى نتيجة. سادساً: الاجراءات المثخنة و تضخم المساطر يطرح سؤال حول جدية الأطراف أثناء وبعد الاتفاق. و في مباشرة الاجراءات والمساطر عناء كبيرين، و لو حصل صدور حكم او قرار وفق الطلب والنتيجة لاشك يرفضها الطرف الآخر. فهل فكرت الأطراف أن الرغبة في التنفيذ وان العبرة ليست في الاتفاق ذاته . و إذا كان الأمر كذاك فان غاية احد الطرفين هو الحصول على الاتفاق كهدف وليس كوسيلة. ولست متحيزا اذا قلت ان الجزائر هي من يبحث عن اعتراف مكتوب من المغرب لترسيم الحد فاصل بينهما . و لهذا أميل في استنتاج على شكل اعتقاد خلصت إليه من قراءات متعددة و متأنية لمجمل للاتفاقات أن التعقيد كان مقصودا، ويعطي ذلك الدليل الكافي على غياب وانعدام الثقة بين المغرب والجزائر وقت الاتفاقات؛ أواخر الستينات وبداية السبعينات وحتى تلك التي تمت في بداية التسعينات وإلى الآن وحتى الآن، وإنهما كانا يتفقان لتجاوز ضرورة وقتية وأن ارادتهما غير متجه الى الاتفاق ولا الى احترامه وتنفيذه. سابعاً: الجزائر مارست الخداع بنهج اتفاقات صورية لتجاوز هزيمة وخطر و ازمات داخلية وأكاد أجزم أن حاجات الجزائر الذاتية والوقتية لتجاوز عقدة هزيمة( حرب الرمال) او لقضاء حاجة مستعصية ( مطالبات المغرب بخصوص الحدود الشرقية) أو اتقاء خطر ناتج عن مأزق حقيقي وتخاف من المغرب استغلاله ( الارهاب) هو أصلا المتحكم في تفكيرها في الاتفاق والدخول فيه مع المغرب . و نوايا النظام الجزائري غير سليمة منذ البداية بل تنطوي على حيل ومكر فينا يشبه التاكيدات الخادعة لأعمال النصب والاحتيال. فالجزائر لا تتصرف بدافع الرغبة الى الاتفاق الا في اطار حاجتها الماسة إلى استصدار اقرار من المغرب بالحدود ، وليس ناتجا عن ضرورة حماية مصلحة قدرتها متطابقة او متكاملة مع المغرب، و لا تعتمد حسن النية في ابرام الاتفاقات والعقود مع المغرب، كمبدأ وركن أولي في صحة العقود والاتفاقات منصوص عليه في كل القوانين الدولية والمقارنة. و هو أمر مؤسف جدا لأن ذلك فوت على البلدين فرص عمل سانحة، قد لا يتم تداركها مستقبلا. وتقف الحزائر في مركز ومرتبة من ينصاع عرضا ربحا للوقت مع المغرب واستعدادا لفعل مستتر، تنتظر توفر شروطا موضوعية وذاتية للقيام وتنفيذ فعل في مواجهة المغرب، فهي ناعمة بتاريخ الاتفاقات لتجاوز اكراه ذاتي حال وخطر داهم يهددها او استجابة لطلب خارجي حتم عليهما الرضوخ للأمر الواقع المؤقت. وبمجرد زوال الظرف وانقشاع الغمامة تأمر الجزائر مباشرة بتعليق تنفيذ الالتزامات وتوقيفها و تقطع حتى العلاقات، وتقوم بارجاع الحالة الى ماكانت عليه بعد ذلك او لنقل تتعمد بقاء الحال على ما هو عليه، في انتظار ضغط آخر يفرض عليها لتجنح الى سلم في اطار خدعة أخرى وجديدة. ثامناً: ذكاء المغرب في عدم القبول بانقسام الالتزامات كشرط لصحتها اجهض محاولات المكر الجزائري. ولهذا فان تصرف المغرب أذكى عندما جعل من مسألة حسم الحدود وسيلة لضمان المصالحة والسلام والنماء والأمن والاستقرار في المنطقة. و فرض على الجزائر من حيث تدري او لا تدري جعل الاتفاقات بينهما حزمة واحدة تتناول جميع الميادين وفي مقدمتها الاقتصادي، كما ربط بعضها البعض وجعلاها جمع واحدد متعدد غير قابلة للتجزئة ولا الانقسام في التنفيذ، تحت طائلة سقوط الاتفاقات جميعها. إن قضية الحدود حسب الاتفاقات بين المغرب والجزائر هي المحرك لباقي الاتفاقات للتناسق الممتاز بينها، وهي ضمانة لتنفيذ وتطبيق الكل الواحد المتعدد. و يراهن المغرب على الحدود وفي فتحها لتكون جسرا حقيقيا للتطبيع الشعبي، ولا يتردد في المطالبة بفتحها ، واعتبرها فلسفة ليعم السلم والتنمية والأمن والاستقرار. في الختام؛ و في ذلك تختلف مقاربة المغرب للحدود في ربطها بالمستقبل عن نظرة الجزائر التي مازالت تحتفظ بمنطق الاستعمار العنصري من خلال اعتناقها الأناني لمبدأ الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعمار، الذي زال وانقضى ومازالت تحن الى أساليبه وتصرفاته. وان محاولات الجزائر الحالية ومن جانب واحد لاستغلال حديد منجم غار اجبيلات رغم الشراكة في استغلاله مناصفة مع المغرب، و بحل اممي من أجل السلام و لتجنب العنف بين المغرب والجزائر، هو فعل عدائي ينضاف الى حرب على المغرب بالوكالة عن طريق البوليساريو. محامي بمكناس وخبير في القانون الدولي، الهجرة ونزاع الصحراء.