في الكتلة التاريخية وأسئلتها1 /2 في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وتحت وطأة فشل المحاولات المتكررة للخروج من الأزمة الحضارية الشاملة التي يعاني منها العالم العربي منذ قرون، أقدم م. الجابري (1936 2010) على نقد عام للفكر العربي المعاصر في علاقته بالواقع التاريخي، فتبين له أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا الفشل المزمن هو التنازع المرهق بين التيارات الإيديولوجية الأربعة الرئيسية، الليبرالية والقومية والاشتراكية والإسلاموية، التي سادت هذه المنطقة من العالم، وادعاء كل واحد منها بأنه هو الوحيد القادر على حل الأزمة دون غيره بعد أن وقف الجابري على إفلاس التصورات المذكورة، وعجزها منفردة على القيام بالتغيير المنشود للخروج من المأزق التاريخي الشامل، إما بسبب تحليلها المنحاز أو باستيعابها الناقص للمتغيرات المحيطة بها، أو بحكم انتسابها لأنظمة ثقافية وإيديولوجية عاجزة عن الاستجابة للتحديات الجديدة، أو بسبب انشقاقاتها وصراعاتها السكولائية التي لا طائل من ورائها. لاحت له فكرة الدعوة إلى تكوين «كتلة تاريخية» بين كل، أو جل، القوى الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية والنقابية والثقافية والدينية، بعد أن تتغاضى مرحلياً عن تناقضاتها الأساسية والثانوية. في الظاهر يبدو مطلب «الكتلة التاريخية» سهل المنال. إلا أنه عند تقليب النظر في مضامينه وشروطه وغاياته يظهر أنه صعب التحقيق، لا سيما وأنه يتطلب مراجعة ونقداً ذاتياً شاملين، وربما يقتضي نوعاً من التخلي عن الأحكام والمفاهيم والتصورات والمواقف والاستراتيجيات السياسية والإيديولوجية والثقافية والفكرية الموروثة والمستحدثة التي تتحكم في الوجدان والتفكير والسلوك العربي الحديث. ومن المعلوم أن المفكر والقيادي في الحزب الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشيAntonio Gramsci (1891/ 1937) هو أول من روّج في العقود الأولى من القرن العشرين لمقولة «الكتلة التاريخية»، بعد أن استعارها من المفكر والفيلسوف الماركسي الفرنسي جورج سورل Georges Sorel (1847/ 1922) وقد نادى غرامشي بالكتلة التاريخية في سياق استثنائي، هو حشد أكبر عدد من القوى الوطنية والنقابية والثقافية الإيطالية لمواجهة ظاهرة ثقافية وسياسية مَرَضية، هي ظاهرة الفاشية، بعد أن تيقن من استحالة التغلب عليها عن طريق نضال حزب واحد أو حتى عن طريق نضال جبهة من الأحزاب. ولأول وهلة يبدو مفاجئاً أن يصدر هذا المفهوم، «الكتلة التاريخية»، عن مفكر وقائد ماركسي كالصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا والحزب الطليعي الذي كان يرأسه الخ.. بل ربما هو دعوة غير مباشرة للتخلي حتى عن مفهوم المثقف العضوي المرتبط باسم غرامشي، مما أضفى على هذا المفهوم كثيراً من القلق والغموض. المعاني وقد اتخذت «الكتلة التاريخية» عدة معان يمكن حصرها في معنيين وصفي ودينامي. المعنى الوصفي يشير إلى ائتلاف واسع من عدة طبقات وفئات وشرائح اجتماعية وقوى وتيارات سياسية واقتصادية وثقافية تدور في فلك طبقة أو فئة رئيسية سائدة بسبب نفوذها الاقتصادي أو الديني أو الثقافي، كما كان الحال في القرون الوسطى وعصر النهضة، حينما كان الإقطاع يحكم بتحالف مع الكنيسة وطبقات أخرى. وحتى في معناها الوصفي لا بد أن يكون «للكتلة التاريخية» رؤية استراتيجية جديدة قادرة على توحيد كل بنيات المجتمع وقواه حول هدف واحد. وتلعب الإيديولوجيا أو الثقافة دوراً حاسماً في صياغة هذا التوجه وتمتين الوحدة بين مكوناته. أما المعنى الدينامي «للكتلة التاريخية» فهو وليد مبادرة من زعيم أو مجموعة من الزعماء أو القوى السياسية لخوض نضال واع لاستحداث كتلة تاريخية جديدة تكون بديلة للكتلة التاريخية الموجودة التي برهنت عن عجزها على التغلب على عدو مشترك يهدد وجود الأمة، أو تقاعسها عن الإقدام على حل أزمة حادة وشاملة ترهن مصير الدولة. ولكي تتمكن «الكتلة التاريخية» الجديدة من الهيمنة التاريخية على الفضاء التاريخي، سيكون عليها أن تبتكر رؤية جديدة للعالم قادرة على التعبئة والإقناع، وأن تقوم بمبادرات خلاقة لتطوير المجتمع والدولة ككل، كما سيكون عليها أن توفر أسباب السيطرة الاقتصادية والسياسية. وهذا معناه، كما سنرى، أن البنية العليا تلعب دوراً حاسماً في تكوين «الكتلة التاريخية» لتوجيه التاريخ توجيهاً جديداً. ونفهم من هذا أن «الكتل التاريخية» ليست بنية ثابتة، بل هي في تغير مستمر، لأنه في كل حقبة تنشأ حاجة خاصة لإنشاء كتلة تاريخية جديدة، وذلك حينما تنهار شروط وجود الكتلة التاريخية القديمة ممهدة بذلك لنظام اجتماعي جديد يفرض سيادته الطبقية على باقي الطبقات بقيادة فئة المثقفين. هكذا يبدو التاريخ عبارة عن سلسلة من الكتل التاريخية، تحل الواحدة منها محل الكتلة التي فقدت صلاحيتها التاريخية، أي التي فقدت هيمنتها على الطبقات والفئات الأخرى. ومعنى أن تتعدد الكتل التاريخية بتعدد الحقب التاريخية، أن أهدافها التاريخية تتجدد، مما يجعلها تتخذ أسماء مختلفة بحسب الغاية التي تقصدها والطابع الغالب عليها. هكذا يمكن أن نتكلم عن «كتلة إيديولوجية». و»كتلة ثقافية». و»كتلة فلاحية»، و»كتلة اجتماعية»، كما يمكن الكلام، كما فعل غرامشي، عن كتلة وطنية شعبية تقوم في مواجهة كتلة كاثوليكية إقطاعية، وعن كتلة عالمية، هذا فضلاً عن «الكتلة التاريخية». ويقدم لنا التاريخ المعاصر في أوروبا وأميركا اللاتينية وإفريقيا والعالم العربي الإسلامي عدة أمثلة عن قيام كتل تاريخية لإنجاز مهام إستراتيجية في بلدانها. فقد كان مطلب التعددية السياسية والنقابية في وجه احتكار الحزب الواحد لمجال السلطة السياسية في بولونيا، هو الذي عبّأ البولونيين حول نقابتهم المعارضة في غدانسك لتكوين كتلة تاريخية لإطاحة النظام، كما كانت مقاومة نظام الميز العنصري سعياً وراء الحصول على مواطنة متساوية مع البيض هي التي دفعت سكان جنوب إفريقيا الأصليين إلى تكوين كتلة تاريخية لتقويضه؛ ولا ننسى أن مطلب إنهاء الديكتاتوريات العسكرية في كل من البرتغال وإسبانيا وبعض بلدان أميركا اللاتينية هو الذي عجّل بتكوين الكتلة التاريخية فيها. ولعل انتفاضات الربيع العربي لها شيء من معنى الكتلة التاريخية، خصوصاً وأنها أسقطت أنظمة كانت تشترك في الاعتقاد أنها أبدية. فيكون فصل الربيع العربي أنه أعاد للزمن وللتاريخ، حرمته وتقديره. وانطلاقاً من هذه المعاينات نستخلص بأنه لا يمكن أن يكون في البلد الواحد وفي الزمن الواحد سوى كتلة تاريخية واحدة، وإلا تناقضت مع دلالتها الأصلية. فالكتلة التاريخية لا يمكن أن تتفرع أو تنقسم إلى أشباه كتل، اللهم إلا إن أخذناها بالمعنى الوصفي، لا بالمعنى الحركي الذي هو إطار برنامجي معبئ لكل مكونات المجتمع من أجل تحقيق هدف واحد تجمع عليه الأمة. وقد فاجأنا م. الجابري حينما تبنى مفهوم «الكتلة التاريخية» في الثمانينات من القرن الماضي انطلاقاً من ظرف تاريخي مباين تماماً للظرف «الفاشي» في إيطاليا الذي أملى على أ.غرامشي طرحها في العقود الأولى للقرن العشرين. فحينها لم نفهم لماذا أبى الجابري، في السياقين المغربي والعربي، إلا أن ينتقل من شعار «الكتلة الوطنية الديمقراطية» و»الجبهة التقدمية والاشتراكية» إلى شعار «الكتلة التاريخية». لم نفهم لماذا انتقل من مطلبي الديمقراطية والاشتراكية المحددين إلى مطلب التاريخية العام والمبهم؟ هل الأمر يتعلق بتعبير عن إرادة للتراجع عن روح الحداثة والتنوير، أم أن كل ما كان يهمه هو خلق وضعية ثورية قادرة على الانتقال بالوطن الخاص (المغرب) والوطن العام (القومي) من وضع الخمول التاريخي إلى مستوى تاريخي جديد؟ وإذا سلمنا بمشروعية المطلب الأخير، هل يكفي فقط سلوك الطريق السلبي لتحقيقه. وهو التحرر من التبعية للإمبريالية. أم ينبغي قبل كل شيء سلوك الطريق الإيجابي وهو البناء السياسي (الديمقراطية) والاقتصادي (التنمية) والاجتماعي (العدالة) للدولة والأمة؟ وقبل هذا وذاك، ما هي مكونات «الكتلة التاريخية» التي يقترحها: هل تتكون من مجموعة محددة من الكتل، كالكتلة الوطنية الديمقراطية والكتلة اليسارية والكتلة المخزنية (التي تجمع بين القوى الحداثية والقوى التقليدية)، أم ينبغي أن تنفتح كل القوى والتيارات السياسية والإيديولوجية والنقابية والثقافية، أم أنه من الضروري استثناء القوى المعادية للحداثة والاستقلال عن الامبريالية؟ وأخيراً، هل كانت دعوته إلى «الكتلة التاريخية» نابعة من حاجة داخلية ملحة، أم صادرة عن نزوة نظرية تكون مناسبة ليجرب فيها قدرته على تبيئة وتعريب مفهوم نظري استعمل في الأصل لتحليل وتعبئة سياق سياسي وتاريخي لا علاقة له بالسياق العربي الإسلامي؟. سنحاول فيما يلي من الكلام معالجة هذه الصعوبات قدر الإمكان من خلال أربع فقرات، تتناول دواعي وتركيب ومهام الكتلة التاريخية بالإضافة إلى الدور القيادي للثقافة. الفشل التاريخي وراء الدعوة إلى الكتلة التاريخية كما مر بنا، استعار الجابري مفهوم «الكتلة التاريخية» من غرامشي. غير أنه كعادته في تعامله مع المفاهيم التي يستعيرها من الفكر الحداثي، سعى إلى تعديلها دلالياً حتى تصبح ملائمة مع شروط الوضعين المغربي والعربي. ولأنه كان فاعلاً سياسياً وثقافياً، فقد فضل استعمال المعنى الدينامي لمفهوم «الكتلة التاريخية». أي المعنى المطلبي، تاركاً المعنى الوصفي الذي يشير إلى وجود كتل تاريخية في كل حقبة تاريخية تحت قيادة طبقة اجتماعية مهيمنة. استعمل المعنى الدينامي لأنه معبئ للقوى السياسية والجماهير الشعبية. وتفضيل الجابري نعت الكتلة «بالتاريخية» بدل نعتها «بالديمقراطية» ليس دليلاً على تخليه عن نزوعه الديمقراطي، أو تحلله من التزامه التقدمي وحلمه الاشتراكي لمصلحة تحالف كبير لا صورة سياسية ولا ماهية ثقافية وإيديولوجية له، وإنما كان اعترافاً منه بأنه لم يعد حبيس حيّز حزبي أو جبهوي معيّن، أو سجين كتلة ديمقراطية أو يسارية محددة، اعتقاداً منه أن هذه الأحياز لن تنفع في القيام بمهمة التغيير بمعناه القوي، أي التغيير التاريخي، بعد أن عجزت كل المحاولات السابقة. ومن أجل تأكيد اتجاهه الجديد في الانفتاح الواسع على كل القوى والتيارات السياسية، وجه الجابري انتقاداً لاذعاً لفكرة الطليعة (والحزب الطليعي)، معتبراً إياها فاقدة للمشروعية التاريخية، بل وحتى للصدقية العقلية متهماً أصحاب الفكرة بأنهم ممسوسون بمرض الأحادية الذي يوهمهم بأنه لا يوجد سواهم في العالم. وخلص إلى الحكم على كل من يعتقد أنه قادر على الخروج من الأزمة وحده بأنه فاشل لا محالة وأنه سينتهي بدوره إلى إعادة تجربة الحكم المستبد. ومع ذلك، فقد ترك خط الرجعة، حيث أقر بضرورة «أن يكون عندنا اليوم طليعة فكرية» لا حزبية، بسبب حاجة الكتلة التاريخية إلى قيادتها من الداخل. كان لجوؤه إلى تبني المقولة الماركسية «الكتلة التاريخية» وليد شعور باستحالة معالجة الوضعية المغربية والعربية في ثمانينات القرن العشرين بالأساليب والمفاهيم والشعارات المعتادة. وقد رد هذه الاستحالة إلى عامل ذاتي، وهو كما مر بنا، فشل التيارات السياسية الإيديولوجية الأربعة (الليبرالية والقومية والماركسية والإسلامية)، التي تعاقبت على الحكم أو سيطرت على العقول في العالم العربي. في فك قيد التبعية للغير الإمبريالي، وتقويض آلة الاستبداد المحلي، وتحقيق القفزة نحو النهضة والحداثة. وأرجع الجابري فشل تلك التشكيلات الاجتماعية والحزبية والنقابية في تحقيق أهداف التنمية والتحرير إلى ترهلها وانحلالها واستغراقها في انشقاقات وتنازعات داخلية لا تتوقف أدت إلى عطالتها التنظيمية والفكرية. وبدوره أسهم الفراغ الإيديولوجي في استفحال ظاهرة «التشرذم الفكري، والغلو الطائفي والديني والتعصب القبلي». بيد أن استحداث تشكيلة جديدة بديلة قادرة على استقطاب الجميع من أجل استنهاض الهمة، لا يعني انتهاء صلاحية تلك التشكيلات تماماً. بجانب هذا العامل الذاتي، عامل عدم القدرة على إنجاز القفزة النهضوية، تكلم عن عوامل خارجية أو موضوعية كانت وراء اضطراره إلى اقتراح مقولة «الكتلة التاريخية» يمكن حصرها في أربعة: - 1 أولها تبعية الأمة العربية للهيمنة الإمبريالية الغربية التي يصعب التغلب عليها، لأنها شلّت همة العالم العربي على النهوض الحضاري، الأمر الذي جعل العالم العربي اليوم «أشبه ما يكون بالوضع الذي كان عليه الحال زمن الاستعمار». مما يعني أنه لا أمل لتحقيق الاستقلال عن الإمبريالية من غير حشد أكبر تجمع بشري. - 2 العامل الثاني يتمثل في الطابع الاستراتيجي لبرنامج الكتلة، أو قل الطبيعية التاريخية لأهداف البرنامج. ذلك «أن الأمر لا يتعلق هنا ببرنامج مرحلي لجبهة من القوى، بل بأهداف تاريخية يتطلب إنجازها كما قلنا مراراً قيام كتلة تاريخية تضم أكثر ما يمكن من الشرائح والفصائل والنخب، لأنها أهداف لا تستطيع أية طبقة أو فئة أو حزب أو جماعة بمفردها القيام بها وحدها». - 3 العامل الموضوعي الثالث الذي حرّك الجابري إلى المناداة بالكتلة التاريخية هو الحق المهضوم الذي يعم الجميع باستثناء المستفيدين من القرب من مركز القرار والتنفيذ. - 4 العامل الرابع يتعلق بالبعد القومي للمطلب الوطني، سواء كان من أجل تحقيق التنمية القطرية، أو من أجل تحقيق نهضة شاملة على الصعيد العربي. فقد صار الجابري مقتنعاً بأن «التنمية القطرية أصبحت شبه مستحيلة من دون ارتكازها على بعد وحدوي، اتحادي، تكتلي، شراكي (ولا مشاحة في الأسماء)، تماماً مثلما أن تحقيق نهضة على الصعيد العربي ككل، مستحيلة من دون الانطلاق من الاعتراف بالقطرية، ككيان وخصوصية». التركيب التوافقي والشمولي للكتلة التاريخية أول سؤال يتبادر للذهن عند سماع اسم «الكتلة التاريخية» هو ما مدى شموليتها، ومن له الحق في الانتساب إليها؟ هل ينبغي أن تضم كافة الأطراف، بمن فيهم أولئك الذين يوجدون قريبين من مراكز القرار والتنفيذ في الدولة، أي من أعداء الأمس، أم أنها يجب أن تكتفي فقط باستقطاب التيارات المتجانسة والمتعاطفة مع الهدف المشترك للكتلة التاريخية؟ هل تسمح الكتلة التاريخية بوجود هوامش للاختلاف، أم أن قيامها على مبدأ التوافق (والإجماع) على الأهداف، يحرم المنضوين تحتها من التعبير عن اختلافهم؟. يحيل الحد الأول من المركب اللفظي «الكتلة التاريخية» في دلالته الأصلية على الجانب المادي الغفل من الشيء، أي على «المجموع غير المنظم منه». غير أن اسم الكتلة، عندما ينتقل إلى مستوى الاصطلاح السياسي بفضل إضافته إلى اسم «التاريخي»، يتخذ معنى الكل السياسي الاقتصادي الاجتماعي المنظم حول هدف مركزي يطمح إلى تحقيقه. بهذا تجمع الكتلة التاريخية بين المادي والمعنوي، أي بين استقطابها لكافة، أو معظم، التنظيمات والقوى السياسية والاتجاهات الإيديولوجية والبنيات المدنية القائمة، وبين توجيه أهدافها نحو مشروع الوحدة الوطنية. في اقتراحاته المتعددة لتشكيل الكتلة التاريخية كان الجابري يحرص على أن لا يستثني أحداً منها، «لا أصحاب المال ولا الكادحين ولا الثوريين ولا حتى أولئك الذين هم الآن في مواقع السلطة ويشعرون بضرورة قيام نوع من التعامل الجديد مع شعوبهم ومع خصومهم، تحقيقاً لمشروع سيكون من أولى مهامه، لا تحقيق الوحدة العربية والإسلامية، بل الحفاظ على الوحدة الوطنية في كل قطر عربي، ودرء مخاطر التمزق التي تهدد العالم الثالث الآن بالعودة إلى نظام العشائر بدل نظام الدولة». والإلحاح على ضرورة استيعاب كل القوى الحية بالبلاد قدر الإمكان كان بدافع مبدأ التعامل مع «الواقع كما هو» لضمان الأسباب الذاتية لنجاح حركة تغيير التاريخ التي تنشدها الكتلة. أي الأخذ بالاعتبار الكامل جميع مكوناته، «العصرية» منها و»التقليدية». النخب منه وعموم الناس، الأقليات منه والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد... صفوف المصلّين». وعندما يطبق هذا المبدأ على الحالة المغربية، تصبح الكتلة التاريخية مكونة من أربع قوى «هي أولاً: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات والمجموعات المرتبطة بها من نقابات عمالية وحرفية وتجارية وفلاحية وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية... ثانياً: التنظيمات والتيارات التي تعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية التي يجب أن تفتح أمامها باب العمل السياسي المشروع كغيرها من التنظيمات... ثالثاً، القوى الاقتصادية الوطنية التي تشارك بنشاطها الصناعي والتجاري والزراعي والسياحي والمالي في خدمة اقتصاد البلاد ككل وتطويره وتنمية قدراته. رابعاً: جميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع بما في ذلك تلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة، والمقتنعة بضرورة التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف التاريخية المذكورة». «الكتلة التاريخية»، إذن، واحدة في غايتها، متعددة في مبناها. فبناؤها يقوم على رؤية شمولية جامعة لكافة القوى الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية، لا على رؤية إقصائية وتمييزية وتنازعية. ومن أجل تعزيز هذه الشمولية، دعا إلى تحويل المطالب الفئوية إلى مطالب الكل: «بدلاً من أن تكون هذه الأهداف السياسية والاجتماعية أهدافاً لحزب أو طبقة، تصبح في ظل الكتلة التاريخية أهدافاً للمجتمع ككل، وذلك عن طريق تحقيق «الإجماع الثقافي» حولها، هذا «الإجماع» الذي يشكل «لحام هذه الكتلة». هكذا تتحول الأهداف الطبقية والفئوية إلى أهداف وطنية عن طريق المثقفين. طليعة الكتلة التاريخية. غير أن «الكتلة التاريخية» رغم قدرتها الجامعة والتوحيدية، لا يجوز لها أن تصبح تنظيماً جديداً قادراً على إذابة كيانات الأحزاب والنقابات والتجمعات المدنية ومسمياتها في بوتقة وحدة تقوم مقامها. الكتلة جامعة للبنيات الحزبية القائمة، لكنها لا تحل محل التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية: «فهي لا تلغي الأحزاب ولا تقوم مقامها، ذلك لأن ما يجعل منها كتلة تاريخية ليس قيامها في شكل تنظيم واحد، بل انتظام الأطراف المكونة لها انتظاماً فكرياً حول الأهداف المذكورة والعمل الموحد من أجلها». بعبارة أخرى، لا نبغي أن تشير «الكتلة» إلى بنية حزبية تنصهر عناصرها في وحدة سياسية إيديولوجية منسجمة، وتتلاشى في فضائها الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية، وإنما عليها تدل على توافق مكوناتها على مشروع تاريخي مشترك يجمع بينها. ومعنى أن تكون الكتلة مجرد انتظام يحتفظ فيه على متكتل بهويته المتميزة، وليست توحيداً متطابقاً تتلاشى فيه هويات المتكتلين. وهذا ما يضفي على وحدة الكتلة التاريخية طابع الهشاشة، فهي واحدة في غايتها، متعددة في مكوناتها وماهيتها. البعد الاستراتيجي لمهام الكتلة التاريخية ما طبيعة الغاية التي تسعى إليها «الكتلة التاريخية»: هل هي إنقاذ الوطن أو الأمة من الإفلاس الوشيك، أم الرغبة في إعادة البناء السياسي للدولة على أسس الديمقراطية والعدالة والحرية ومحاربة الفساد؟ هل نفهم من لجوء الجابري إلى مقولة نيوماركسية في «الكتلة التاريخية»، أنه تخلى نهائياً عن التحليل الجدلي بملحقاته المختلفة من صراع وتضاد وكفاح سواء على صعيد المجتمع أو الثقافة أو السياسة، لمصلحة التصالح والتعايش السلمي لتحقيق هدف تاريخي مشترك؟ هل معنى القول «بالكتلة التاريخية» أن على الليبراليين والقوميين والاشتراكيين والإسلاميين أن يتخلوا عن مشاريعهم المجتمعية والتاريخية مؤقتاً أو دائماً أو على الأقل أن يتناسوها على غرار فكرة «حجاب الجهل» من أجل تأسيس عقد اجتماعي جديد؟ هل تدفع روح الكتلة التاريخية حتماً إلى تعليق حق النقد، ووضعه بين قوسين حتى لا يتم التشويش على مسيرة الكتلة التاريخية نحو إنجاز مهامها؟ هل ينبغي أن تبقى «الكتلة التاريخية» في حدودها الوطنية أم يتعيّن عليها أن تكون عابرة للحدود لتصبح ذات طبيعة قومية حتى تستطيع تنفيذ غاياتها في التنمية والتحرير؟. لما كانت «الكتلة التاريخية» بطبيعتها تعددية تركيبية، تجمع بين عدة فئات وتيارات وجبهات ثقافية متنافرة، كان لا بد أن تنتهج سلوك الإقناع عن طريق الحوار والنقاش للوصول إلى مشروع تاريخي توافقي، مما يجعلها تجمع بين التاريخية والواقعية. والتوافق التاريخي القادر على جمع تيارات وحساسيات متصارعة أصلاً يوجب حتماً القيام بالتنازل المتبادل عن بعض خصوصيات ومطالب مكونات الكتلة التاريخية. بهذا المعنى تكون الكتلة التاريخية اعترافاً بالآخر على أنه جزء من الذات. لا ريب في أن الشق الثاني من المركب اللفظي، «الكتلة التاريخية»، لا يدل على التاريخ بمعناه الحرفي، أي على الزمن الماضي، بل يدل على الزمن المستقبل. فالكتلة تاريخية بأهدافها المستقبلية وتطلعها إلى أفق عام شامل يستجيب للأهداف القصوى للدولة والمجتمع. ولذلك لا يمكن أن تسمى الكتلة «تاريخية» إن كانت تقوم فقط على أهداف جزئية ظرفية تكتيكية لإرضاء الناخبين، أو لتلافي أزمة طارئة، أو لتأليف حكومة معينة، كما لا يمكن أن تكون الكتلة «تاريخية» إن ارتكزت فقط على «تحالف جزئي وظرفي بين أحزاب في جبهة لمعارضة حكم غير مسؤول يهدد بتصرفاته الخرقاء وجود الأمة ومصيرها. فقط تكون «تاريخية» متى حققت إجماعاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً لتحقيق أهداف إستراتيجية، أهداف كبرى صادرة عن إيمان عميق بمصير الأمة وقدرتها على تحدي الإمبريالية لأنها توجد في قلب الإنسانية. ومجموع هذه الأهداف الإستراتيجية أو الأهداف الوطنية الكبرى هي ما يسميها الجابري بالمصلحة الموضوعية الواحدة القائمة على أساس التوافق الموضوعي القادر على التحريك من العمق وفي العمق جميع التيارات، في مقابل «المصالح الذاتية» القائمة على أساس التوفيق أو التلفيق بين أهداف ظرفية، مما يسقط المجتمع في الدوران في حلقة مفرغة ويبعده عن تحقيق استقلاله التاريخي. يتكلم الجابري في أحد حواراته عن «المصلحة الموضوعية»، التي تجتمع حولها «الكتلة التاريخية»، بصيغة المفرد. غير أنه سرعان ما يفصّل هذه المصلحة الموضوعية في مناسبات أخرى إلى عدة مهام وأهداف تختلف أسماؤها وأعدادها من سياق إلى آخر: (1) ففي حوار من حواراته فصّل «المصلحة الموضوعية» إلى ستة أهداف هي الحرية والأصالة والديمقراطية والشورى والعدل والحق. (2) وفي مناسبة أخرى قلص مهام «الكتلة التاريخية» في ثلاث هي تحقيق الديمقراطية، والتحرر من التبعية للاستعمار الجديد، والتنمية الاقتصادية والبشرية. (3) وفي حوار آخر اختفت التنمية من الثلاثي السابق وحلت محلها ضرورة اتخاذ الأهداف أبعاداً وطنية وقومية وعالمية. (4) وظهر هدف الاستقلال الثقافي إلى جانب التنمية البشرية الشاملة والديمقراطية الحقيقية في كتاب المسألة الثقافية. (5) ويقدم لنا ترتيباً آخر لأهداف المرحلة التاريخية الجديدة يحددها في «النمو والاستمرار والاستقرار». بيد أنه مهما تعددت واختلفت تصنيفات هذه المهام، فإنها تنطلق من كون الكتلة التاريخية تقوم على رؤية شمولية جامعة للمجتمع والسياسة والإيديولوجيا والاقتصاد، لتعبئة كل القوى السياسية من أجل الوصول إلى توافق أو إجماع. ولا تستطيع هذه الأهداف الكبرى أن تحصل على مثل هذا التوافق أو الإجماع ما لم تكن قادرة على التعبير عن «المصلحة الموضوعية» التي يلتئم حولها الجميع، أي ما لم تشكل قاسما مشتركاً بين برامج القوى السياسية والإيديولوجية والثقافية. ومحايثة الأهداف الكتلوية لبرامج البنيات والقوى السياسية هي التي تضفي وصف «التاريخية» على «الكتلة التاريخية». مما يعني أن هناك علاقة تلازم متبادل بين التاريخية والوفاق الوطني: فلكي تحصل الأهداف الكتلوية على لقب التاريخية ينبغي أن تحقق الوفاق الوطني حولها، وفي المقابل من أجل أن تحصل أهداف الكتلة على الوفاق الوطني يتعين أن تكون تاريخية. والوظيفة القصوى لهذا التلازم هو تحقيق قفزة تاريخية جذرية، أو كما يسميها الجابري «تدشين مرحلة تاريخية جديدة». ومن الواضح أنه لكي يكون للتاريخية في عبارة «الكتلة التاريخية» معنى ينبغي ألا تظل أهدافها مبعثرة، بل يجب أن تخدم «مشروعاً للوطن ككل يجعل من المصلحة الوطنية والقومية العليا المرجعية التي تنحني لها جميع المرجعيات الأخرى». ويقدم هذا المشروع الوطني الكبير بوصفه بديلاً للاستبداد الداخلي يقوم على الديمقراطية والعدالة والتنمية، وبديلاً للتبعية الشاملة للإمبريالية لغاية التحرر من التخلف. وهذا بالضبط ما يجعل أهداف الكتلة بالمطلب الوحدوي القومي، «لأن التنمية القطرية أصبحت شبه مستحيلة من دون ارتكازها على بُعد وحدوي، اتحادي، تكتلي، شراكي (ولا مشاحة في الأسماء) تماماً مثلما أن تحقيق نهضة على الصعيد العربي ككل، مستحيلة من دون الانطلاق من الاعتراف بالقطرية، ككيان وخصوصية». واندراج أهداف «الكتلة التاريخية» المختلفة ضمن مشروع وطني قومي من شأنه أن يحولها إلى نظام متماسك تترابط عناصره الثلاثة ترابطا ذاتيا في محاور أساسية هي التحرر من التبعية الأجنبية، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، والوحدة القومية. ولكي يضمن نجاح الأهداف الثلاثة ربطها بالتنمية. وبهذه الحيثية اتخذت «الكتلة التاريخية» بعداً عالمياً، لأن تحقيق التنمية في نظره مرتبط بالتحرر من التبعية الإمبريالية. ولا شك أن توسيع مجال مطالب الكتل التاريخية لتشمل البعد القومي، اعتماداً على ترابط بلدان العالم العربي الذاتي لغة وتاريخاً وديناً، يشكل إحدى الإضافات التي عدل بها الجابري مفهوم «الكتلة التاريخية» الغرامشي، والتي جعلت منه في نفس الوقت مفهوماً بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً. *أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس