منذ العاشر من ماي الماضي، والملك محمد السادس في زيارة خاصة غير معلنة، لا يعرف مكانها ولا متى تنتهي. وقبل ذلك كان الملك في زيارة خاصة، قالت بعض وسائل الإعلام إنه قضاها في دولة الإمارات العربية المتحدة، ابتدأت يوم 26 أبريل الماضي ودامت 13 يوما، وقبلها سافر الملك ودائما في إطار زيارة خاصة استغرت 19 يوما ابتداء من 4 يناير، وقيل يومها إن وجهته كانت هي فرنسا. أي أنه خلال خمسة أشهر يكون الملك قد قضى ما يناهز 57 يوما (حتى كتابة هذا المقال يوم 4 يونيو) في رحلات خاصة غير معلنة، لا يعرف متى تبتدئ ولا متى تنتهي ولا أماكنها ووجهاتها. والواقع أنه لا يوجد رئيس دولة في العالم، اللهم إلا في الدول الدكتاتورية الآيلة إلى الانقراض، يتمتع بهذا القدر الهائل من أيام العطلة المفتوحة دون احتساب أيام العطل الأخرى غير المعلنة بما أنه لا يعلن رسميا عن جدول عطل الملك. بل حتى رؤساء الحكومات بما فيهم رئيس الحكومة المغربية ليس محظوظا إلى هذا القدر ليتمتع بكل هذا السخاء من العطل المفتوحة والمدفوعة الأجر من المال العام! طبعا لا أحد يسأل ما إذا كانت هذه العطل "المفتوحة" مدفوعة الأجر، لأن ميزانية القصر الملكي لا تناقش وصرفها لا يخضع لأية مراقبة أو محاسبة من أية جهة كانت. وبالتالي فإن طرح مثل هذا السؤال قد يبدو من باب مضيعة الوقت، لأن الملك يظل حسب الدستور الحالي فوق كل محاسبة أو مساءلة. "لا يُسأل عما يفعل وهم يٌسألون". لكن يبقى السؤال الآخر المهم، والذي يطرح نقاشا سياسيا ودستوريا عميقا: هل من حق الملك كرئيس دولة وكقائد أعلى للقوات المسلحة الملكية وفي نفس الوقت رئيس أركان الحرب، أن يغيب كل هذه الفترات دون أن يكون هناك إعلان رسمي عن تاريخ بداية عطله ومددها ودون أن يصدر تفويضا رسميا لمن سيتولى تدبير شؤون الدولة في غيابه؟ لا يوجد في العالم رئيس دولة أو رئيس أركان جيش نظامي يمكنه أن يسافر في رحلة خاصة خارج بلاده دون أن يعلن عن ذلك رسميا، وعن مدة عطلته وأحيانا حتى مكانها، ودون أن يفوض مهامه لمن سينوب عنه أثناء فترة غيابه. لقد اختار الملك، من خلال دستوره الممنوح، استمرار نظام الملكية التنفيذية، حيث الملك يحكم ويسود، فهو رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويرأس المجالس الوزارية، بالإضافة إلى صفة "إمارة المؤمنين"... إن من يمنح نفسه كل هذه السلطات يجعل نفسه قبل غيره معرضا للمحاسبة والمسائلة ليس فقط في إطار ممارسته لمهامه، وإنما أيضا في حياته الخاصة: الكشف عن بياناته الصحية، والإعلان عن تنقلاته وسفرياته وعطله الرسمية والخاصة، بل وحتى عن جدول أعماله اليومي كما يفعل ذلك البيت الأبيض وقصر الإيليزي... في اسبانيا سافر الملك خوان كارلوس في رحلة سفر خاصة إلى أدغال افريقيا دون أن يخبر الرأي العام برحلته، وشاءت الصدف أن يصاب الملك بحادث أثناء صيده فانكشف أمر رحلته، وقامت القيامة ضده داخل بلده، ليس لأنه لم يخبر الرأي العام الإسباني برحلة صيده تلك، فهو حر في تحركه ما دام قد اختار أن يكون نظام بلاده عبارة عن ملكية برلمانية، دور الملكية فيها رمزي وليس تنفيذيا، وإنما لأن الشعب لم يستسغ أن يقوم ملكه برحلة صيد على حساب أموال دافعي الضرائب في عز أصعب أزمة اقتصادية مازالت تضرب اسبانيا. فما كان من الملك إلا أن ظهر على شاشة التلفزة الرسمية واعتذر للشعب الاسباني عما بدر منه من خطإ وتصرف غير مناسب وتعهد بعدم تكرار ذلك! إنه تواضع الكبار. وحتى في ظل ملكية تيوقراطية، مثل تلك التي توجد في السعودية، فإن الملك عندما يسافر خارج بلده يكون ذلك علنيا حتى لو تعلق الأمر برحلة خاصة. فقبل زيارة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز إلى المغرب، حيث يوجد حاليا، أصدر تفويضا لولي العهد سلمان بن عبد العزيز لإدارة شؤون البلاد حتى عودته من سفره. وتم الإعلان عن هذا التفويض في وسائل الإعلام الرسمية. حدث هذا في بلد لا يوجد في دستور، ولا انتخابات، ولا برلمان، تحكمه أسرة منها الأمراء والوزراء وحكام المدن والمناطق.. بل ولا يوجد فيه حتى دافعوا ضرائب بما أن الريع النفطي يغني الدولة عن الاقتطاعات الضريبية من مواطنيها... ومع ذلك ثمة قليل من الاحترام للرأي العام أو "الرعية" بما أنه يصعب الحديث عن وجود رأي عام في دولة تنعدم فيها التعددية السياسية ويحظر فيها على التعبير الحر بكل أشكاله وأنواعه! فحتى في غياب أبسط الأعراف الدستورية تبقى هناك بقية من مروءة عربية... غياب الملك اليوم المتكرر وغير العلن وغير المحدد المٌدد، يطرح أكثر من إشكال دستوري وسياسي وأخلاقي. دستوريا، يعتبر الملك هو الرئيس الفعلي للدولة. والبناء الدستوري المغربي يجعل من الملكية في المغرب ملكية تنفيذية بامتياز. وهو ما يعني أن الملك يتحمل أكبر وأهم المسؤوليات على هرم الدولة. وبالاحتكام إلى نص الدستور نفسه الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة فالمفروض أن من يتحمل أكبر قدر من المسؤولية يجب عليه أن يخضع لأكبر قدر من المحاسبة. لكن الدستور الحالي يضع الملك خارج إطار كل محاسبة، وهو ما جعل من الملكية المغربية نموذجا يصعب تصنيفه حتى في خانة "الملكيات التنفيذية"، لأن الأنظمة ذات الطابع التنفيذي لا تعفي رؤسائها من المحاسبة. الإشكال الدستوري الثاني الذي صمتت عنه الوثيقة الدستورية ولا يثيره إلا القلة من الباحثين الجادين والمراقبين النزيهين، هو نيابة الملك في حالة غيابه. فلا يمكن تصور وضع كل هذا الكم الهائل من السلط في يد شخص واحد ورهن مصير البلد به في حال غيابه أو مرضه أو عجزه. أما من الناحية السياسية، فإن الملك يضع نفسه في موقع الحَكَم، أو هكذا يتم تأويل موقعه داخل اللعبة السياسية. مع العلم أن الكثير من الوقائع أثبتت أن الملك فاعل سياسي بامتياز وليس مجرد حَكَم مُلزَم بالحياد التام مثل حكام لعبة المضرب الذين يمنع عليهم الدخول إلى ملعب الكرة الصفراء ومراقبة اللاعبين من فوق وعلى نفس المسافة من مربع كل واحد منهما أو منهم. لكن حتى هذا الدور، أي دور الحكم، غالبا ما يتحول إلى دور "المتدخل"، وإن كان هذا التدخل يتم أحيانا من خلال آليات دستورية يتم ليَّ عنقها لتبريره. آخر نموذج على هذا التدخل كان في القضاء عندما أصدر الملك تعليماته لوزير العدل بصفته رئيسا للنيابة العامة ليأمرها بتقديم ملتمس للإفراج عن متهمين قاصرين كانوا يتابعون في حالة اعتقال. وجاء هذا التدخل الملكي في الوقت الذي مازالت فيه القضية معروضة أمام القضاء. النموذج الثاني للتدخل الملكي، من خلال دور الحكم الذي يمنحه له بعض المنظرين الدستوريين، كان تدخلا في قضية سياسية بامتياز، ويتعلق الأمر بالأزمة السياسية داخل الأغلبية الحكومية. وفي هذه الحالة التي كان يُنتظر فيها، حسب نفس المنظرين، أن يلعب الملك دورا تحكيميا بين فرقاء سياسيين، تحول الدور الملكي إلى "معطٍّل" بدلا من أن يكون "حَكَما". فحسب الوقائع التي أدلى بها أحد الفرقاء السياسيين، وهو حميد شباط، الأمين العام لحزب "الاستقلال"، فإن الملك هو الذي تدخل، نصف ساعة فقط بعد أن قرر حزبه الانسحاب من الحكومة، ليطلب منه أن يستمر وزراؤه في مناصبهم داخل حكومة تصريف الأعمال، كما وصفها بيان حزب "الاستقلال". وبعد أسبوع من اندلاع هذه الأزمة صرح رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في اجتماع رسمي لحكومته، أن الملك جدد ثقته في الحكومة بكل مكوناتها بما فيها وزراء حزب "الاستقلال" المستقيل! هذا النوع من التدخل الملكي، أصبح يلعب دور الإعاقة والمُعطٍّلِ، وليس دور الحَكَم، لأنه عطل حل الأزمة الحكومية الحالية التي دخلت أسبوعها الرابع في ظل أزمة اقتصادية تلوح في الأفق قد لا تبقي ولا تذر عندما تعصف رياحها بالبلاد. وحتى على المستوى الدبلوماسي يطرح وجود الملك كرئيس للدولة الكثير من الأسئلة حول مدى آدائه، بهذه الصفة، لمسؤولياته وواجباته على الساحة الدولية. ومن هنا تطرح الكثير من الأسئلة حول ما أضاعه المغرب من مقاطعة رئيس دولته لكثير من المؤتمرات واللقاءات الدولية التي يحضرها رؤساء الدول ويُمثل فيها المغرب بوزراء خارجية وأحيانا بأمراء أو مستشارين لا صفة دستورية تسمح لهم بتمثيل الدولة المغربية أو التفاوض باسمها أو مقابلة رؤساء الدول العظمى نيابة عمن يمثل الدولة دستوريا ورسميا. وأخيرا، ما معنى أن يغيب رئيس الدولة عن زيارة رسمية لرئيس حكومة ديمقراطية لبلد في حجم تركيا المتنامي سياسيا واقتصاديا وجيوستراتيجيا؟ فليست هذه هي المرة الأولى التي يتخلف فيها الملك عن القيام بواجبه كرئيس الدولة حتى داخل البلد، وليس في الخارج فقط. فعندما زار رئيس الوزراء التونسي السابق حمادي الجبالي، المغرب في إطار زيارة رسمية، لم يتم استقباله من طرف الملك بدعوى أن أجندة الملك لم تكن تسمح لمثل ذلك اللقاء! واليوم لا أحد يمكنه تبرير غياب الملك عن زيارة طيب رجب أردوغان إلى المغرب. ولا يكفي هنا الاستشهاد بالمثل المغربي "الغائب حجته معه"، لأنه لا يوجد أي أحد، كما لا توجد أية سلطة أو مؤسسة يمكنها أن تطالبه غدا عند عودته من رحلته الخاصة أن يدلي بحجته!