خصص الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011، موقعاً مميزاً لموقع الوزير الأول والحكومة داخل المرتكزات السبع للمراجعة الدستورية العميقة المعلن عنها، إذ في سياق توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها سيتم الحديث عن: حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب. تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات مجلس النواب وعلى أساس نتائجها. تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والادارة العمومية وقيادة تنفيذ البرنامج الحكومي. دسترة مؤسسة مجلس الحكومة وتوضيح اختصاصاته. إن هذه المبادىء المهمة، المتعلقة بدسترة المنهجية الديمقراطية في اختيار الوزير الأول وبتعزيز المسؤولية السياسية للحكومة، ترتبط أولا بتقاطع واضح مع جزء كبير من مطالب القوى الديمقراطية المعبر عنها على الأقل منذ بداية التسعينات، ثم تُحيل في مستوى ثان على أفق تقوية الطابع البرلماني لنظامنا السياسي. أولا: تجاوب الخطاب الملكي مع مجموعة من مطالب القوى الديمقراطية بتقوية مؤسسة الوزير الأول والحكومة في المذكرة التي رفعها لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، حزبا الاتحاد الاشتراكي والاستقلال سنة 1991 ستتم المطالبة بمجموعة من الخطوات التي من شأنها تقوية سلطات الحكومة، وذلك من خلال: تأكيد مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب بربط تقديم الوزير الأول المعين من جلالة الملك للبرلمان الحكومي أمام المجلس بالتصويت عليه وحصوله على الأغلبية المطلقة التي يتألف منها مجلس النواب. تحديد مهام الحكومة ودورها ومسؤوليتها، بالتنصيص على أنها تحدد وتدبر السياسة العامة وتمارس الوظيفة التنفيذية والسلطة التنظيمية. التأكيد على أن الحكومة مسؤولة تضامنياً على تنفيذ سياستها. التنصيص على أن دور الوزير الأول في إدارة نشاط الحكومة وتنسيق وظائف أعضائها. اجتماع المجلس الحكومي بصفة منتظمة كل أسبوع والتنصيص على إمكانية ترؤس الوزير الأول للمجلس الوزاري بتفويض من جلالة الملك عند الاقتضاء. غير بعيد عن منطق هذه الاقتراحات، ستذهب المذكرة التي رفعها حزب التقدم والاشتراكية عام 1992، حيث ستطرح الحاجة إلى »فريق حكومي منسجم يتحمل الوزير الأول المعين، مسؤولية اقتراح أعضائه ليتم تعيينهم من لدن رئيس الدولة« ثم الى »الإقرار الدستوري بواقع المجلس الحكومي وإعطائه تعريفاً قانونياً يحدد بكل دقة اختصاصاته، مع التنصيص على دورية اجتماعات مجلس الوزراء وكذا إمكانية تفويض رئاسته. وبعيد تأسيس الكتلة الديمقراطية، ستبادر هذه الأخيرة إلى رفع مذكرة جديدة باسم زعماء أحزابها الخمس، وذلك بتاريخ 19 يونيو 1992، حيث سيتم إعادة التأكيد على جوهر المطالب التي تم التقدم بها خلال المذكرتين السابقتين، عبر الدعوة الى قيام حكومة مسؤولة كمؤسسة تنفيذية تكون ممثلة للأغلبية وتتكون من فريق منسجم يتحمل الوزير الأول المعين مسؤولية اقتراح أعضائها، مع التأكيد على مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب... وتحديد مهامها ودورها في إدارة السياسة العامة وممارسة الوظيفة التنفيذية والسلطة التنظيمية، ودسترة مجلس الحكومة، والتنصيص على دورية اجتماعات مجلس الوزراء وإمكانية تفويض رئاسته. وإذا كانت التعديلات الدستورية لعام 1992، قد استجابت جزئياً لهذه المطالب من خلال الإقرار »التاريخي« بمسؤولية الحكومة أمام الملك وأمام مجلس النواب، وهو ما اعتبره بعض الفقهاء الدستوريون إرهاصاً لبداية تحول تدريجي من ملكية رئاسية غير متوازنة إلى أفق ملكية برلمانية. فإن إحياء النقاش حول المسألة الدستورية، كمحاولة لحل الأزمة السياسية التي عاشتها بلادنا بعد فشل محاولتي التناوب، وطرح عرض دستوري جديد يرتبط بالعودة الى نظام الثنائية البرلمانية، سيجعل الكتلة تقدم من جديد مذكرة بتاريخ 23 أبريل 1996، تناولت خلالها في الشق المتعلق بالحكومة والوزير الأول: إضافة للبند الثاني من الفصل 24 من الدستور الذي يقر بأن الملك يعين الوزير الأول، ويعين باقي أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول، وله أن يعفيهم من مهامهم، الفقرة التالية:» »ويعفيهم باقتراح من الوزير الأول«« اقتراح إضافة فقرتين للفصل 60 من الدستور الذي ينص على أن» »الحكومة تعمل على تنفيذ القوانين تحت مسؤولية الوزير الأول والادارة موضوعة رهن تصرفها««، الأولى تتعلق بكون» »الحكومة تحدد السياسة العامة للبلاد وتدبيرها«« والثانية تتعلق بكون «»الحكومة مسؤولة تضامنياً على تنفيذ برنامجها«« دسترة المجلس الحكومي اقتراح منح المجلس الحكومي حق اقتراح التعيين في الوظائف المدنية السامية لترفع للمجلس الوزاري قصد البت فيها تعديل الفصل 59 من الدستور، بحيث يصبح التصويت على التصريح الحكومي الذي يقدمه الوزير الأول سابقاً على تعيين باقي أعضاء الحكومة، الذين لا يعينهم الملك باقتراح من الوزير الأول إلا بعد موافقة مجلس النواب على التصريح الحكومي. لكن التعديلات الدستورية لعام 1996، لم تشكل أي تجاوب مع هذه المطالب، وذلك لكون هذه التعديلات لم تمس النواة الصلبة للنظام الدستوري، وإن كانت قد تعلقت أساساً بثلاثة مجالات رئيسية، دولة، القانون، السلطات المحلية، مؤسسة البرلمان. لذلك، فإن أغلبية هذه المطالب ستعود الى ساحة النقاش العمومي بعد تجربة حكومة التناوب، وخاصة مع الخلاصات السياسية لهذه التجربة، كما تم التعبير عنها بشكل قوي، خلال خطاب الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في بروكسيل عام 2003 الذي ركز على الازدواجية بين سلطة الدولة وسلطة الحكومة، كإحدى المعيقات الدستورية للتحول الديمقراطي، وانطلاقاً كذلك من »الخروج« عن المنهجية الديمقراطية في تعيين الوزير الأول بعد الانتخابات التشريعية لعام 2002. المبادرة هنا، سيقودها جزء هام من المجتمع المدني، في بداية سنة 2005، حيث سيتم إعداد وثيقة مشتركة في موضوع الإصلاحات الدستورية، من طرف أربعين جمعية، ضمن أفق بناء الضمانات الدستورية لعدم تكرار ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال ما عرف بسنوات الرصاص. هذه الوثيقة اعتبرت أن أي إصلاح دستوري في مجال الحكومة عليه أن يحقق عدة أهداف منها: 1 الربط بين تعيين الوزير الأول ونتائج الانتخابات البرلمانية لمجلس النواب. 2 تقوية سلطة الوزير الأول على الجهاز التنفيذي برمته. 3 وضع حد للازدواجية بين سلطة الدولة وسلطة الحكومة. وهذا يقتضي تقوية سلطة الحكومة في تحديد السياسة العامة للدولة ومسؤوليتها أمام البرلمان. 4 تحديد وانتظام كل من المجلس الوزاري والمجلس الحكومي، حيث يختص المجلس الحكومي بتدارس كل القضايا التي تحال على المجلس الوزاري قصد البت فيها، إضافة إلى اقتراحات التعيين في الوظائف السامية كالسفراء وممثلو المغرب في المنظمات الدولية والعمال والولاة والكتاب العامون للوزراء ومدراء المؤسسات العمومية والمدير العام للأمن الوطني، ومدير الادارة العامة لمراقبة التراب الوطني والمديرون العامون ومديرو الادارة المركزية. وقبل التحضير لانتخابات 2007، كانت أحزاب الكتلة قد انطلقت في مسلسل صياغة مذكرة جديدة للإصلاحات الدستورية، حيث انتهت اللجنة الثلاثية المكلفة بذلك عملها، خلال فبراير 2007، ورغم أن هذه المذكرة لم يكتب لها أن ترفع إلى جلالة الملك، بالنظر الى تقرير سياسي مرتبط أساساً بالظرفية، فإنها مع ذلك تشكل على مستوى المطالب، أرضية مشتركة لأحزاب الاتحاد الاشتراكي، الاستقلال، والتقدم والاشتراكية. وقد وقفت هذه المذكرة، فيما يتعلق بمسألة الحكومة والوزير الأول على العناصر الخمسة التالية: أخذ نتائج الاقتراح المباشر في انتخابات مجلس النواب بعين الاعتبار عند تعيين الوزير الأول. التنصيص على مسؤولية الحكومة في تحديد وإدارة السياسة العامة للبلاد تحت مسؤولية الوزير الأول تضامنيا. إقرار انعقاد مجلس الحكومة دستورياً برئاسة الوزير الأول كل أسبوع، لمناقشة السياسات القطاعية المختلفة وتحضير مشاريع القوانين والمراسيم التي تعرض على المجلس الوزاري، واقتراح التسميات في الوظائف المدنية السامية لترفع الى المجلس الوزاري. حق الوزير الأول في اقتراح وإعفاء الوزراء على جلالة الملك، موازاة مع صلاحيته في اقتراح تعيينهم. إمكانية تفويض جلالة الملك للوزير الأول ليرأس المجلس الوزاري بناء على جدول أعمال مسبق. ثانيا: تقوية الوزير الأول والحكومة: مدخل أساسي لتقوية الطابع البرلماني لنظامنا السياسي يقدم الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011، إمكانية لاستئناف التحول الذي انطلق محتشماً مع دستور 1992، عندما تم التنصيص على مسؤولية الحكومة أمام البرلمان. إن المسؤولية السياسية المنطلقة من قاعدة، حيثما السلطة يجب أن تكون المسؤولية، تعد جوهر الفكرة الديمقراطية، وطبعاً فإن مسار دمقرطة النظام السياسي المغربي يرتبط أساساً بتقوية فضاءات المسؤولية وإجراءاتها ومساطرها. لذلك فهذه الديمقراطية رهينة بتعزيز الطابع البرلماني، تعزيز لا يمكنه إلا أن يتجلى في وضعية مؤسستي الوزير الأول والحكومة. إن دستور 2011، من هذا المنطلق، مطالب بالمرور من مرحلة ثنائية مسؤولية الحكومة أمام كل من المؤسسة الملكية والبرلمان، إلى مرحلة التنصيب المزدوج للحكومة من طرف كل من الملك والبرلمان. إن المسؤولية في الثقافة الديمقراطية تعني بالضرورة تسييس وظيفة الوزير الأول ووظيفة باقي أعضاء الحكومة، وهو تسييس يبدو طبيعياً بالنظر إلى انبثاق هذه الحكومة من الإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراح، والمترجمة في صورة أغلبية نيابية. لذلك، فدسترة المنهجية الديمقراطية تعني تكريساً لفكرة المسؤولية وتجسيداً لروح النظام البرلماني. قوة خطاب 9 مارس 2011، لا تقف عند حدود إقرار المسؤولية السياسية للحكومة، بل تتعدى ذلك إلى الجوانب الغائبة عن تعديلات 1992 و 1996، تلك المتعلقة باختصاصات هذه الحكومة وبصلاحيات الوزير الأول. فالحديث عن الوزير الأول كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والادارة العمومية وقيادة تنفيذ البرنامج الحكومي، يقدم إعادة تعريف دستوري وسياسي لمؤسسة الوزير الأول. إننا أمام إمكانية تحول تصبح معه مفاهيم مثل الوزراء التقنوقراط ووزراء السيادة، متناقضة تماماً مع فكرة الحكومة السياسية المنتخبة والمنبثقة من الأغلبية النيابية والمسؤولة أمام البرلمان. كذلك نحن أمام إمكانية تحول بإمكانه الجواب عن الركن الرئيسي في تقييم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي لتجربة التناوب، وهو إشكالية الازدواجية: حكومة/ دولة. إن تولي الوزير الأول للمسؤولية الكاملة على الحكومة والادارة العمومية، يعني إشرافه على المصالح الحكومية، سواء تعلق الأمر بالإدارة الترابية أو بالديبلوماسية... أو بغيرها من الإدارات المدنية. أمام اللجنة الاستشارية لتعديل الدستور، »»خطاب تكليف» ينطلق من مرجعيات مبدئية قوية، وذلك عندما يتحدث عن »توطيد مبدأ فصل السلط«، ثم عندما يدعو إلى »تقوية مكانة الوزير الأول كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية« وإلى »حكومة منتخبة« وإلى »ربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة». طريقة تدبير الترجمة المسطرية والقانونية، لهذا السقف »»المبدئي« «تطرح على اللجنة بعض الأسئلة: إن الخطاب الملكي لم يجعل من اختصاصات «»الملك الدستوري»« جزءاً من الثوابت غير القابلة للمس، كما هو الشأن بالنسبة لإمارة المؤمنين، فإلى أي مدى سيذهب توزيع الأدوار والاختصاصات داخل السلطة التنفيذية، بين المؤسسة الملكية ومؤسسة الحكومة، وبين المجلس الحكومي والمجلس الوزاري [الذي لم يذكر في الخطاب المذكور]؟ هل سنقف عند حدود نظام شبه رئاسي أم سنتجه إلى نظام برلماني بمجال محفوظ يتضمن الصلاحيات الدينية والعسكرية والاستراتيجية؟ صحيح أن خطاب 9 مارس 2011 لم يتحدث عن الملكية البرلمانية، لكنه في المقابل لم يتحدث كذلك عن الملكية التنفيذية؟ كيف سيتم تدبير الفصل 19، هي سيتم إعادة إدخال هذا النص الى المنظومة الدستورية المكتوبة، بشكل يسمح بسمو الوثيقة الدستورية وبتجاوز مفهوم الملك الراحل الحسن الثاني، لنظرية فصل السلط؟ حيث هذا الفصل غير مرتبط بالمؤسسة الملكية، بل بباقي المؤسسات الأدنى مستوى منها. (*) أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق