"وزارة التعليم" تعلن تسوية بعض الوضعيات الإدارية والمالية للموظفين    مسؤول فرنسي رفيع المستوى .. الجزائر صنيعة فرنسا ووجودها منذ قرون غير صحيح    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    لمواجهة آثار موجات البرد.. عامل الحسيمة يترأس اجتماعًا للجنة اليقظة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    العمراني : المغرب يؤكد عزمه تعزيز التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تنصيب ترامب    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتلة التاريخية لمواجهة مخاطر الداخل و الخارج
نشر في الأحداث المغربية يوم 12 - 09 - 2011


1- مخاطر محدقة بالربيع العربي
يمر العالم العربي؛ اليوم بفترات حساسة جدا في تاريخه الحديث؛ على إيقاع المد الثوري الذي يضرب من المحيط إلى الخليج. وتصل التحديات المفروضة اليوم؛ إلى مستوى التحديات التي عاشها العرب خلال مراحل التحرر الوطني .
إن الوحدة الثورية التي يعيشها العالم العربي اليوم؛ تفتتح لعهد جديد؛ يسعى العرب خلاله إلى القطع مع بنية الاستبداد التي ترسخت نتيجة عوامل تاريخية وثقافية؛ تعتبر من ترسبات الماضي؛ كما تعتبر من آثار المرحلة الاستعمارية .
وفي هذا الصدد لا بد أن نثير الانتباه؛ إلى مخاطر الطريق التي تواجه الربيع العربي؛ والتي يمكنها أن تحوله في أي وقت إلى جثة مشوهة؛ إذا لم يحسن ربابنة هذا الربيع؛ توجيهه الوجهة الصحيحة. إن الأمر يتعلق بامتلاك الوعي الكافي؛ لتجنب المخاطر المحدقة من كل صوب و حدب.
على الأقل؛ يمكن تصنيف هذه المخاطر إلى صنفين أساسيين:
- مخاطر الداخل؛ قد نستغرب أن الربيع العربي يواجه مخاطر داخلية؛ رغم أنه يسعى إلى إعادة صياغة النسق السياسي العربي؛ لخدمة جميع التيارات والإيديولوجيات؛ من منظور ديمقراطي ! لكن هذا الاستغراب سرعان ما يتراجع؛ عندما ندرك أن الأنظمة السياسية العربية –في معظمها- تعتبر امتدادا للمصالح الإستراتيجية الغربية؛ واستمرارها لعقود في امتلاك سلطة القرار –ضد أي مسوغ ديمقراطي- يجد تفسيره في الدعم الذي كانت تتلقاه هذه الأنظمة؛ كمقابل للخدمات التي كانت تقدمها للقوى الدولية العظمى . ومن هذا المنظور؛ فإن هذه الأنظمة لن تستسلم للوضع الجديد بسهولة؛ بل ستقاوم بكل ما تمتلك من وسائل؛ وفي مقاومتها لطموحات شعوبها؛ فهي مستعدة لارتكاب جرائم حرب بشعة قبل استسلامها؛ ومستعدة كذلك للتآمر مع جميع القوى الامبريالية لعرقلة المسار الثوري؛ في حالة سقوطها الاضطراري على وقع الضربات التي توجهها الإرادة الشعبية .
- مخاطر الخارج؛ وعلى هذا المستوى لابد أن نتوقف قليلا لدحض نظرية المؤامرة التي يستلذها البعض؛ في اتهامه للربيع العربي بخدمة مصالح خارجية؛ ترتبط بالصهيونية والماسونية ...! و هي اتهامات تافهة؛ تحتقر النضال الشعبي الذي يقود هذه الثورات الجرارة؛ كما أن أصحابها يفتقدون أي حس استراتيجي. ولذلك لا بد أن نثير انتباه هؤلاء؛ إلى أن الربيع العربي؛ يشكل أكبر تهديد لمصالح القوى الامبريالية؛ و ذلك لأن الأنظمة العربية القادمة؛ لن تكون قادرة على مواجهة الإرادة الشعبية؛ لفرض قرارات تخدم القوى الخارجية؛ و إلا فإنها ستحكم على نفسها بالإعدام قبل ولادتها. و لكل هذا فإن تحديات الخارج التي تواجه الربيع العربي؛ هي اكبر مما يمكن أن نتصور؛ فالتحالف الأمريكي-الصهيوني-الأوربي يتابع بشكل دقيق التحولات التي تحملها الثورات العربية؛ وهو مستعد للكشف عن أنيابه؛ كلما أحس أن مصالحه الإستراتيجية في المنطقة؛ تواجه تهديدا ما .
لكل هذه الاعتبارات إذن؛ لابد للشعوب العربية أن تلتزم اليقظة أكثر؛ ولا بد كذلك أن تمتلك حسا استراتيجيا؛ لأننا في بداية المعركة؛ وإسقاط نظام ما لا يعني نهاية المطاف بل بدايته. إن معركة البناء أكبر وأخطر من معركة الهدم؛ ولذلك لابد للمد الثوري أن يستمر؛ ومع استمراريته لا بد أن ندشن لوعي جديد؛ نابع من حرصنا على استمرارية المعركة ضد خصوم الداخل والخارج؛ حتى تحقيق الرهان الديمقراطي المنشود .
2 -الكتلة التاريخية كدرع حام للربيع العربي
في حديثي عن المخاطر التي تواجه الربيع العربي؛ أريد أن أستحضر روحا قومية رائدة؛ فكر وناضل لعقود في سبيل نهضة الأمة العربية واستقلالها التاريخي؛ وكم كنا نطمح أن يرافقنا خلال هذه اللحظات الحاسمة في تاريخنا العربي الحديث؛ بتوجيهاته وانتقاداته؛ لكن –يا لخسارتنا- في الليلة الظلماء يفتقد البدر !
ومن منظور يموت العظماء ويخلدهم تراثهم الفكري والنضالي؛ وجدتني أستحضر بقوة روح فقيد العروبة الأستاذ والمفكر محمد عابد الجابري؛ كمنارة شامخة؛ تنير طريقنا الوعر في دجى مؤامرات الداخل و الخارج .
فقد انشغل الأستاذ محمد عابد الجابري طوال حياته الفكرية ولنضالية بقضايا وطنه وأمته. وقد قاده هذا الانشغال إلى الانفتاح على مجالات معرفية ثرية ومتنوعة؛ كما قاده إلى توزيع انشغالاته بين السياسي والفكري.
وإذا كان الأستاذ الجابري قد عرف على المستوى العالمي بمشروعه الفكري الرائد (نقد العقل العربي) الذي وضعه في مصاف المفكرين الكبار على المستوى الكوني؛ إلى جانب كانط في كتابيه (نقد العقل الخالص – نقد العقل العملي) وإلى جانب ريجيس دوبريه في كتابه (نقد العقل السياسي). فإن للأستاذ الجابري انشغالاته الوطنية والقومية التي تضاف إلى هذا المجهود الفكري العميق.
2-1 – الكتلة التاريخية من منظور تبيئة المفاهيم
أود في هذا المقام أن أتوقف عند مفهوم جوهري حضر عند الأستاذ الجابري؛ وهو مفهوم (الكتلة التاريخية). ورغم أن هذا المفهوم لم يثر الكثير من النقاش والتحليل فإنه شكل جانبا أساسيا من انشغالات الأستاذ .
تناول الأستاذ الجابري مفهوم الكتلة التاريخية أول مرة في حوار نشر له بمجلة المستقبل العربي (عدد نوفمبر 1982)، وذلك في إطار جوابه على سؤال حول الطبقات في المجتمع العربي؛ وأيها يمكن أن تقود النضال من أجل التغيير.
وفي إطار جوابه عن هذا السؤال أورد ما يلي :
“إن ما يحتاج إليه النضال العربي في المرحلة الراهنة هو في نظري شيء أقرب إلى ما سماه غرامشي ب”الكتلة التاريخية”. كان هذا المفكر الإيطالي والمناضل السياسي اليساري (1891-1937) يفكر في طريق للتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ يناسب معطيات المجتمع الإيطالي في زمنه. وكان المشكل الذي يعترض الإصلاح آنذاك في هذا البلد، هو ذلك التفاوت الكبير بين شمال إيطاليا، الذي كان قد بلغ درجة متقدمة على مستوى التصنيع والتحديث، وبين جنوبها الذي كان يحمل سمات المجتمع المتخلف الخاضع لسلطة الكنيسة. ومن أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإيطالية والقيام بنهضة شاملة اقترح فكرة الكتلة التاريخية، وهي تضم إلى جانب قوى التغيير والإصلاح في الشمال، من ماركسيين وشيوعيين وليبراليين، القوى المهيمنة في الجنوب بما فيها الكنيسة (1)
هكذا طرح الأستاذ الجابري مفهوم (الكتلة التاريخية)؛ كما طرحه (غرا مشي) في إيطاليا؛ ومن خلال هذا المفهوم حاول الأستاذ مقاربة الواقع المغربي خاصة والعربي عامة؛ والذي يشبه الواقع الإيطالي خلال مرحلة (غرا مشي)؛ الشيء الذي دفع الأستاذ الجابري إلى الاستفادة من التجربة الإيطالية؛ من منظور تبيئة المفاهيم؛ كما مارسها في مشروعه الفكري.
وبناء على هذا التصور طرح الأستاذ الجابري مفهوم الكتلة التاريخية باعتبارها ” كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها و نضالاتها”. (2)
2-2 – الكتلة التاريخية : الوحدة الوطنية والقومية لتحقيق استقلال تاريخي شامل
إن مفهوم الكتلة التاريخية كما طرحه الأستاذ الجابري يركز على محورين أساسيين؛ يصبان معا في هدف واحد هو تحقيق الوحدة العربية المنشودة :
- المحور الأول: يرتبط بالنضال في سبيل تحقيق استقلال شامل؛ يتجاوز طرد المستعمر من الوطن العربي؛ إلى محاربة جميع الخطط السياسية والاقتصادية والثقافية... التي تهدف إلى تأبيد الاستعمار بأشكال (غير عسكرية)، و لكنها أخطر من سابقتها؛ لأنها تركز على إنهاك الأمة العربية؛ عبر ضغوطات عسكرية؛ واستغلال اقتصادي؛ واستلاب ثقافي ... إنها دعوة لاستقلال تاريخي شامل يتجاوز المواجهة العسكرية للمستعمر إلى مواجهة سياسية واقتصادية وثقافية؛ وذلك بهدف تحقيق استقلال كامل؛ هو من غير جنس الاستقلال الشكلي الذي حصلت عليه مجموعة من دول العالم العربي؛ مشرقا ومغربا .
- المحور الثاني: يرتبط بالنضال الداخلي؛ من أجل ترسيخ قيم الديمقراطية والتنمية والتوزيع العادل للثروة؛ وهذا هو الجهاد الأكبر. وفي هذا الإطار فإن الأستاذ الجابري يدعو إلى كتلة تاريخية ذات بعد قومي في تنظيرها وبرامجها و نضالها؛ وذلك من منطلق أن مشكلة التنمية مرتبطة في العالم العربي بقضية الوحدة . وهذا يعني أن مسألة الديمقراطية والتنمية في الوطن العربي؛ تتجاوز البعد القطري الضيق؛ لأن أي نضال قطري منغلق لن يحقق الأهداف المرجوة؛ وبالمقابل فإنها يجب أن تتخذ بعدا قوميا شاملا؛ عبر توحيد نضالات الشعوب العربية؛ مشرقا ومغربا؛ وبأهداف مشتركة؛ تتجاوز النعرات القبلية والطائفية .
وإذا كان الأستاذ الجابري يدعو إلى كتلة تاريخية ذات بعد قومي؛ يتجاوز النعرات القبلية و الطائفية؛ فإنه في نفس الآن يدعو إلى كتلة تاريخية؛ تتجاوز حدود الإيديولوجيا؛ لأن انشغالها الأساسي؛ هو تحقيق الاستقلالي التاريخي الشامل للأمة العربية؛ و تحقيق الديمقراطية والتنمية. وهذه أهداف ترتبط بالمصلحة العليا لأمتنا العربية؛ وتستحق منا التخلي عن أقنعتنا الإيديولوجية؛ أو على الأقل تأجيل الصراع الإيديولوجي إلى مراحل لاحقة. “... إن في الواقع العربي الراهن بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية “حديثة” تجد تعبيرها الإيديولوجي في فكر “النخبة العصرية” وطموحاتها، وإن في الواقع العربي الراهن كذلك بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية “تقليدية” تجد هي الأخرى تعبيرها الإيديولوجي في فكر “النخبة التقليدية” ومخايلها. ومن هنا النتيجة الحتمية التالية: إن أي حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح، أسبابه الذاتية الداخلية وهي الأساس، إلا إذا انطلقت من الواقع العربي كما هو وأخذت بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، “العصرية” منها و”التقليدية”، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منها والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد... صفوف المصلين. (3)
(*) كاتب وباحث أكاديمي
الهوامش:
1 - محمد عابد الجابري- حوار أجرته معه مجلة المستقبل العربي- أنظر: عدد نونبر 1982
2 - نفسه
3 – محمد عابد الجابري- مجلة اليوم السابع الفلسطينية الصادرة في باريس- ع: 26 أكتوبر 1987
إن منظور الأستاذ الجابري –إذن- للكتلة التاريخية كرهان استراتيجي؛ يمكنه أن يقود أمتنا العربية إلى تحقيق استقلال تاريخي شامل؛ و ديمقراطية و تنمية مستديمة؛ إن منظور الأستاذ الجابري يتجاوز الإطار السياسي /الإيديولوجي الضيق؛ كما يتجاوز الإطار القطري.
وهذا الانفتاح القطري و الإيديولوجي؛ الذي يدعو إليه الأستاذ الجابري هو القادر على إخراج الأمة العربية من العتمة إلى النور؛ و ذلك في سبيل المصلحة العليا لأمتنا العربية؛ التي تستحق منا – نخبا سياسية و ثقافية – التنازل عن نزوعاتنا الذاتية؛ لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؛ فهناك تاريخ مشترك و دين مشترك ولغة مشتركة ... وكذلك مصير مشترك .
لكن الأستاذ الجابري؛ ومن منطلق خبرته السياسية تنظيرا وممارسة؛ يعتبر أن جميع هذه المقومات الحضارية التي تجمعنا ليست وحدها القادرة على تحقيق حلم الكتلة التاريخية؛ لأن هناك عوائق مادية؛ يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
لذلك فهو يؤكد أن الانطلاق من هذا الواقع كما وصفناه، والأخذ بكل ما فيه من تعدد وتنوع، ومن ائتلاف واختلاف، سيكون مصطنعا وهشا إذا هو اعتمد التوفيق والتلفيق والتحالفات السياسية الظرفية ذات الطابع الانتهازي... إن المطلوب هو قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك، في العمق ومن العمق، جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب: المصلحة الموضوعية التي تعبر عنها شعارات الحرية والأصالة والديمقراطية والشورى والعدل وحقوق أهل الحل والعقد، وحقوق المستضعفين وحقوق الأقليات وحقوق الأغلبيات الخ. ذلك لأن الحق المهضوم في الواقع العربي الراهن هو حقوق كل من يقع خارج جماعة المحظوظين المستفيدين من غياب أصحاب الحق عن مراكز القرار والتنفيذ. إنه بدون قيام كتلة تاريخية من هذا النوع لا يمكن تدشين مرحلة تاريخية جديدة يضمن لها النمو والاستمرار والاستقرار”.(4)
2-3 – الكتلة التاريخية: نموذج وطني بأبعاد قومية
في سعي الأستاذ الجابري لجعل مفهوم الكتلة التاريخية أقرب إلى التلقي؛ فإنه ينطلق من الحالة المغربية؛ التي يمكن تعميمها –طبعا- على بقية مكونات الأمة العربية؛ وذلك من منظور رفضه للطابع القطري الضيق للكتلة التاريخية .
يؤكد الأستاذ الجابري منذ البداية أن هذه الكتلة – التي يدعو إليها – هي تاريخية؛ ليس فقط لكون الأهداف المذكورة أهداف تاريخية، بل لأنها تجسيم لوفاق وطني في مرحلة تاريخية معينة. إنها ليست مجرد جبهة بين أحزاب بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها وضدها. وهكذا يمكن القول، إن القوى المرشحة لهذه الكتلة في بلد مثل المغرب هي:
- أولا: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات والمجموعات المرتبطة بها من نقابات عمالية وحرفية وتجارية وفلا حية وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية...
- ثانيا: التنظيمات والتيارات التي تعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية التي يجب أن يفتح أمامها باب العمل السياسي المشروع كغيرها من التنظيمات ذات الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الواضحة التي لا تمس لا وحدة الوطن ولا وحدة الشعب ولا الوحدة الروحية للأمة ولا الانتماء العربي الإسلامي للبلد.
- ثالثا: القوى الاقتصادية الوطنية التي تشارك بنشاطها الصناعي والتجاري والزراعي والسياحي والمالي في خدمة اقتصاد البلاد ككل وتطويره وتنمية قدراته.
- رابعا: جميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع بما في ذلك تلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة، والمقتنعة بضرورة التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف التاريخية المذكورة. الكتلة التاريخية ليست جبهة معارضة لنوع من الحكم قائم، ولا ضد أشخاص معينين، بل هي من أجل الأهداف الوطنية المذكورة. وهي لا تستثني من صفوفها إلا من يضع نفسه خارجها. هي لا تلغي الأحزاب ولا تقوم مقامها، ذلك لأن ما يجعل منها كتلة تاريخية ليس قيامها في شكل تنظيم واحد، بل انتظام الأطراف المكونة لها انتظاما فكريا حول الأهداف المذكورة والعمل الموحد من أجلها. (5)
ومن منظور تجربته السياسية و نضاله في صفوف الحركة الوطنية إبان الاستعمار؛ وفي صفوف حزب تقدمي بعد الاستقلال. من هذا المنظور يبدو أن الأستاذ الجابري كان مهووسا طوال مسيرته الفكرية والنضالية؛ بتحقيق حلم الوحدة العربية؛ من خلال تحقيق حلم الوحدة القطرية. وقد قاده هذا الحلم إلى التخلي عن (البطانة الإيديولوجية)؛ كما قاده كذلك إلى تكسير نموذج الدولة القطرية المنعزلة عن السياق العربي الموحد.
هذا الحلم –بالضبط- هو الذي سعى إلى تحقيقه على أرض الواقع؛ من خلال استعارته لمفهوم الكتلة التاريخية؛ الذي اعتمده (غرا مشي) في التجربة الإيطالية؛ الشبيهة إلى حد ما بالتجربة العربية .
إن الأستاذ الجابري؛ وهو يطرح التجربة المغربية؛ يسعى إلى تعميمها على العالم العربي؛ حيث يمكن تحقيق الكتلة التاريخية على نفس الشاكلة؛ لان هناك تقارب كبير بين مجموع التجارب العربية؛ سواء على مستوى الأحزاب أو النقابات أو الفاعلين الاقتصاديين؛ أو النخب الثقافية و الدينية. وهي نفس المكونات التي يمكنها أن تحمل عبء الكتلة التاريخية؛ قطريا في مرحلة أولى؛ و قوميا في مرحلة لاحقة.
3 - الكتلة التاريخية: خارطة طريق لترشيد مسار الربيع العربي
إن مشروع الكتلة التاريخية – كما طرحه الأستاذ الجابري- يعتبر خارطة طريق أولية؛ ترسم نهجا لتحقيق الوحدة العربية؛ كخيار استراتيجي؛ لا يمكن للعالم العربي أن يحقق استقلاله التاريخي؛ كما لا يمكنه تحقيق رهان الديمقراطية والتنمية؛ من دون النجاح في التأسيس لهذا الخيار.
ويجد هذا المشروع مسوغه في الربيع العربي اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ وذلك لأن الاكتساح الثوري يخلف بالضرورة صراعات إيديولوجية و مذهبية وعرقية؛ حيث يسعى كل طرف إلى بلورة المرحلة الجديدة؛ من منظوره الخاص الذي يستجيب لمصالحه؛ و هذا ما يفتح المجال أمام أعداء الثورة خارجيا و داخليا؛ للانقضاض عليها و تشتيت مشروعها؛ بادعاء حماية البلد من الحروب و الفوضى .
وللخروج من هذه المسارات المتناقضة؛ فإن الواجب الوطني و القومي يفرض على جميع القوى؛ بجميع نزوعاتها الإيديولوجية و المذهبية و العرقية؛ أن تدمج مصالحها الخاصة ضمن السياق الوطني و القومي؛ من دون أنانية مفرطة تسعى إلى الاستيلاء على كل شيء .
والكتلة التاريخية التي طرحها الأستاذ الجابري؛ يمكنها أن تكون أرضية صالحة لأي تحالف منتظر بين جميع القوى الوطنية والقومية؛ المساهمة في إطلاق الحراك الثوري؛ أولا حماية للثورة؛ وثانيا لبلورة المشروع الوطني والقومي لمرحلة ما-بعد الثورة .
وفي هذا الإطار فإن الواجب يفرض على القوى الوطنية و القومية؛ بجميع اتجاهاتها الإيديولوجية والمذهبية و العرقية؛ إن الواجب يفرض عليها أن تكون في مستوى تحديات المرحلة؛ و أن توظف اختلافها و تعددها لبناء المشروع الوطني و القومي المنشود؛ وألا تدخل في صراعات إيديولوجية ومذهبية وعرقية لا طائل منها .
إن جميع التيارات الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية... مدعوة اليوم إلى التأسيس لكتل تاريخية؛ تكون الأسبقية فيها للمصلحة الو طنية والقومية وليس للمنطلقات الإيديولوجية . فقد أدينا ضرائب باهظة الثمن من أمننا وتنميتنا؛ طوال عقود من الصراع الإيديولوجي والمذهبي والعرقي؛ وجاءت اللحظة الحاسمة اليوم؛ للتخلي عن هذا الماضي البئيس؛ ونشرئب برؤوسنا إلى مستقبل مشرق؛ نبنيه بإرادتنا ووحدتنا و طموحنا الجامح للعيش في أوضاع مغايرة .
الهوامش:
1- محمد عابد الجابري- حوار أجرته معه مجلة المستقبل العربي- أنظر: عدد نونبر 1982
2- نفسه
3- محمد عابد الجابري- مجلة اليوم السابع الفلسطينية الصادرة في باريس- ع: 26 أكتوبر 1987
4- نفسه
5- مداخلة الأستاذ الجابري في ندوة حول موضوع (مستقبل اليسار بالمغرب)- نشرت في جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 30 يناير 1993
كاتب وباحث أكاديمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.