هذه المقالة كتبتها في زمن فارط، ولان الوضع العربي، أنظمة ومجتمعات، لم يتغير كثيرا، ولم يخرج بعد من تداعيات الفتنة الكبرى التي مرت عليه في خضم ما سمي "بالربيع العربي"، إرتأيت نشرها لدوافع شتى، من أهمها، أن الأيديولوجيات السائدة في الأنظمة والمجتمعات العربية اليوم تشتغل في نقد تجارب الماضي، وفي كل القضايا، وباسم التجديد، على غرار المثل الفرنسي "رمي الطفل بغسيله! " وليس غريبا بعدها، في أنها غيبت وتنكرت في أغلب أحوالها للمسألة القومية، كمنظور تقدمي تحرري. ولأنها كذلك، فلن تستطيع الخروج من تخبطاتها في الأوحال الفتنوية القطرية الأكثر ارتدادية عما عاشته في الماضي، سواء في علاقاتها الدولتية البينية أو في علاقاتها الداخلية بين مكوناتها الكيانية المحلية. والمثير في هذا الواقع، أن التحولات العالمية الجارية، وكما تلوح في الأفق القريب، ماضية نحو عالم جديد متعدد الأقطاب، يتيح لها، ويفرض عليها، أن تعيد الاعتبار للمسألة القومية ولكل قضاياها المشتركة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية ، بوْصلتها المركزية نحو النهوض والتحرر القوميين، ورافعة لها جميعا للتقدم ولاستثمار الفرص القادمة لهذه التحولات العالمية الجارية. هذه هي الروح العامة لهذه المقالة، وأنا أدرك جيدا أنها لم تستوف منهجيا الموضوع من كل جوانبه، ولكنها تنبه إليه، وتحث عليه. 1 القومية العربية اليوم، في مفصل تاريخي ومفترق طرق، إمّا أن تكون أو لا تكون. في منتصف الستينيات قرأتُ للراحل ياسين الحافظ تعريفا للقومية العربية، مازلتُ إلى اليوم أعتبره أساس رؤيتي لهذه المسألة. يقول الراحل «القومية العربية هي حركة الشعب العربي الهادفة إلى التحرّر من البنية الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، ومن النفوذ الاستعماري، وبناء مجتمع عربي جديد ودولة عربية موحّدة، فالوحدة العربية الديمقراطية الثورية هي التجسيد الواقعي للحركة القومية العربية». الجوهري عندي في هذا التعريف، انه يُخرج «القومية» من كينونتها الموضوعية (اللغة والأرض وغير ذلك) ليربطها بكينونتها الذاتية، أي بالممارسة والوعي والإرادة، المتجليّة في نضالات الحركة الشعبية من أجل الوحدة. فإذا ما انعدم هذا الفعل، أو تراجع إلى الحضيض، فإن العروبة ستبقى، ولكنها ليست قومية بعد. المسألة هنا أبعد من مشاعر التشاؤم أو التفاؤل، وإن كان التفاؤل سلاحا لابدّ منه لكلّ مناضل، وعلى الرغم من تقديره لضخامة التحدّيات والمخاطر. ولنا مثال في أكبر أيديولوجية في التاريخ المعاصر، والتي ُوُسمت في ذروتها ب «الخلاصية» وبفلسفة العصر، وكانت إيديولوجيا مشبعة بالتفاؤل حول مستقبل البشرية على يد الطبقة العاملة « المخلّصة». ومع ذلك، كان مؤسّسها يقول عن هذه الطبقة التي حمّلها «رسالة الخلاص» «إما أن تكون أو لا تكون». ذلك لأن العقل الجدلي الماديّاني يرفض أن يكون للتاريخ (والتقدم) مسار واحد حتميّ التصاعد: حتمية ميكانيكية، أو وضعانية، أو مثالية. ولأن العقل الماديّاني الجدلي يأخذ الصيرورة في التاريخ (التي هي قانونه المطلق) كوحدة جدلية بين الأضداد، لا تنفصل إطلاقا عن الفعل البشري كيفما كانت الشروط الموضوعية المادية الحاكمة كمحدّد نهائي له. ولقد بينت لنا التجربة الإنسانية بعد ماركس المسارات الملتبِسة والمتناقضة التي اتّخذها الرهان على الطبقة العاملة، بل أبانت التجربة التاريخية أن الطبقة العاملة بالخصائص التي كانت عليها في زمنه، أضحت هي نفسها في ديناميّة الثورة التكنولوجية الحديثة طبقة انتقالية أيضا. المسار التاريخي إذن لا يعرِف إلّا الصيرورة في جدليتها الدائمة بين وحدة أضدادها. وليس ببعيد عنّا أن هذه الصيرورة اليوم في زمن العولمة، تقدّم لنا في الآن نفسه نُزُعا للوحدة القومية، وما فوق القومية، ونُزُعا مضادة في الانفصال والتفكّك للأمم ولتكتلات أخرى. المشهد العربي في هذا السياق تُهيمن عليه النُزُع المضادة الذاهبة إلى تفكيك الأقطار ذاتها، فبالأحرى تثمير روابطها القومية الموروثة عن الماضي، والتي لم تُفعل قط بما يكفي لإنتاج حاضرها ومستقبلها. إذ منذ مرحلة الذروة في المدّ القومي زمن عبد الناصر تواصل أزيد من أربعة عقود من التخريب المضطرد لكل الروابط القومية. وكان الهاجس الأكبر تكريس الانعزالية القطرية المحكومة قطعاً بالتبعية وبالتخلّي عن الأهداف الكبرى للحركة القومية التحررية والوحدوية. وما كان ذلك – ومن بين عوامل أخرى- إلاّ بعد أن أمسكت قوى عربية إقليمية أقرب إلى «البداوة» الفكرية والسياسية بزمام المبادرة في تقرير مصير الوطن العربي، وكان إستهدافها الوحيد تكريس التجزئة والتبعية المطلقة. أمّا تلك التي وصلت إلى السلطة من مواقع قومية سابقة، وبقي لديها بعضٌ من النفس التحرّري، اضطرت واختارت زواجاً «كاثوليكياً» مع مصالحها القطرية الضيّقة. أليس مُدهشاً وباعثاً للتفكير العميق أن يكون الصراع بين جناحَيْ البعث في سوريا والعراق أشدّ ضراوة من تناقضاتهما مع القوى الأجنبية والعربية الأخرى؟ كيف تغلّبت مصالح السلطة القطرية عند هذا أو ذاك على الأيديولوجية القومية لديهما !؟ ودون أن نتطرق إلى فشل كل المحاولات الوحدوية الثنائية والثلاثية والجهوية، و من بينها الإتحاد المغاربي الجامد في أغلب عهده. وقد يكون إستثناءً الاتحاد الخليجي إلاّ أنه ظل تحالفا سياسيا وأمنيا أكثر منه منصة لاندماج وحدويٍ، ويتعرض هو الآخر لهزات تكاد تفك أوصاله. ومن نافل القول إن قصور الحركة القومية وتراجعها، كان في بعض جوانبه الذاتية ناجماً عن عَور في الإيديولوجيا القومية التي حملتها، ولعلّ في المحنة القائمة ما يزيدنا اقتناعاً بالخُلاصتين التاليتين: أولا: أمام هذا الواقع الدرامي والدامي المليء بعوامل الانسحاق والتفكك، تعود بنا الذاكرة إلى المناقشات النظرية التي غطت عقود الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات حول وجود الأمة أو عدم وجودها، وهل هي أمة مكتملة أم في طريق التكون، وهل الأقطار القائمة أمم تتكوّن؟ وهل النقص في العامل الاقتصادي المشترك يُسقط عن العرب مقولة الأمّة؟ وما هو دور العامل السياسي في تشكّل الأمّة وردم نقصها الاقتصادي؟ وأي طبقات في مصلحتها الوحدة ومن هي ضدّها؟ وقضايا أخرى مرتبطة ومتفاعلة مع هذه الأسئلة والاستراتيجيات المنبثقة من اختلاف أجوبتها. لست في وارد القيام بمراجعة منهجيّة وشاملة لأطروحات تلك المرحلة، وما احتوته أحياناً من توتولوجيا غير مجدية إذا ما نظرنا إلى واقع الأمّة اليوم، وهي في حضيض لا سابقة له. ويكفي مثلاً، هل وجود الأمة يتنافى مع أنّها في طريق التكوّن، أليس الوجود تكوّناً مستمراً؟ و إذا كان النقص في العامل الاقتصادي أو «السوق المشترك» نقصاً بنيوياً معيقاً للصيرورة التكوينية، أليس أمره إشكالاً سياسياً إجتماعياً في الدرجة الأولى؟ الجدير عندي بالاهتمام، أن الإشكال ليس في وجود الأمة أو عدم وجودها، بل في ما هو عليه هذا الوجود، أي في حالته وكيفه، بين أن يكون وجوداً تقليدياً لأمة تقليدية ومتأخرة، وبين أن يكون وجودا لأمة حديثة تتفاعل مع عصرها. وحتى العناصر المكوّنة للأمّة، والتي لا خلاف عليها (اللغة والأرض و غيرهما) ينبغي النظر إليها، لا باعتبارها موروثاً طبيعياً، وإنما بحسبانها مقوّمات خاضعة لعملية التحديث، من أجل لغة ذات سيادة وطنية نافذة و مطواعة لكسب العلم والمعرفة، وللتحديث الثقافي، و كل الوجوه الأخرى الرقمية والتواصلية. وكذلك الأرض ليست إمتدادا جغرافيا طوبوغرافيا بحتا، بل قيمتها القومية في النظر إليها من خلال علاقاتها الكلية : بإنماءِ توازناتها البيئية الضرورية، وبعمليات الإنتاج التكاملي المقام عليها بما فيه الأمنُ الغذائي، وبشبكات البنيات التحتيّة الواصلة بينها، وبالدور الجيوبوليتيكي في الساحة الدولية بما فيه الأمن القومي، وبتطور الاندماج الإجتماعي في حرية التنقل و الإقامة و العمل و غير ذلك. وقس على ذلك تحديث كل ما هو ثقافي وحضاري موروث ومشترك، وإلّا تجّمدت الأمّة في تأخُرها وتقليديتها، وكلّما نقص «الوجود» الحيّ، تقّدم «العدم» القاتل. وهذا ما ينطبق على الإتحاد المغاربي كما ينطبق على الإتحاد مع بقية الوطن العربي في مجموعه، فكلا الاتحادين قضية قومية واحدة من نفس الدواعي والخصائص والأهداف. وبهذا المعنى، فإنّ الخيار القومي مشروع تحرريٌ تقدميٌ مستقبليٌ أكثر مما هو معطيات موروثة قائمة سلفاً. 2 تُظهر لنا الفتنة الكبرى الجارية في الوطن العربي فداحة التأخّر والفوات الثقافي اللذَيْن كان المجتمع التقليدي ذو القشرة الحداثية يبطنهما في أعماقه، وفي كل بنيانه المعماري. ولعلّ من أبرزهما هذا الانبعاث النكوصي الذي امتدّ في الزمن لثقافات دينية جامدة وغابرة، لا فرق فيها جوهريا بين الملساء والمتوحّشة الدامية. وإلا ما كان لهذه الأخيرة أن تولد لولا الجمود المزمن للأولى على نفس المرجعيات والمنهجيات الفكرية التقليدية. هذه الثقافات الدينية، التي تحوّلت إلى أيديولوجيات سياسية، وغذتها أغلب السلطات المحلية لحسابات ضيقة، أحدثت انقسامات واستقطابات مذهبية وطائفية عادت بالسويّة الاجتماعية إلى أزمنة خلت ، وأحدثت من جهة أخرى انبعاثاً مقابلاً أخرج إلى السطح السياسي كل البنيات الاجتماعية التقليدية من عشائر وقبائل واثنيات ومناطقية، ما جعل وحدة الوطن والكيان في أدنى مستوياتهما. الظاهرتان تبيّنان الطابع التقليدي العميق الذي مازال يستبد بالمجتمعات العربية، وبالأمّة جمعاء، على الرغم من كلّ محاولات الاستنهاض السابقة والجارية. وإذا كان الأمر سيحتاج الي تقديم رؤية نقدية شاملة، فلا مراء عندي في أنَّ أولى القضايا التي تستدعي النظر الفاحص والعاجل لأنها المشترك في هذه الفتنة الكبرى ليست سوى قضية الاصلاح الديني، إنّها معضلة ثقافية سياسية قائمة بذاتها، وتحتاج الى تصور نظري ومشروع عمل يتناول كل القضايا التي يتدخّل فيها الدين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والاعلامية، فلا تجدّد حضاري من دون هده الوقفة المركّزة على الاصلاح الديني من جانب الدولة وقوى التغيير والتقدّم كافة و من بينها التيارات الإسلامية المتنورة المعتقد. ثانيا: من أهم قضايا العور السابق في الفكر القومي، والأكثر تقدّماً، انه ركّز على دولة الوحدة المستقبلية، وأهمل التفكير في أهلية الدولة القطرية القائمة وشرعيّتها وتاريخيّتها، بينما أسهب في التنظير النقدي للتجزئة بين ماهو تاريخي منها وما هو مصطنَع من قبل الاستعمار. وفي الحالتين بيَّن، كيف صارت التجزئة عنصراً بنيوياً من عناصر التبعية وآلية من آليات النظام الإمبريالي، وبقيت الدولة القطرية دائما العنصر العابر أو الثانوي في التنظير لدولة الوحدة المرتقبة. وفي مقابل ذلك كان وما يزال الهاجس النظري والسياسي لدى الحركات الإسلامية يثوق جاهدا إلى البناء على ظلال مجتمعية بقيت راسبة و متخثرة من صيرورات « دولة الخلافة» ليكرس قدسية ماضيها التاريخي عبر قياس بات مستحيلا بين دولة الخلافة و الدولة المعاصرة. هكذا كان الوضع الأيديولوجي الذي يهمّنا الى زمن قريب. وما أودّه من هذا التذكير القولَ، بأنّ الفتنة الكبرى الجارية في الوطن العربي، والتي وضعت الدولة قاب قوسين أو أدنى، هي نفسها، ومن واقع التجربة المريرة، قد حسمت نهائياً في التردد بين دولة الوحدة- المثل، ودولة الواقع. فلا وصول لتلك إلاّ عبر هذه القائمة على الأرض، وبالشكل الوحدوي الذي يتناسب مع تفاوتاتها واختلافاتها، وإلاّ لا شيء آخر في غياب الدولة القطرية سوى الفوضى والانهيار المجتمعي. غير أنّ هذا الطرح الذي بدأ الشعور به مند يسير من الزمن ، نما في أجواء الانكفاء الإقليمي بوجه عام ، وتراجع المد القومي ، وانتعاش الفكر الليبرالي المقولَب في المشروعات الإمبريالية. وهذا الطرح السائر نحو قطرية انعزالية تامة وليبرالية تبعية معولمة، ما عاد يعير اختيارا ليس للأفق القومي فحسب، بل وللمسألة الوطنية، بما فيها الدولة الوطنية بالتحديد. ولذلك غدونا نرى أنّ ما كان من قبل من المحرمات القاطعة في التفكير الوطني والقومي، صار جائزاً ومقبولاً ومرغوبا فيه. وقد رأينا تحالفات للمعارضة في ما سمي بالربيع العربي مع قوى خارجية إمبريالية ورجعية لا تخفي أجندتها المعادية للتحرّر, و فقط من أجل الوصول إلى السلطة وإقامة النظام الديمقراطي المزعوم. لا يفوتني في هذا المقام، الإشارة إلى أن العديد من المفكرين العرب، عندما انتبهوا في تحاليلهم الاجتماعية البنيوية المغلقة لمكانة الدولة ودورها، أفرطوا في إظهار مساوئها وتخلفها وعزلتها عن المجتمع، واضعين إياها في مصاف «عدو المجتمع» بالنص الصريح أو الضمني. وكما ورد عند أحد المفكرين الذي تحول فجأة إلى زعيم سياسي «لثورة» عليها أكثر من سؤال! و إذا كانت الدولة توصف بعدوة المجتمع، فتحطيمها هي والنظام والسلطة سواسية، يبدو تدحرجا بديهيا ومنطقيا عندما تندلع الفتنة…أليس هذا هو الخراب الفوضوي بعينه! ؟ هذه الظاهرة المتكرّرة في العديد من البلدان العربية تجعلنا نشدّد على أن الديمقراطية ، ولئن كانت هي الأرضية الصلبة التي تقوم عليها الدولة الحديثة ، هي أيضا نتاج عضوي نابع من تطور تَناسُب القوى داخل المجتمع لمصلحة قوى التقدّم والديمقراطية، سواء أكان النظام مستبدّاً أم كان منفتحاً، وكلّ استعانة بالقوى الخارجية ضدّ الدولة لتعويض العجز الداخلي الذاتي في تأهيل المجتمع الديمقراطي قد تنجب سلطة بديلة، لكنّها لن تُثمر ديمقراطية حقّة تنبني على المصالح الشعبية الأوسع في العدالة الاجتماعية و التحرر الوطني. وهذا إن لم تفض إلى فتنة داخلية عالية التكلفة، والى انحلال أو تقهقر شامل للدولة والمجتمع معا. التداخل عندنا، كبلدان متأخّرة، بين السلطة والدولة شديد التعقيد، لأنه لم يرق بعد إلى ذلك الهامش الموسع من الاستقلالية بين السلطة والدولة الذي بلغته الدول الديمقراطية المتقدمة. وبفرض هدا الوضع الملتبس والمتداخل والمعقد في مجتمع غير مسيس في معظمه، ومروّض عبر قرون على ثقافة تقليدية تعول على « الرعاية من فوق» ، الكثير من الحذر والتبصّرالاستراتجيين. إن الهبّات والانتفاضات الشعبية العفوية على أهميتّها في التطورّ الديمقراطي، لا تختزل كلّ ما هو مطلوب في الانتقال الديمقراطي. فقد تُحقق هذه الهبات والانتفاضات طفرةً ما في بنية السلطة، لكنها لا تنوب عن موازين القوى المهيكلة وذات الوضوح البرنامجي والقادرة على التعبئة الشعبية العريضة، والمُستدامة، لمصلحة اطّراد النماء الديمقراطي وانجاز مهمات الانتقال الديمقراطي في عمقه الشعبي و الثقافي و التنموي. أليس هذا هو الدرس المتبقّي لنا في أفضل حالات ما سُمي ب «الربيع العربي». أمّا أسوأها، لعدميتها الوطنية، فهي خارج هذا الموضوع، وعلى النقيض منه. 3 عود على بدء: القومية العربية في وضعها الراهن تقف على مفترق الطرق ، وكأن أغلب المعطيات تنمو في غير صالحها … ومع ذلك ، فهي مرحلة من مراحل التطور لا غير. ولأن موازين القوى ، وبمعناها الأشمل والأوسع ، قابلة للاستدراك و التغيير، ما دامت هناك أمة عربية ذات إمكانيات بشرية ومادية وذات رصيد حضاري هائل ،يؤهلها ويضغط عليها نحو التقدم. ولا إمكانية للتقدم في عصر التكتلات الكبرى، القومية وما فوق القومية، إلا باستثمار هذه الإمكانيات وهذا الرصيد الحضاري في الاتجاه القومي الوحدوي، وما عداه هو تكريس للتبعية والانحلال والتخلف ، وحتى إن بقي في هذا الوضع التراجعي واحد في المائة، فقط، لصالح التقدم الوحدوي ، فالرهان عليه للمستقبل هو الموقف الراديكالي والعقلاني والتقدمي الصحيح ، لأنه يواكب العصر وأفقه التاريخي.