أخنوش يترأس جلسة عمل للوقوف على تقدم تنزيل خارطة طريق التشغيل    الوداد البيضاوي ينفصل عن موكوينا بالتراضي ويعين بنهاشم بدلا منه    نبيل باها : العمل القاعدي الحالي على مستوى كرة القدم سيجعل من المغرب "قوة كروية كبرى"    السلطات الألمانية توافق على تسليم محمد بودريقة إلى المغرب    المنتخب الوطني لأقل من 20 سنة يتوجه إلى مصر للمشاركة في كأس إفريقيا    دورة مدريد لكرة المضرب.. انسحاب ألكاراس من البطولة بسبب الإصابة    توقيف فرنسي مغربي للاشتباه في محاولة تهريبه لأزيد من 11 ألف من المفرقعات والشهب النارية    تأجيل جلسة محاكمة كريمين والبدراوي إلى غاية 22 ماي المقبل    منظمة دولية تندد ب"تصعيد القمع" في الجزائر    الملتقى الدولي لفنانين القصبة بخريبكة يؤكد ضرورة الفن لخدمة قضايا المجتمع    الكتاب في يومه العالمي بين عطر الورق وسرعة البكسل.. بقلم // عبده حقي    مهرجان سينمائي الفيلم التربوي القصير يرسخ البعد التربوي    بحث رسمي: 11.2% فقط من الأسر المغربية ترجح قدرتها على الادخار    نائب عمدة الدار البيضاء يتهم محسوبين على "جماهير الحسنية" بتخريب بعض مرافق ملعب محمد الخامس    واتساب تطلق ميزة "الخصوصية المتقدمة للدردشة" لحماية المحادثات من التصدير والتنزيل التلقائي    المجلس الاقتصادي والاجتماعي يدعو إلى احترام حق الجمعيات في التبليغ عن جرائم الفساد    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    بنكيران يناشد "إخوانه" بالتبرع لتغطية تكاليف عقد مؤتمر "المصباح"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    سلسلة هزات ارتدادية تضرب إسطنبول بعد زلزال بحر مرمرة وإصابة 236 شخصاً    الصين تنفي التفاوض مع إدارة ترامب    وزراء الخارجية العرب يشيدون بالجهود المتواصلة التي يبذلها الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس من أجل الدفاع عن القدس الشريف    20 مليار مقطع فيديو حُمّلت على "يوتيوب" منذ إطلاقه قبل 20 سنة    الدورة الخامسة للمهرجان الدولي للفيديوهات التوعوية: منصة للإبداع المجتمعي تحت شعار "مواطنة مستدامة لعالم يتنامى"    روبي تحيي أولى حفلاتها في المغرب ضمن مهرجان موازين 2025    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأخضر    مديرة وكالة الدعم الاجتماعي من واشنطن: الميزانية السنوية للدعم الاجتماعي قد ترتفع إلى 30 مليار درهم    اتحاد طنجة يحتج بشدة على "المهزلة التحكيمية" ويطالب بفتح تحقيق عاجل    الملك محمد السادس يعطي اليوم انطلاقة أشغال مشروع القطار فائق السرعة "LGV" القنيطرة – ومراكش    مجلس حزب الاستقلال بإقليم ميدلت يدعو إلى تخليق الحياة العامة والنهوض بالأوضاع التنموية    حشود غفيرة تودع البابا فرنسيس    الجيش المغربي يجري مناورات "فلوطيكس 2025" في المتوسط لتعزيز جاهزية البحرية    وعي بالقضية يتجدد.. إقبال على الكتاب الفلسطيني بمعرض الرباط الدولي    المدير التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة: المغرب نموذج بارز للابتكار    الحبس ثلاث سنوات لشرطي وسنتين لآخر وتبرئة الثالث في قضية ياسين شبلي ومحاميه يصف الأحكام ب"الصادمة"    الصين تعلن عن التجارب الجديدة لعلوم الحياة في محطة الفضاء    في 58 دائرة انتخابية.. "الأحرار" يهيمن على نتائج الانتخابات الجماعية الجزئية    شراكة رائدة بين بيوفارما و الفدرالية المغربية لمربي أبقار سلالة أولماس – زعير لتطويرهذه السلالة المغربية    خالد بوطيب يجبر فيفا على معاقبة الزمالك    كيوسك الخميس | المغرب وجهة استراتيجية للمصنعين الأوروبيين للسيارات    جهة الداخلة – وادي الذهب تضع الاستثمار في صلب دينامية التنمية الجهوية    برادة يحوّل التكريم إلى "ورقة ترافعية" لصالح المغاربة و"اتحاد الكتاب"    السبتي: العنف الهستيري ضد غزة يذكّر بإبادة الهنود الحمر و"الأبارتايد"    "الذكاء الاصطناعي" يرشد الفلاحين بالدارجة في المعرض الدولي بمكناس    إيواء شاب يعاني نفسيا مستشفى انزكان بعد احتجاج عائلته على عدم قبوله    مشاركة OCP في "سيام".. ترسيخٌ للعنصر البشري في التحول الفلاحي    منتوج غريب يتسبب في تسمم 11 طفلا باشتوكة    مقاضاة الدولة وأزمة سيادة القانون: الواقع وال0فاق    الحكم الذاتي والاستفتاء البعدي!    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    أمريكا تتجه لحظر شامل للملونات الغذائية الاصطناعية بحلول 2026    المغرب يعزز منظومته الصحية للحفاظ على معدلات تغطية تلقيحية عالية    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الى أين نحنُ ذاهبون؟
نشر في لكم يوم 11 - 05 - 2013

كثيرة هي الأسئلة الموجّهة إلى هؤلاء "المجاهدين" والى دافعي أجورهم من السعودية وقطر وسواهما من حظائر سايكس – بيكو القديمة والجديدة. ولن نجد عند هؤلاء من إجابات، فالإجابات "الصحيحة" تأتي من واشنطن ومن تل أبيب!
لا بدّ من التزام الحذر، والحذر الشديد، من استطرادات جريمة سايكس – بيكو، ومشاريع التجزئة الجديدة، تجزئة المجزّأ، التي يوجّهها الغرب الاستعماري الرأسمالي المتوحّش ضدّنا بلا هوادة، وبمساعدة عملائه وركائزه في وطننا الكبير.
نحن العرب، مطالبون بمواجهة المرآة، لنطرح على أنفسنا سؤالًا لا يقبل التأجيل والمماطلة: الى أين نحن ذاهبون؟
وأصل السؤال، عندي شخصيًا، هو أنني أرفض الاستبداد والفساد، لا في الوطن العربي فحسب، بل في كلّ ركنٍ من أركان الأرض، وتفاءَلتُ خيرًا بثورات ما اصطلحوا على تسميته بالربيع العربي، حتى في أعقاب المخاوف والشكوك التي رافقت هذا المسار الربيعيّ، والتشنيعات على "الخريف العربي" و"الشتاء العربي" و"ربيع" الحركات التكفيرية الظلامية.
*التناقض بين القومية والدين هو تناقض مختلَق ومفتَعل*
لم أفقد تفاؤلي، لأن أهمّ ما في الأمر، كان بالنسبة لي انهيار جدران الخوف وأقبية الرعب، من الأنظمة المخابراتية القمعية البشعة، وظهور إنسان عربيّ جديد تمرّد، بلا رجعة، على الفساد والاستبداد، الذي دمّر حياتنا وشلّ إرادتنا لعقود طويلة وفادحة.
وللإيضاح فقط، فأنا من الجيل الذي فتح عيونه سياسيًا وفكريًا على ثورات وانقلابات عسكرية فجَّرتْها نكبة فلسطين، ورفعتْ شعارات قومية واجتماعية تقدمية، ضد الثالوث الدنس، الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية، وفي سبيل تحرير الأرض المحتلة وإقامة العدل الاجتماعي وتحقيق الوحدة العربية على أنقاض مشروع سايكس- بيكو الشيطانيّ الرهيب.
لأكثر من سبب، ذاتيّ وموضوعيّ، لم يتجسّد لجيلنا شيء من أحلامه في الحرية والوحدة والاشتراكية. لكن جيلنا لم يستسلم لليأس، وكان لي أن قلت في أحد ليزراتي: "اليأس رفاهٌ باهظ التكاليف، ولا قِبَلَ لنا بتسديد فاتورته!".
ثم تفاءَلنا خيراً بمسلسل "الربيع العربي" الذي سطع من لهب الشهيد محمد البوعزيزي في تونس الغالية. إلا أنّ تداعيات هذا الربيع وانحرافات مساره دفعتنا الى نعته "بربيع القلق"، دون التخلّي عن اعتباره "الثورة السابعة" في التاريخ العربي، وفق التسلسل التالي:
1. ثورة الإسلام والرسالة المحمديّة ضد العصبيّة القبليّة وعبادة الأصنام.
2. ثورة القرامطة على الظلم الاجتماعي والقهر الطبقي.
3. الثورة على الشعوبية السلبية، وتسلّل عناصرها الحاقدة على العرب، إلى مواقع الحكم والقرار في الخلافة العباسيّة وما بعدها.
4. الثورة على السلطنة العثمانية الاستعلائية القمعية والعنصرية ضد العرب وشعوب السلطنة الأخرى.
5. الثورة على الاستعمار الغربي المتآمر والدموي والتجزيئي بمشروع سايكس –بيكو البشع والرهيب والمستمر إلى يومنا هذا.
6. الثورة على الأنظمة العميلة التي أسهمت في وقوع النكبة الفلسطينية.
7. الثورة الجديدة، ثورة الربيع العربي، أو "ربيع القلق"، على الاستبداد والفساد.
ولأنّ المؤمن لا يلدغ من جُحر مرتين، فلا نستطيع إلا أن نكون حذرين، حذرين جدًا، من السلبيات المتراكمة، في الممارسة الخطيرة، ضد العقلانيين والعلمانيين واليساريين والليبراليين والمتنورين والوطنيين والقوميين الشرفاء، في تونس وليبيا ومصر وفي سورية هذه الأيام.
ثمّة سطو واضح على ثورات "ربيع القلق"، أو ما ندعوه "الثورة السابعة" في التاريخ العربي.
في كتابه "بلاغة الحرية" يقول الباحث المصري الدكتورعماد عبد اللطيف إن ثورات الربيع العربي "يجني ثمارها محترفو الصناديق"، وهو يعني سيطرة الحركات السياسية الدينية كحركة النهضة في تونس وحركة الإخوان المسلمين في مصر، عبر صناديق الاقتراع، على مقدّرات الثورة ومصيرها ومسارها، الأمر الذي يقلّص أو يلغي الأهداف الأصلية التي قامت لأجلها الثورة.
وفق وسائل الإعلام فإن ستّاً وتسعين عملية إحراق ذات قام بها شبان عرب بعد البوعزيزي، في تونس نفسها وفي مصر وفي الجزائر والمغرب، احتجاجًا على القمع والبطالة والفقر والاستبداد والفساد، ويقينًا أن أهداف الثورة الشبابية من أجل الحرية والعلم والعمل والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، لا يمكن أن تتحقق بإطباق قبضة الدين السياسي على مقاليد السلطة والتفرّد في اتخاذ القرارات وحسم المصائر والاتجاهات.
ولنا، بالطبع، أن نخشى التحولات المقلقة والممارسات السيئة التي تشهدها الساحة السورية.
لقد تعاطفنا مع هبّة درعا ضد المحافظ السلطويّ الفاسد الذي عذّب الأطفال وأهان الآباء والأمهات، وطالبنا بمحاكمته وبمعاقبته، وبإجراء إصلاحات جادة وعميقة تضمن حرية الرأي وحرية العقيدة وحرية التعبير في الجمهورية العربية السورية، التي نرى فيها آخر معاقل العروبة وآخر قلاعها. فإذا انهارت سورية فستنهار مفاهيم العروبة والقومية العربية، وستتحوّل الأقطار العربية الى "أمريكا لاتينية" متفكّكة لا يجمعها رابط قوميّ من شأنه أن يؤدي الى وحدتها لاحقًا.
أصبح واضحًا أن مشروع تدمير سورية، الأمريكي – الإسرائيلي – الأوروبي، تبنّته وتحرص على تنفيذه دويلات العربان مثل قطر والسعودية التي لا تعرف الحرية، بل تمقتها مقتًا عدوانيًا، وترفع في الوقت نفسه شعار "حرية سورية" بصورة عبثية مقزّزة. ومن المؤسف والمثير للقلق أن شعارات الشارع في سورية هي شعارات غيبيّة ودينية لا تجد بينها، إلا فيما ندر، شعارًا يحمل معنى العروبة والديمقراطية وحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية.
ومن المؤسف والمثير للقلق ايضًا، أن مجموعات تكفيرية إرهابية متخلّفة أخذت تسيطر على الحراك الشعبي وتوجهّه إلى منعرجات ظلامية خطيرة، بعمليات الخطف العشوائي والتصفيات الجسدية والاعتداء على الكرامات والأعراض والمعالم التراثية.
أعلن الأخضر الإبراهيمي أن أربعين ألفًا من المقاتلين الأجانب دخلوا سورية باسم "الجهاد ضد النظم العلوي النصيري الكافر". ولنا أن نتساءَل عن موقف هؤلاء "الجهاديين" من الأنظمة العربية الأخرى التي لا تقلّ "كفرًا وفسادًا واستبدادًا"، لكن "فضيلتها" الوحيدة أنها ليست "علوية نصيرية". ثم أن حاكم سورية هو حزب البعث العربي الاشتراكي وليس مشيخة الطائفة العلوية!!
إن اقحام الفيروسات الدينية الطائفية والمذهبية المتخلّفة على أية هبّة شعبية، يشوّه صورتها ويحرف مسارها ويلوّث غاياتها وأهدافها، وهذا ما يجعلنا أشدّ قلقًا على سورية شعبًا وأرضًا ومستقبلًا.
ومن حقنا أن نتساءَل عن الأربعين ألف مجاهد المبثوثين في سورية، وعن "حراكهم الثوريّ المقدّس"، على طريق تحرير الجولان من الاحتلال الإسرائيلي. ولنا أن نسألهم عما "جاهدوا" به لتحرير القدس والمسجد الأقصى. ولنا أن نسألهم عن "جهادهم" لحماية مسلمي الروهينغيا في ميانمار، وعن عدم استجابتهم لنداءاتنا المتكررة لأكثر من عام، لحماية الروهينغيا"، وعدم التفاتهم لاستغاثات هؤلاء المسلمين المساكين، المتعرضين للذبح وللاغتصاب وللحرق والتشريد. ولنا أن نسأل هؤلاء "المجاهدين" عن جهادهم في سبته ومليلية، وعن جهادهم في الأحواز، وعن جهادهم في أوغادين، وعن جهادهم في لواء اسكندرون.
كثيرة هي الأسئلة الموجّهة إلى هؤلاء "المجاهدين" والى دافعي أجورهم من السعودية وقطر وسواهما من حظائر سايكس – بيكو القديمة والجديدة. ولن نجد عند هؤلاء من إجابات، فالإجابات "الصحيحة" تأتي من واشنطن ومن تل أبيب، ولا تأتي من أوكار العبيد والأقنان والمرتزقة (والكفّار والخونة!). لهؤلاء فتاواهم. حسنًا، ولسواهم فتاواهم في مصائب الوطن والأمّة التي يتساءَل أبناؤها بكلّ الوجع والقلق: "إلى أين نحن ذاهبون؟".
وقد يتنطّع للإجابة، من جديد، نفرٌ من أولئك المغلقين الذين لا يرون إلا واحداً من خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما الطغاة، وإما الغزاة.
ويأتيهم ردّنا على الفور: "ثمّة خيارٌ ثالث، هو خيار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية، ولن تمرّ بعد اليوم لعبة التخويف من مقاومة الاستبداد، لأن من شأن ذلك أن يستدرج "التدخّل الأجنبي"! أو أنه سيؤدي الى حكم "الحركات الدينية"!.
ولم يعد من المقبول أو المسكوت عنه هذا التخيير العبثي الساقط والشرّير، بين دكتاتورية الخوذة الحربية والحذاء العسكري، ودكتاتورية العمامة وعصا المطوِّع.
وانكشفت الى غير رجعة مهزلة استعمال الديمقراطية، أداةً صالحة للاستعمال مرةً واحدة، لبلوغ السلطة بهدف إنهاء مهمة الديمقراطية، وإلغاء مبدأ تداول السلطة، وإحلال نهج التفرُّد بالسلطة واغتصابها الى الأبد.
عرفنا في تاريخنا ما تجوز تسميته "بالشعوبية الإيجابية"، لأنها كانت حركة احتجاج من جانب المهمّشين والمقموعين من أبناء الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام. لكننا عرفنا أيضًا ما تجوز تسميته "بالشعوبية السلبيّة"، وهي النعرات القومية المعادية للعرب والتي تزعم أنهم أقلّ شأنًا وإسهامًا في الحضارة العربية الإسلامية، وأنهم ليسوا سوى "أعاريب" بطشوا بشعوب أرقى منهم وأذلّوها واستغلّوها تحت راية الإسلام.
هذه "الشعوبية السلبيّة" ما زالت تتجلّى في مواقف تلغي القوميّة إلغاءً تاماً، وتزعم أن الدين هو الفيصل الوحيد، لدرجة أن أحد هؤلاء "الشعوبيين الجدد"، أصدر كتابًا ينكر فيه عروبة النبي محمد بن عبدالهً (ص).
قلنا في أكثر من مداخلة سابقة إن التناقض بين القومية والدين هو تناقض مختلَق ومفتَعل، وإن الرسول العربي الكريم هو مؤسّس "القومية العربية"، بتصدّيه للعصبيات القبلية الجاهلة، لكنه في الوقت نفسه مؤسّسٌ للأمميّة الإسلامية، بقوله مثلاً "الناس سواسية كأسنان المشط"، أو قوله "ليس منَّا من دعا إلى عصبيّة"، و "لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"، منسجمًا تمامًا مع الآيات القرآنية الكريمة "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.." "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".. وسوى هذه النصوص التي تمجّد الكتاب الذي أنزله الله "قرآنًا عربيًا"، لكنها تؤكد على المساواة بين البشر، ورفض التمييز على أسس عرقية وعنصرية أو بحساب لون البشرة والجنس والقومية.
ومن هنا، بالذات، كان احتجاجنا الدائم والمبدئيّ على تهميش الأكراد والفرس والأمازيغ (البربر) والزنوج، فطارق بن زياد كان بربريًا، وصلاح الدين الأيوبي كان كرديًا وكثيرون من كبار العلماء كانوا من الفرس والشعوب الأخرى التي اعتنقت الإسلام وشاركت في إنشاء الحضارة العربية الإسلامية العظيمة، والتي هي الأمّ الشرعيّة للحضارة الحديثة في أوروبا وفي العالم كله.
ثم أننا رفضنا دائمًا "استيراد" المفاهيم القومية، من التيارات القومية العنصرية والفاشية والنازية في أوروبا، واستنكرنا أداء التحية "الرومانية-النازية" في بعض الأحزاب القومية العربية الحديثة التي استنسخت شعاراتها القومية والاجتماعية من الغرب ولم تبنِ أيديولوجياتها ورموزها على الموروث العربي الغني والعظيم والمنافي للعنصرية وللتطرّف، في جوهره الإنساني الأمميّ، الناشئ من عمق البداوة، وحاجة البدويّ إلى نفس بشرية تؤنس وحدته وتشاطره الحياة، وهو الذي لم يتردّد عن بناء علاقات "إنسانية" مع طيور الصحراء وزواحفها وحيواناتها.
قلنا ونكرّر ونعيد إن "العلمانية" ليست نقيض "الإيمان" بل هي نقيض "الجهلانية"، فالبدلة الأوروبية ليست دليلًا على الكفر بالله، بمثل أن الجبّة والعمامة ليست دليلًا قاطعاً على الإيمان بالله. وحذّرنا من ليّ ذراع الدين لتبرير التنكيل بالنساء واعتماد النهج "الطالباني" المعادي لجوهر الدين ومعانيه الأصلية والأصيلة.
ثم كان علينا أن نتصدّى لتيارات ظلامية متخلّفة لم تتورّع عن المطالبة بهدم الآثار والمعالم الحضارية السابقة للإسلام، والتي حافظ عليها الإسلام نفسه طيلة خمسة عشر قرنًا.
كُثر بيننا من يدعون اليوم إلى تجديد "نظام الخلافة". ونحن نسألهم عن المضمون السياسيّ والفكري والاقتصاديّ والاجتماعي الذي يرمون إليه من وراء هذه الدعوة.
لقد حافظت الخلافة الراشدية والأموية والعباسية والفاطمية على مفهوم الاجتهاد الذي أسّس له الرسول (ص) بحديثه العظيم "من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر". وحافظت الخلافات "العربية" على احترام التعددية الدينية والعقدية، وأتاحت لليهود وللنصارى مماسة شعائرهم الدينية وشريعتهم القضائية والاجتماعية، بما يمكن اعتباره فصلًا بين الدين والدولة، فما هو موقف دعاة الخلافة الجدد من هذه المسائل الهامة قطعًا؟
ما زالت شرائح عريضة في الغرب، تنظر إلينا وتتعامل معنا بعقلية "حروب الفرنجة" أو "الحملات الصليبية" حسب التسمية الغربية، ومقابل هؤلاء "المحافظين الجدد" فقد ظهر بيننا من نسميهم "الجاهليين الجدد"، وهم دعاة القطيعة التامة مع الحضارة الغربية التي نرى نحن أنها الاستمرار التاريخي لحضارتنا العربية الإسلامية، ولا نجد غضاضة في الاستفادة منها والاعتماد عليها في تطوير أوضاعنا وتغيير شروط حياتنا نحو الأفضل والأجمل والأنقى والأرقى.
ورغم ذلك فلا بدّ من التزام الحذر، والحذر الشديد، من استطرادات جريمة سايكس – بيكو، ومشاريع التجزئة الجديدة، تجزئة المجزّأ، التي يوجّهها الغرب الاستعماري الرأسمالي المتوحّش ضدّنا بلا هوادة، وبمساعدة عملائه وركائزه في وطننا الكبير.
ولأسفنا الشديد ففينا نحن من "تبنىّ" سايكس – بيكو ويعمل حارسًا لها، ويعادي دعوات الوحدة العربية القائمة على التفاهم والتراضي والتخطيط العلمي، لاستعادة موقعنا التاريخيّ، أمّة موحدة وقوية ومبدعة تحت شمس الله وبين شعوب الأرض.
ومن حقنا القلق الشديد ممّا يحدث الآن في مختلف أرجاء الوطن العربي، من تراجع الوعي القومي التقدمي، إزاء مدّ أهوج من الطائفية والمذهبية والإقليمية والقطرية والقبلية، حتى ان الانتماء القومي أصبح في خطر، والثقافة العربية في خطر، لتغليب اللغات الأجنبية واللهجات المحلية على اللغة العربية الفصحى، لا في الحياة اليومية فحسب، بل في المؤتمرات والفعاليات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة أيضًا.
هكذا، لما قيل، ولمزيدٍ مما يمكن أن يقال في تشخيص وضعنا العربيّ الراهن، فإننا لا نرى مكانًا للتراخي وللترهُّل، ولا نجد مبرِّرًا لبلادة الإحساس وغضّ النظر، ولا نعثر على جدوى في الإهمال والطمأنينة والتجاهل والتساهل، بل لا بدّ لنا من مواجهة مرايانا ومواجهة ذواتنا ومواجهة عقولنا وضمائرنا وأرواحنا وأحلامنا، بالسؤال الحادّ والموجع والمثير: إلى أين نحن ذاهبون؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.