لقد طلب مني الأخ الفاضل الحافظي الإدريسي أن أساهم بكلمة في الذكرى الأربعينية للمرحوم الشيخ أحمد ولد سيدها..، ولا أخفيكم أنني اعتدرت لسبب واحد هو أنني أعلم أن من بين المتكلمين في هذا المحفل الكريم الذي التأم لأبين الشيخ ولد سيدها رحمه الله، من هو أعلم مني وأفصح لسانا وكان على صلة ووشائج متينة تربطه بالفقيد..، وبالتالي فإنني جئت لأستفيد من مداخلات أهل العلم والفضل.. إلا أن إلحاح الصديق الحافظي الإدريسي وهو المعروف بكرمه ونبله، وإخلاصه في خدمة هذا البلد الأمين..، وكذلك في خدمة الروابط الأخوية بين ضفتي الشمال والجنوب..، أو بين ما أسميه المجال الصحراوي الصنهاجي الشنقيطي..، وعمقه الجيوسياسي والاستراتيجي بلاد المغرب الإسلامي حيث يعتبر المغرب الأقصى أهم أبعاد هذا العمق الاستراتيجي.. ولا أخفيكم سرا أن الصديق الحافظي الإدريسي مدعوم بأخ عزيز على قلبي لا استطيع أن أرد له طلبا مهما عز الطلب، إنه أخي الشريف ولد باه، رجل من معدن رفيع وعملة نادرة، في زمن لا يقدر قيمة الرجال كما أشار إلى ذلك أبو الطيب المتنبي منذ زمن بعيد.. وإن اصدق ما تمتحن به مقاييس الحياة في الأمم الحية أن تعرف الفضائل التي يزنون بها مقادير الرجال.. لاشك بأن الحديث متشعب وأخشى على قلمي أن يتيه في دروب الكلام، وينسى أن المقام في هذا المجلس الموقر والجمع الذي التأم للتذكر لأن ذكرى تنفع المؤمنين، لما فيها من العبر قد يصلح ويقوم المسار.. حديثنا اليوم عن رجل رحل عن هذه الدنيا الفانية وانتقل إلى دار يجزى فيها أهل العمل الصالح الجزاء الأوفى.. مع الرجاء أن تشملنا جميعا رحمة الله التي وسعت كل شيء في هذا الوجود.. إذن كيف ابدأ هذا الحديث..؟ هذا السؤال طرحته على نفسي، لأنني رجل اختار بمحض إرادته أن يعيش في دائرة الفكر والتفكر والتأمل.. ومن ثم فإنما أكتبه يندرج ضمن مناهج التفكير وأساليبه التي يصعب الفكاك منها.. لقد طرحت على نفسي هذا السؤال: لماذا عبر هذا الفتى الشنقيطي النحيف البنية إبن عائلة عريقة من أشراف السماسيد الأدارسة..، ولماذا ترك واحات نخيل آطار، الجميلة وعبر صحراء شنقيط بكثبانها ورمالها الشاسعة الأطراف، وقصد عاصمة المغرب الرباط.. المستقل حديثا..؟ لو كان الرجل لا زال بيننا لتركناه يجيب هو نفسه عن هذا السؤال..، ربما من بين الحضور من هو أعرف مني بالحيثيات والملابسات و الظروف، وقد يكون عاش هذه المرحلة وساهم فيها.. ولكن أستسمحكم في أن أحدثكم حديث الباحث الدارس وبإيجاز شديد نظرا لإكراهات الوقت .. إن أول ما يتبادر إلى الذهن أن فكر هذا الشاب ابن عائلة أهل سيدها السمسدية الإدريسية وهي من العائلات السمسدية العريقة مثل عائلة أهل سيدي بابا، وأهل الطائع.. كما ذكر المؤرخ الشهير المختار ولد حامدون، في موسوعته ) جغرافية موريتانيا( الذي طبعه المعهد الإفريقي بالرباط. إذن بالعودة إلى السؤال الذي طرحته، ما هي الآمال والمبادئ والمثل العليا التي حفزت وحركت جيلا من شباب صحراء الملثمين، في ذلك الزمن الذي يبدو الآن بعيدا أي في منتصف الخمسينيات من القرن الميلادي الفارط.. كان جيل الشيخ ولد سيدها ابن مرحلة تاريخية حاسمة لابد من فهم ملابساتها وقراءة العوامل التي أطرت في التشكلات التي طبعت المرحلة، وأسست لما بعدها.. فإن الفهم الصحيح لطبيعة هذه المرحلة يقتضي منا أن ندقق في مسلسل الأحداث وأن نتوقف عند المخططات الجيوسياسية والإستراتيجية التي وضعها الاستعمار للسيطرة على العالم الإسلامي وتمزيق وحدته وروابطه التاريخية والثقافية والحضارية.. وذلك بخلق كيانات ونخب تخدم أهدافه ومصالحه وثقافته.. وإذا كان كل منعطف تاريخي يتطلب الوضوح في الرؤية، الذي يجعل الإنسان يتساءل إلى أين يسير وما هو المصير؟ فإن الأمل ما هو إلا إيمان بالحاضر وإيمان بالمستقبل وهذا هو الأمل الصحيح.. إن المتأمل في تاريخ هذه المنطقة سوف يقف عند ملامح بعض رموزها ورجالاتها الذين علموا الأجيال المتعاقبة أن هذه المنطقة المتلاحمة والمتمازجة والمتضافرة من بلاد المغرب الإسلامي لها رسالة حضارية وثقافية وسياسية على الأجيال المتعاقبة أن تكون واعية ومدركة لأبعادها إذا أرادت أن يكون لها دور في التاريخ.. ولابد أن أشير بأن الوعي الجماعي للمجال الصحراوي الصنهاجي الشنقيطي يدرك أن هناك ترابط عضوي وتاريخي بين الرسالة التي حملها الفقيه المجاهد عبد الله بن ياسين والعلامة المجاهد الشيخ ماء العينين بن محمد فاضل، والزعيم الوطني المجاهد حرمة ولد بابانا العلوي.. إن هؤلاء الرجال ألهموا أجيالا وأجيال، وكان لهم حضور وتأثير في توجيه الأحداث وبعث الأمل.. إن كل إصلاح في شأن من شؤون الأمم لا يتناول تصحيح مقاييس الحياة فيها، هو عبث فارغ لا يستحق العناء.. إن الوطنية هي الدفاع عن النفس والذب عن الكيان، والميل للحرية الفردية والجماعية وهي صفة من أظهر الصفات التي ميزت شعوب هذه المنطقة عبر التاريخ.. لقد حاولت في عجالة أن أتطرق إلى جانب من الحوافز التي دفعت بجيل من الشباب الشناقطة إلى عبور الصحراء قاصدين رباط الفتح.. وإلى جانب الفقيد شيخ ولد سيدها أذكر هنا الصحافي النابغة باهي محمد حرمة والفقيه الأديب الشاعر محمد الكبير العلوي.. إن التاريخ يصنعه الرجال والأبطال .. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. فمنهم من قضى، ومنهم من ينتظر الأجل المحتوم، ولكنهم ثبتوا وما بدلوا تبديلا..