جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في العلاقة بين العروبة و الإسلام.. نماذج في النقد الذاتي
نشر في لكم يوم 30 - 05 - 2012


- عود على بدء
حينما أثرنا النقاش؛ في دراسة سابقة؛ حول إشكالية العلاقة بين العروبة و الإسلام في المشروعين؛ القومي و الإسلامي؛ كانت غايتنا فتح نقاش عميق حول هذه القضية؛ سواء في بعدها الفكري أو في بعدها السياسي؛ خصوصا و أن التيارين معا ظلا؛ لعقود؛ يمارسان سياسة صم الآذان في مواجهة الطرف الآخر؛ مع ما يستتبع ذلك من سياسة إلغاء مدروسة؛ إما لمكون العروبة لدى التيار الإسلامي؛ أو لمكون الإسلام لدى التيار القومي .
لقد فكرت في تطوير هذا النقاش؛ بعد اطلاعي على الكثير من أدبيات التيارين الإسلامي و القومي؛ في علاقة بالمسألة؛ لكن ما استوقفني؛ أخيرا؛ هو أن هناك أصوات من التيارين معا؛ كانت على وعي كبير بالإشكالية؛ و لذلك سعت إلى ممارسة نوع من النقد الذاتي؛ في علاقة بمرجعياتها الإيديولوجية؛ و نحن تهمنا هذه الأصوات؛ التي استطاعت أن تغلب المقاربة الفكرية على المقاربة السياسية/الإيديولوجية؛ في معالجتها لإشكالية العلاقة بين العروبة و الإسلام. و قد نجحت؛ من خلال محاولتها هذه؛ في استعادة قسط من التوازن الذي اختل؛ طيلة عقود من الصراع الإيديولوجي؛ كانت نتيجته؛ في الأخير؛ تهديد مباشر لمقومات الهوية العربية/الإسلامية؛ مع ما نشأ عن ذلك من اختلالات اجتماعية و ثقافية و سياسية ...
1- مراجعات الموقف الإسلامي .. السيد محمد حسين فضل الله نموذجا
ظهر التيار الإسلامي؛ في العالم العربي؛ في علاقة بالتحولات التي عرفتها الفكرة الدينية/الإسلامية؛ في سعيها لتحقيق العودة إلى النموذج السياسي الخليفي؛ كما ظهر كرد فعل من الأعراق غير العربية ( فرس؛ أتراك؛ هنود ...) ضد مكون العروبة؛ الذي اندمج مع المكون الإسلامي؛ لقرون؛ الشيء الذي تجلى لهؤلاء؛ باعتباره تهديدا لانتمائهم العرقي؛ و لذلك فقد سعوا إلى فصل الإسلام عن العروبة؛ محاولين بذلك تأكيد انتمائهم للحضارة الإسلامية؛ مع محاولة إلغاء المكون العربي منها.
لكن؛ إذا كان الأمر واضحا؛ في علاقة بمختلف الأعراق غير العربية؛ فإن الغموض يلف موقف الحركة الإسلامية في العالم العربي؛ التي استنسخت المشروع الحركي الإسلامي؛ إما في علاقة بالمودودي أو في علاقة بالخوميني؛ رغم أن الرجلين كانت لهما أجندتهما الخاصة؛ في علاقة بمشروعهما الفكري و السياسي؛ و هي أجندة لا يمكنها أن تنسجم؛ بالضرورة؛ مع المشروع الإسلامي في العالم العربي .
إن هذا الوعي؛ هو الذي استطاع أن يخترق المشروع الفكري؛ لواحد من أهم رموز الحركة الإسلامية ( ذات النزوع الشيعي)؛ و هو المرجع السيد محمد حسين فضل الله الذي دافع؛ بقوة؛ في كتاباته عن الارتباط الوثيق بين العروبة والإسلام؛ و هذه شجاعة فكرية و سياسية نادرة من مرجع شيعي؛ استطاع أن يتمرد على الإيديولوجية الشعوبية؛ التي صاغها القوميون الفرس؛ منذ العصر العباسي و مرورا بالثورة الخومينية؛ التي قلدت آيات الله كرسي الحكم.
يؤكد السيد فضل الله بوضوح تام: " لا مبرر على الإطلاق لمعارضة الإسلام بالعروبة أو العروبة بالإسلام، إلا إذا كانت العروبة جاهلية، أو كان فهم الإسلام شعوبياً مشوهاً" و السيد فضل الله واضح هنا؛ في الفصل بين العروبة كامتداد حضاري؛ و بين العروبة كانتماء قبلي/عرقي ضيق (الجاهلية)؛ و بنفس الوضوح يفصل السيد فضل الله بين الإسلام كواقع تاريخي لم ينفصل عن العروبة؛ و بين الإسلام الشعوبي؛ الذي تم توظيفه لتفيكيك أوصال الهوية العربية/الإسلامية الواحدة؛ إلى هويات متصارعة.
و في رسالة غير مباشرة لقادة الحركة الإسلامية في العالم العربي؛ الذين يسعون إلى استنساخ نماذج الآخر لتوجيه الواقع العربي؛ يؤكد السيد فضل الله: " أنا لا أتصوّر أن معنى؛ بأن تكون إسلامياً هو أن تنكر صفوف أمتك.. فلك أرض أنت مسؤول عنها؛ ولك شعبك الذي هو جزء من مجتمعك ولك مستقبلك الذي يرتبط بأكثر من جانب" .
هند عبيدين – أولويات الوحدة والنهوض في خطاب الإمام السيد محمد حسين فضل الله- مجلة تحولات - العدد التاسع عشر - شباط 2007 -
إن السيد فضل الله يمتلك الوضوح المنهجي الكافي؛ حينما يفصل بين انتمائه المذهبي الشيعي؛ و بين انتمائه للعروبة؛ أرضا و أمة و شعبا؛ و هو هنا يوجه رسالة واضحة في كل الاتجاهات؛ و خصوصا في الاتجاه الشيعي داخل الوطن العربي؛ هذا الاتجاه الذي اختلط عليه الأمر؛ و تحول الكثير من رموزه إلى دعاة شعوبيين؛ يخلطون بين المذهب و الانتماء الحضاري للعروبة؛ المهد الأول للإسلام.
و في حوار أجرته معه مجلة المستقبل العربي؛ يسعى السيد فضل الله؛ إلى تأكيد العلاقة الوطيدة بين العروبة و الإسلام؛ فهو يذهب إلى أن " الإسلام يمثل هذا الدين الذي هو في عقيدة المسلمين، والذي أنزله الله على رسوله في المنطقة العربية التي هي منطقة الدعوة الأولى، والتي أرادت للعرب رسالة يحملونها إلى العالم" و يضيف السيد فضل الله بكامل الوضوح: " فالقرآن انطلق في البداية لينذر أم القرى وما حولها، ولينذر المنطقة العربية. ولقد احتضن العرب الذين دخلوا في الإسلام، الإسلام كلّه. ومن الطبيعي أنهم أعطوه شيئاً من تجربتهم، ومن تمثّلهم له، ومن اجتهاداتهم في فهمه، ومن حركتهم في اتجاه تحريكه في وجدان العالم" .
هذا الكلام ليس لقومي عربي متطرف؛ كما يحلو للبعض أن يصور؛ و لكنه كلام العقلاء من الذين أدركوا الحكمة؛ و خاضوا؛ بشجاعة أدبية؛ تجربة نقد ذاتي لمرجعياتهم الفكرية و الإيديولوجية؛ لأنهم يدركون أن التاريخ يمتلك ذاكرة حية؛ فهو يسجل كل الأحداث و لا يضفي عليها نزعة ذاتية يمكن أن تغير مسارها في الكثير من الأحيان. و لذلك؛ لا يمكن للشعوبية الفارسية أن تغير التاريخ؛ كما لم يكن بإمكانها يوما أن تغير الجغرافيا؛ و ذلك رغم المجهودات الجبارة التي بذلت؛ منذ العهد العباسي؛ حيث سيطروا على الحكم؛ و إلى حدود سيطرتهم الراهنة على مركز الحضارة العربية؛ في البصرة و بغداد.
عندما يعود السيد فضل الله إلى هذا التاريخ المفترى عليه من قبل الشعوبيين؛ و يجول بعقله الباطن؛ لا يتردد في الصدع بما قد يقلق راحة آيات الله في طهران؛ " لقد استطاع الإسلام أن يعرّب شعوباً أخرى، وأن يعرّب الكثيرين من العلماء والمفكرين من الشعوب الأخرى. وفي هذا المناخ، استطاعت العروبة أن تعطي الإسلام كثيراً من حيويتها الحركية، واستطاع الإسلام أن يعطيها الكثير من خصائصه الحضارية في مفاهيمه وتشريعاته ومناهجه، واستطاع أن يمنحها امتداداً، وأن يتداخل معها لتصنع العروبة بالإسلام الحضارة التي قيل عنها إنها أم الحضارات" .
و هذه ليست إيديولوجيا يروج لها السيد فضل الله؛ بل هي حقائق تاريخية ثابتة؛ فالإسلام يحمل روحا عربية؛ منذ بداياته الأولى و إلى حدود الآن؛ و المقصود بالعروبة هنا؛ ليس هو الانتماء العرقي الضيق؛ الذي يثورعليه الشعوبيون و يستبدلونه بانتماء عرقي أكثر ضيقا؛ بل العروبة كامتداد حضاري؛ ساهمت في بنائه شعوب مختلة من آسيا إلى إفريقيا و أروربا؛ و هذا الغنى و الثراء هو الذي سمح للعروبة بدمج الإسلام؛ كمكون أساسي؛ ضمن رصيدها الحضاري.
مجلة المستقبل العربي- العدد 281 / تموز 2002، حوار هاشم قاسم - محور: " العلاقة بين العروبة و الإسلام ".
إننا حينما نقدم موقف مرجع شيعي كبير؛ حول علاقة العروبة بالإسلام؛ فإنما نبتغي توجيه رسالة واضحة إلى كل أقطاب الحركة الإسلامية؛ و خصوصا من نهل منهم من فكر الخوميني أو المودودي؛ مفادها أن العروبة تمثل روح الإسلام؛ و لذلك لا يمكن أن نفهم رسالة الإسلام فهما عميقا؛ إلا من داخل البراديغم الثقافي العربي.
2- مراجعات الموقف القومي.. الأستاذ ميشيل عفلق نموذجا
يعتبر الأستاذ ميشيل عفلق؛ الأب الروحي للتيار القومي العربي؛ مجسدا في أحزاب البعث؛ و هو بالإضافة إلى كونه من كبار القادة السياسيين؛ فهو كذلك؛ من بين أهم رموز الفكر العربي الحديث. بدأ الأستاذ ميشيل عفلق حياته الفكرية و السياسية مدافعا عن التجربة العلمانية في العالم العربي؛ و هو بذلك كان منظرا للفصل بين العروبة و الإسلام؛ معتبرا أن استعادة الأمجاد العربية؛ يجب أن يمر؛ بالضرورة؛ عبر الخيار القومي؛ لأن الإسلام يجمع مختلف الأعراق و الأمم؛ و هو بذلك ليس مؤهلا لبناء تجربة سياسية عربية ناجحة. هذا ما كنا نعرفه عن رجل البعث الكبير لكن؛ هناك زوايا ظلت مجهولة في مشروعه الفكري و السياسي؛ و لم نعرها الاهتمام الكافي كباحثين و متابعين؛ كما لم يعرها مناضلو أحزاب البعث الاهتمام الكافي كذلك.
يحدثنا الأستاذ منير شفيق عن هذه الزوايا المجهولة في مشروع عفلق فيقول: منذ حقبة السبعينات – و استقرار ميشيل عفلق بالعراق- بدأت قسمة الحديث عن الإسلام في مشروعه؛ فاتسعت مساحة الحديث عن الإسلام؛ و ضمن هذا التطور أخذ الرجل يلقي الأضواء على الدور المحوري و المصيري (لاكتشافه الإسلام)؛ منذ فجر حياته الفكرية و النضالية .. و اكتشافه خصوصية العلاقة بين الإسلام و العروبة.. و الدور المحوري و المصيري لهذا الاكتشاف في تميز صيغة البعث عن الصيغ التي كانت سائدة في ساحة الفكر و السياسة العربية في عقد الأربعينيات.. صيغ القومية المجردة من الدين؛ كرد فعل ضد هيمنة الدولة العثمانية على العالم العربي؛ أو تقليد للقوميات الغربية العلمانية؛ و الصيغة الليبرالية الغربية.. و كذلك الصيغة الماركسية الشيوعية المادية . محمد عمارة- التيار القومي الإسلامي –1997– ص: 166
إن ما يهمنا من هذا الكلام؛ هو التأكيد على المراجعات الفكرية التي خاضها الأستاذ ميشيل عفلق في علاقته بالإسلام؛ و هي مراجعات ترتبط؛ بالتأكيد؛ بموقفه الجديد من العلمانية؛ كما صاغها المشروع القومي. و يمكن التوقف في هذه المراجعات عند مرحلتين:
خلال المرحلة الأولى؛ حاول الانفتاح على الإسلام كتجربة سياسية؛ استطاعت توحيد القبائل العربية المتناحرة في دولة واحدة؛ و لذلك؛ فقد كان يعلن أن ما يعنيه من الإسلام هو إسلام التجربة فقط؛ لأن إسلام الدين الصرف مفرق للأمة و ليس جامع لها. محمد عمارة – ص: 167.
خلال المرحلة الثانية؛ انتقل الأستاذ ميشيل عفلق إلى الربط بين الإسلام الدين و الإسلام التجربة؛ فاخذ يطور فكره حيال هذه القضية؛ فتناثرت في كتاباته الإشارات إلى الربط بين الإسلام (الدين) و الإسلام (التجربة) – محمد عمارة – ص: 167 .
و كنتيجة لهذا التطور في فكر الأستاذ ميشيل عفلق؛ فقد أصبح الإسلام يمثل ركيزة أساسية ضمن مشروعه الفكري و السياسي لكن؛ أحزاب البعث لم تكن مؤهلة لتقبل هذه المراجعات الفكرية الجريئة؛ لأنها كانت تنظر إليها كتهديد للخيار العلماني للدولة؛ هذا الخيار الذي يحفظ مصالحها؛ في مواجهة المد الإسلامي المتنامي؛ و الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين؛ التي كانت الشغل الشاغل لقادة أحزاب البعث؛ و خصوصا في مصر و سوريا؛ التي عاشت على إيقاع مواجهات عنيفة؛ بين الجماعة و الأنظمة البعثية الحاكمة.
لكن؛ و رغم فشل التجربة على مستوى الممارسة السياسية؛ فإن الأستاذ ميشيل عفلق؛ واصل طريقه مدافعا عن العلاقة العضوية بين العروبة و الإسلام؛ فهو حينما يتحدث عن هذه العلاقة يؤكد؛ " الصلة بين العروبة و الإسلام؛ كما نراها و نؤمن بها؛ هي صلة عضوية لا يمكن أن تنفصم؛ صلة تاريخ؛ و هي مستمرة منذ القدم؛ حية لا تموت؛ و هي أيضا صلة تجديد .
و لذلك؛ فإن الأستاذ ميشيل عفلق لا يتصور أي نجاح للنهضة العربية؛ من دون استحضار هذه الرابطة العضوية بين العروبة و الإسلام؛ " النهضة العربية ستكون نهضة شاملة؛ نهضة في الفكر و نهضة في الدين و نهضة في الفن؛ و نهضة في البناء المادي و الاقتصادي؛ و لذلك صلة العروبة بالإسلام؛ بصورة خاصة؛ صلة تجديد؛ أي إننا نستمد من فهمنا الثوري لحركة الإسلام قوة ثورية لتجديد عقليتنا؛ و لتجديد أوضاعنا الاجتماعية و الفكرية" .
و للأستاذ ميشيل عفلق ذاكرة حية و يقظة؛ تمكنه من إدراك القوة الكامنة في اتصال العروبة بالإسلام؛ هذه القوة التي اندفعت خلال مرحلة تاريخية ما؛ و تمكنت من تأسيس دولة عربية/إسلامية مترامية الأطراف؛ " إن أمتنا قد عرفت عند ظهور الإسلام ما لم يتسن لأية أمة أخرى أن تعرفه؛ نحن كعرب عندنا هذا الرصيد الروحي؛ إذا حرصنا أن نبقي صلتنا حية بيننا و بينه؛ فإننا نعطي لثورتنا العربية ضوابط أخلاقية؛ و جوا فيه هداية و فيه ردع؛ و فيه ضوابط كثيرة نحن بحاجة ماسة إليها" . ميشيل عفلق - في سبيل البعث- ج 3- ص: 84-85
لكن؛ الأستاذ ميشيل عفلق في تنظيره للعلاقة بين العروبة و الإسلام؛ لا يندفع وراء غرائزه مغمى عليه كحال الكثير من ضحايا التخدير الإيديولوجي؛ و لكنه يمنح هذه العلاقة طابعا استراتيجيا؛ فهو عندما يعود إلى الماضي؛ يجد أنه " بدون الإسلام كان يمكن لهذا الشعب العربي أن يبقى بعقلية قبلية؛ و برغم سبق العروبة للإسلام؛ فإن النهضة العربية الأولى التي اقترنت برسالة الإسلام الدينية؛ هي التي كونتهم (العرب) كأمة . ميشيل عفلق آفاق عربية – ص: 9 – عدد أبريل 1976 .
و هكذا؛ يستنتج؛ في علاقة بالمشروع العربي الحديث؛ " أنه من الطبيعي أن يحتل الإسلام؛ كثورة عربية فكرية أخلاقية اجتماعية ذات أبعاد إنسانية؛ أن يحتل مركز المحور و الروح في هذا المشروع الحضاري الجديد لأمة واحدة ذات تاريخ عريق و رسالة حضارية إنسانية". ميشيل عفلق - صحيفة (الثورة) العراقية 06-11-1985
و يجادل الأستاذ ميشيل عفلق؛ بالدليل التاريخي و المنطقي؛ كل من يمكنه أن يشك في جدوى هذه العلاقة؛ بل و في إمكانية تحققها بالأحرى؛ و ذلك لأن " هذا الارتباط بين العروبة و الإسلام؛ في نظره؛ هو واقع حي تعيشه الأمة؛ و تتنفسه كالهواء؛ و لا يحتاج لإثباته إلى براهين و أدلة؛ إنه نتاج القرون و الأجيال؛ و لكنه قبل كل شيء هو إرادة إلهية طبعت الحياة العربية" ميشيل عفلق في سبيل البعث – ج5 – ص: 72
و يضيف مؤكدا قوة الالتحام بين العروبة و الإسلام؛ " إن الإسلام هو وطن الأمة العربية الروحي و المادي؛ بكل ما تحمل كلمة وطن من معاني حب الأرض و الأهل؛ و حب اللغة و التاريخ" ميشيل عفلق- في سبيل البعث – ج3- ص: 269 .
لكنه؛ يستدرك في رد غير مباشر على الدعوات البعثية؛ التي تعارض بين الإسلام و الحرية؛ باعتبار أن الإسلام سيفرض قيودا على الحضارة العربية و سيمنعها من التقدم؛ " و لئن وجدت شعوب تنشد الحرية بالانعتاق من الدين؛ فالأمة العربية تجد حريتها في الفهم المتجدد للإسلام" . و يذهب الأستاذ ميشيل عفلق بعيدا في دفاعه عن العلاقة بين العروبة و الإسلام؛ حينما يصرح: " و لذلك؛ فإن الدفاع عن الإسلام هو مهمة القوميين الذين يريدون أن يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء" . ميشيل عفلق في سبيل البعث- ج3 –ص: 224 .
بصراحة؛ لقد ذهلت و انأ اطلع على هذه الأفكار الحكيمة لأستاذ و قائد التجربة القومية في العالم العربي؛ و التي تتعارض مع كل ما يروج عن الرجل؛ في علاقة بانتمائه المسيحي من جهة؛ و كذلك في علاقة بقناعاته القومية/العلمانية من جهة أخرى. لكنني في نفس الآن؛ أشعر بخيبة أمل كبيرة؛ لما آلت إليه هذه الأفكار النيرة من مصير مأساوي؛ على أيدي سماسرة أحزاب البعث؛ الذين لا يهمهم سوى السيطرة على الشعوب؛ باعتماد الإكراه المادي و الرمزي؛ و هذا كان سببا كافيا للسقوط المدوي الذي يضرب أحزاب البعث؛ من المشرق العربي إلى مغربه .
على سبيل الختام
إن الذين يزعمون إمكانية الفصل بين العروبة و الإسلام؛ من الإسلاميين و القوميين؛ لا يستوعبون الكثير من معطيات التاريخ و الثقافة و لذلك؛ فهم يتصورون؛ بشكل مختزل؛ أن الإسلام أحكام شرعية و شعائر؛ لكنهم يجهلون أن الإسلام؛ في العمق؛ رؤية للعالم Vision du Monde ؛ تشكلت عبر قرون من التفاعل الثقافي و الاجتماعي و السياسي؛ الذي كان مؤطرا بمرجعية فكرية عربية Epistémè و مشبعا بمتخيل عربيImaginaire . و كل هذا يدفعنا إلى التأكيد؛ من منظور علمي؛ على أن الثقافة نظام في غاية التعقيد؛ و ليست مكونا ماديا؛ يمكن تحليله باعتماد نظريات الفيزياء. لذلك؛ يظل واجب العلوم الإنسانية؛ هو التنبيه إلى مواطن الخطر؛ الذي لا يشعر به السياسي/الإيديولوجي إلا بعد أن يداهمه في عقر داره. و نحن هنا لا نتحدث في المجردات؛ بل إن الواقع يؤكد صلاحية هذا التحليل.
ففي علاقة بالنموذج الإسلامي الحركي الذي حاول إلغاء المكون العربي؛ فإنه لم يظفر من الحضارة الإسلامية إلا بالفتات؛ أما الباقي؛ فهو ترسبات تجد امتدادها في الأصول الثقافية و الاجتماعية و السياسية ما-قبل الإسلامية؛ و يمكننا هنا أن نستحضر النموذج الافغاني؛ و كذلك النموذج الإيراني... و في كلا النموذجين تم الاستناد إلى الإسلام لكن؛ بعد إفراغه من متخيله العربي و بعد تكسير نموذجه الثقافي؛ و كذلك بعد تفكيك رؤيته إلى العالم؛ و النتيجة هي كما نرى؛ في أفغانستان ما زالت البنى الاجتماعية و الثقافية و السياسية ما-قبل الإسلامية هي السائدة؛ رغم لباسها الإسلامي. و في إيران نموذج اجتماعي وثقافي وسياسي فارسي قديم؛ يستمد شرعية استمراره حاضرا بالاستناد إلى تأويل النص القرآني و أحداث التاريخ الإسلامي؛ كي تستجيب لنزوات آيات الله في تحقيق النموذج الامبراطوري القديم .
و في علاقة بالنموذج القومي؛ فإن الأمر لا يختلف عن سابقه؛ لأن القوميين العرب الذين سعوا إلى إلغاء المكون الإسلامي؛ باعتماد قراءة مبتسرة للعلمانية فشلوا؛ في الأخير؛ في بناء نموذج اجتماعي و سياسي و ثقافي منسجم؛ بل إن محاولة إلغاء البعد الإسلامي ساهم؛ إلى حد بعيد؛ في إفشال المشروع السياسي و الاجتماعي و الثقافي العربي الحديث بل؛ على العكس من ذلك؛ تم فتح المجال لعودة الروح القبلية القديمة التي ساهمت في تفكيك أوصال المجتمع و الدولة؛ عبر إشعال حروب طائفية؛ كانت الأنظمة السياسية؛ في البداية؛ تستثمرها لفرض هيمنتها على المجتمع و الدولة؛ قبل أن ينقلب السحر على الساحر؛ لتصبح هذه الأنظمة؛ نفسها؛ ضحية استعادة المكبوت القبلي القديم.
- المراجع المعتمد:
1- مجلة تحولات - العدد التاسع عشر- شباط 2007
2- مجلة المستقبل العربي- العدد 281 / تموز 2002
3- مجلة آفاق عربية – عدد أبريل 1976.
4- صحيفة (الثورة) العراقية 06-11-1985
5- محمد عمارة- التيار القومي الإسلامي – دار الشروق – ط1- 1997
6- ميشيل عفلق - في سبيل البعث- الكتابات السياسية الكاملة- خمسة أجزاء – طبعة دار الحرية –بغداد- 1986
كاتب و باحث أكاديمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.