تحل هذه الأيام ذكرى رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش. وعندما يحل شهر غشت تتملكني قشعريرة نكبة الرحيل القاسي. واحس أنه لم يمت ولازال يعيش بيننا في طريقه بحثا عن حياة. ينام باكرا ويستيقظ باكرا، ويتانق كامير، وبعد قهوته بيده ويستوي على مكتبه ليكتب شعره عند الضحى، وعند الظهر يغادر مسكنه، ثم يذهب كل مساء ليؤثث أمسياته ويسعد غاويه بما لذ وطاب من القوافي الساحرة. المؤلم هذه السنة هو انبراء شاعر مغربي للضرب في مدى شاعرية محمود درويش، بضربة لازب ، واحاله بضربة مقص على المتحف الى جانب بابلو نيرودا الشاعر الشيلي العظيم وأحمد مطر ومظفر النواب...الخ يتعلق الأمر بالشاعر المغربي صلاح بوسريف في حواره الأخير مع مجلة "ميريت" الثقافية المصرية. وهذه مناسبة لنؤكد أن محمود درويش فلتة شعرية تاريخية لا يوازيها الا شعراء المعلقات او المتنبي أو أدونيس... والباقي تفاصيل.. إنه شاعر لا ولن يتكرر. ولن ينقص ما قاله بوسريف من القيمة الشعرية لمحمود درويش، بل ساهم قوله، بدون وعي منه، في إعادة النقاش بشأن القيمة المضافة لمنجز محمود درويش الإبداعي. فدرويش كان شاعرا في نثره فكيف يكون في شعره؟ درويش يهزم النثر كانت كتابات محمود درويش النثرية مليئة بالحكم والمعاني والصور والمفارقات التي ترقى إلى مرتبة الشعر والأمثال، وهي تشبه كتابات المتصوفة رغم أن تجربته الشعرية بعيدة نسبيا عن أجواء الأشواق وطيف الخلوات وبريق الحلول الصوفية.، كما عند أدونيس أو ابن عربي أو أبو حيان التوحيدي أو ابن الفارض أو عند شعراء مغاربة كعبد الكريم الطبال أو محمد السرغيني أو محمد بلحاج آيت وارهام. واذا عدنا الى كتابه "ذاكرة النسيان" سنجد عينات وقرائن على ما ذهبنا اليه. لقد استطاع محمود درويش أن يسمو فوق اللغة، وبها، في ملكوت الشعر والقيم النبيلة والجميلة التي ناشدها. بل أكثر من ذلك أن معظم كتاباته النثرية تفوح منها رائحة الشعر وبخور الحكمة. وكثير من عباراته أصبحت مضرب الأمثال السيارة في مواقع التواصل الاجتماعي. ولا زال النقد عاجزا عن اكتمال الاقتراب من تجربته النثرية والشعرية. درويش يهزم مؤسسة النقد يعد محمود درويش الشاعر العربي الوحيد الذي هزم منظومة/ مؤسسة النقد الادبي سواء الأكاديمية أو التي مصدرها نقاد محترفون. لقد اشتكى محمود درويش من النقد الادبي المبجل لتجربته وتجربة الشعر الفلسطيني، وصاح بقولته الشهيرة: * "أنقذونا من هذا النقد!" وكان النقد في معظمه يعلن انبهاره بالشعر الفلسطيني خصوصا قصائد محمود درويش. ورغم أن صيحته تحسب له، لكن هناك من جاء اليوم ليخبرنا بان محمود درويش سياسي وليس بشاعر. وماذا يكون ؟ هل هو ساحر أم مجنون؟ فهل مئات النقاد وباحثي الدرس الادبي الجامعي وغير الجامعي، الذين قاربوا تجربته نقديا كلهم يكذبون على أنفسهم، أم أن التواطأ وصل إلى هذا الحد؟ لا شك أن بعض قصائد محمود درويش تسرب اليها بعض الخطاب المباشر المخل- عادة- بجمالية النص الشعري، ولكن ذلك نادر الحدوث، اذا ما نظرنا الى كامل تجربته، خصوصا أنه من الشعراء العرب القلائل الذين يكتبون بغزارة وبلا انقطاع لعقود. وربما كان حضور نزر من الخطاب المباشر في شعره مبررا لانه كان يكتب بدم الشهداء، وكانت مشاهد الدمار والحصار واشلاء القتلى والجرحى تجري أمام عينيه ولافكاك له منها. في قصيدة "حصار". أخبرنا أنه يكتب تحت دوي القصف قرب بيته وقد يموت ولا يكمل القصيدة. فماذا تريد منه أن يقول للمرأة التي تحمل البحر الأبيض المتوسط فوق كتفيها؟ أليس هو جزء من" عشرون مستحيل فوق اللد والرملة والجليل -كما قال زميله توفيق زياد-؟ وهو يرى شعبا تحول الى مشردين بين المطارات والغيتوهات والمخيمات فاستحالوا إلى ما يشبه جلد الأرض؟ وعندها من حقه أن يصرخ "وطني ليس حقيبة"، ويتساءل "هل نحن جلد الأرض يا مطار روما؟" ألم تحوله التجربة الوجودية القاسية للشعب الفلسطيني الى نبي يتكالب عليه إخوته, وقال: " أنا يوسف يا أبي إخوتي لا يحبونني لايريدونني بينهم" ماذا تريد منه أن يقول وقد طرد طفلا من قريته ومات أمام عينيه الشيوخ والنساء، وجاع من جاع وضاع من ضاع، ظلما وعدوانا في رحلة الهروب من بطش العصابات الصهيونية الإرهابية في 1948. "لا أسْتطيعُ الرُّجوعَ إلَى إِخْوَتي قُرْب نخْلَة بَيْتي القَديم .. ولا أسْتطيعُ النُّزولَ إلَى قاعِ هاوِيتي أيها الغيْبُ ..!" لهذا من حقه أن يقول لمغتصبي وطنه: "عابرون في كلام عابر" "لنا ما ليس فيكم : وطن ينزف شعبا وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة أيها المارون بين الكلمات العابرة" وهي القصيدة التي هزت نظام الفصل العنصري الصهيوني وبعدها تم إصدار قرار نفيه عن وطنه. ألم يقدم وصية للانسان في كل مكان عندما قال: " فكر في غيرك لا تنس شعب الخيام" فاختلط علينا الشعر والخطابة السياسية في هذه القصيدة المليئة بالمشاعر الفياضة التي تدمي القلب وتحرك الضمير الانساني. لهذا من الصعب تقبل فكرة إخراج محمود درويش من مملكة الشعر ليرتاح فيها ممتهنو ذر الرماد في العيون. وانصار "عاش الغبار والمجد للعدمية"، ودعاة "لنترك الطغاة والمحتلين يقتلون ويهدمون البيوت بدعوى أن ذلك سياسة ولا علاقة له بالشعر". وانا أقول هنا والان: طز في شعر يطارد عيون المها وزفاف زرقتي البحر والسماء ولمحة الشروق الذهبية وغمزة الشمس الغاربة وينسى أنين الغلابة ويتجاهل دماء المشردين وحرمان شعب بكامله من أرضه بكاملها . وهذه الارض ليست كما قال محمود درويش سوى : " أم البدايات أم النهايات كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين" ومع ذلك فنادرا ما كان محمود درويش يستعمل لفظ "فلسطين" في شعره ويستعيظ عنها بأسماء المدن والبلدات الفلسطينية. فلم يعد لدرويش غير اللغة بعد أن شردوه وحرموه من كل شيء لذلك يقول: "أنا لغتي" درويش يهزم اللغة العربية القديمة لم يكتف محمود درويش بهزم مؤسسة النقد، وإنما هزم أيضا اللغة العربية القديمة المتخشبة وطورها وحولها إلى لغة سلسة محبوبة خالية من اللحن ووحش الكلمات المحنطة في المعاجم القديمة، ولم ينزع منزع الشاعر محمد مهدي الجواهري (مثلا) الذي غالى كثيرا في استعمال الكلمات القديمة والتي أصبح تدازلها نادرا في اللغة العربية المعاصرة. وأمام التجديد اللغوي لمحمود درويش وتحرير اللغة العربية من عقال بقايا عصر الإنحطاط واستكمال ما بداته حركة البعث والإحياء التي انطلقت مع الشاعرين سامي البارودي وأحمد شوقي، لدرجة يخيل للقارئ أن معجم قصائد محمود درويش يأتيه من عالم آخر. ، إذ كان حريصا على ضبط اللغة وانتقاء الكلمات بدقة. وكان يستعين بالمعاجم، ويعود الى تدقيق الكلمات التي يكتبها في مسودة كل قصيدة حتى يضبط المعنى والوزن والإيقاع، وكأنه يقطر الصور الشعرية من رحيق ميزان الذهب. درويش يهزم مؤسسة النشر هزم محمود درويش مؤسسة النشر العربي، وصار الى جانب شعراء قلائل من الذين يعيشون من شعرهم وابداعهم بعد أن تحولت الكتابة عنده الى مهنة في وقت مبكر، إذ هو الشاعر العربي الوحيد الذي صدرت له الأعمال الكاملة وهو لازال شابا في عقد الثمانينات من القرن الماضي. نفس الشيء ينطبق على الشاعرين نزار قباني( في بيروت ينشر في دار شر خاصة به تحمل اسم "منشورات نزار قباني") ،وأدونيس (اشتغل أستاذا جامعيا أيضا)، خلافا لما حدث مع معظم الشعراء العرب. إن العمل الإداري عدو للإبداع وهذا ما حدا بنزار قباني أو محمد شكري الى الإستقالة من الوظيفة للتفرغ للكتابة، وكانت تجربة ناجحة بامتياز، إذ من النادر اليوم أن نجد شاعرا عربيا يعيش من عائدات كتبه وتجربته الشعرية كما حدث في تجربة محمود درويش الذي نشر ملايين النسخ من دواوينه على مدى خمسين عاما. وكان نجما ينافس نجوم الغناء والسينما. درويش يتمرد على مؤسسة الزواج الخوف من المسؤولية هو ما حمل محمود درويش على الانسحاب من مؤسسة الزواج. بعد أن اقتنع باستحالة اجتماع الشعر والزواج تحت سقف واحد أو تحت بيت واحد. لقد عاش بلا حب بعد أن فرقت البندقية بينه وبين "ريتا"، معشوقته اليهودية التي لم تظهر الا بعد موته. فحبيبته مارست حقها في ممارسة السياسة عبر التجنيد في جيش إسرائيل، وهو اختار طريقه "الطويل" وأقسم على السير فيه حتى النهاية: "سأقطع هذا الطريق الطويل الى آخري أو الى آخره." ولم يعتبر ضياع حب ريتا خذلانا ولا خيانة، بل اعتبره قدرا لابد منه. يقول: "لا قَلْبَ للحُّبِّ.. لَا قلْبَ للحُبّ أَسْكُنُهُ بَعْدَ لَيْلِ الْغَرِيبَةْ.." عندما يهزم درويش السلطة أحس محمود درويش بخذلان السلطة السياسية له، مما حمله على الانسحاب من المعترك السياسي و" ترك الحصان وحيدا"، بعد أن فشلت كل محاولات ترويضه للدخول الى اسطبل السلطة، وهو الذي ضحى بحياته (وحبه) من أجل قضية/فكرة مطلقة تحولت إلى سلطة نسبية تقبل باقل الحلول، وتشرعن الاحتلال وتطبع معه. لقد هزم السلطة عندما استقال من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت الى عراب سلطة غزة أريحا 1994. وغرد الفارس خارج السرب وكتب أجمل القصائد في تاريخ تجربته، واصدر عدة دواوين منها "لماذا تركت الحصان وحيدا" ثم "ورد أقل"،"أثر الفراشة"....الخ. وختم تجربته ب"الجدارية" وهي ملحمة شعرية لم يسعفه الموت ليكملها عندما دق قلبه بعنف بعد توالي الصدمات والحصار وظل يردد بالم: "غدنا ليس لنا". وكان القلب"دليله" الى أن إمتلأ الشاعر "بكل أسباب الغياب" وودع البحر والهواء قائلا: "هذا البحر لي هذا الهواء الرطب لي" لكنه خلص الى القول كنبي على مشارف المقصلة: "أنا لست لي أنا لست لي" وفي قصيدة أخرى قال: "كُنْتُ أَمْشي إلى الذّاتِ في الآخِرِين، وها أنَذَا أَخْسرُ الذاتَ والآخرينَ، حِصَانِي عَلَى سَاحِلِ الأطْلَسِيِّ اختفَي وحصَانِي عَلَى سَاحِلِ المُتَوسِّطِ يُغْمدُ رُمْحَ الصَّليبيِّ فيّ. مَنْ أنا بَعْدَ لَيْل الْغَرِيبَةِ؟" سيبقى محمود درويش خالدا، وقد عاش لنا ولمحبيه وغاويه ولقضيته العادلة: فلسطين، واهم قضية له بعدها هي قضية الشعر. وقضية اللغة العربية التي ساهم في تجديد أساليبها الشعرية وصارت عبارات من أقواله الشعرية مضرب الأمثال: فكلما سمعنا عبارة "على هذه الارض…يخيل الينا أن الصدى يردد الباقي: "…ما يستحق الحياة". ومن طرائف ذكرى رحيل محمود درويش أن مهرجانا للثقافة الأمازيغية ( تويزا) بمدينة طنجة المغربية اتخذ شعارا له في دورته الأخيرة مقطعا من شعر محمود درويش: " على هذه الارض ما يستحق الحياة" ان عبارات محمود درويش الشعرية أصبحت تشبه في شهرتها بعض أمهات أبيات الشعر العربي القديم وبعض آيات القرأن، ويخيل إلي أن محمود درويش رسول بلا رسالة، فشعره وحي يوحى من سديم الثقب الاسود في الأعالي. سننتظر ألحان مارسيل خليفة لقصيدة "الجدارية" لكي نستمتع بالإيقاعات الروحية لمحمود درويش، الذي بالمناسبة، هزم حتى الموسيقى لانه ،والعهدة على الفنان مرسيل خليفة، الذي قال إنه كان يجد قصائد محمود درويش ملحنة ولا يقوم الا باتمام العملية التلحينية وكتابة الموسيقى واعداد التوزيع. ….. والمحقق أن محمود درويش لم يترك للشعراء من بعده ما يقولون أويكتبون مبنى ومعنى. محمود درويش ليس لمحمود درويش، بل لنا جميعا وللتاريخ الذي أنصفه وخلده كواحد من أكبر شعراء اللغة العربية. وأحد الشعراء العالميين الذين أنتجتهم هذه اللغة عبر تاريخها. فمن يكتب الجزء الاخير من جدارية محمود درويش!؟