كان لمشاركة الفرس في بناء الدولة العباسية أثر مهم في نوع من اليقظة الفارسية للسكان. حتى الصراع بين العباسيين والغلاة من الموالي ساهم بدوره في هذه اليقظة. وكانت لهذا آثار تسلسلت من القرن الثاني إلى أيامنا هذه. كيف ذلك؟ مظاهر الانبعاث القومي يقول الدوري: «استهدف العباسيون -متعظين بما أصاب الأمويين من دمار- خلق جو من التفاهم والتعاون بين العرب والموالي، ولاسيما الفرس، معتقدين بأن الاستقرار لن يتم إلا بتعاون مختلف عناصر الدولة (..) وأشرك العباسيون أرستقراطية الفرس في الحكم، ولكن طموح هؤلاء ورغبة بعضهم في إرجاع سلطان إيران ومجدها، ثم حرص العباسيين على سلطانهم، كل ذلك جرّ إلى التنكيل بزعماء الفرس ووزرائهم، وأدى إلى سوء العلاقة بين العباسيين وبين الأرستقراطية الإيرانية. وتضمن تقريب هذه الأرستقراطية، إبقاء الوضع الطبقي في إيران على ما كان عليه، فلم يعمل العباسيون ما يذكر لتخفيف الضغط الاقتصادي والاجتماعي على جماهير الإيرانيين، فلم يرضخ هؤلاء لوضعهم، ووضعوا المسؤولية على العباسيين، فأخذت المبادئ الخرمية تنتشر بينهم حتى صارت رمز وعي الأمة الإيرانية في كفاحها للتخلص من حكم العباسيين. ولما فشلت الأرستقراطية الفارسية في التعاون مع العباسيين حاولت لدوافع سياسية أن تتعاون مع الجماهير ضد الحكم العباسي، فنشأت الإماراتالإيرانية الأولى».. وقد استاء بعض الفرس من حركة تعريب الدواوين التي جرت في العهد الأموي وعُدّت انقلابا مهما في الإدارة الإسلامية، إذ بدأ العرب يتعاملون مع هذا التنظيم بصفة مباشرة، دون حاجة إلى الاستعانة بالموالي من الفرس وغيرهم. ومن مظاهر قوة الحس القومي الإيراني: الحرص على إبقاء اللغة الفارسية وحياتها. «لقد أقبل الإيرانيون بأنفسهم على تعلم اللغة العربية وخدموا هذه اللغة في مختلف المجالات، ولكنهم لم يجدوا أنفسهم ملزمين بترك اللغة الفارسية، فبقيت هذه اللغة إلى جانب اللغة العربية، بل إن العرب الساكنين في إيران، بعد جيل أو جيلين، أصبحوا يتكلمون باللغة الفارسية. ولكن من الطبيعي أن تمتزج اللغتان لتشكلا اللغة الفارسية الإسلامية بمفرداتها العربية الكثيرة». وقد كان لهذا القلق الكبير لدى كثير من الإيرانيين على مستقبل اللغة الفارسية ما يسوغه في نظرهم، ذلك أن اللغة العربية تقدمت بسرعة مذهلة في بلاد إيران، حتى إن كثيرا من علماء العربية أصلهم فارسي. وقد ساعدت على إضعاف الفارسية حركة ُالزندقة والشعوبية نفسها، إذ كان دعاتها من الفرس، فلما تصدى لها الخلفاء العباسيون، خاصة المهدي، عملوا على محاربة تراث الشعوبية، فأحرق كثير من التراث الفارسي. هذا وغيره أدى إلى «إضعاف اللغة الفارسية، لغة إيران الأصلية. فهجرت الكتابة بها، وتحولت إلى لغة عامية في القرى والأماكن النائية، في القسم الشرقي من إيران البعيد عن مركز الخلافة الإسلامية السنية. ففقدت كثيرا من مقوماتها ومصطلحاتها، وظلت مختفية -كلغة كتابة وأدب وعلم- قرنين من الزمان، فلم يكن يسمع لها صوت أو يرى لها أثر مكتوب». وهذا سر تقدير الإيرانيين واحترامهم للدولة السامانية، على سنيّتها، يقول الأستاذ حسنين: «تعد الدولة السامانية، في نظر الإيرانيين، أهم دولة ظهرت في إيران بعد الفتح الإسلامي لها، لأنها أحيت مظاهر الحضارة الإيرانية القديمة، وقوّت الشعور الوطني، وساعدت على رواج اللغة الفارسية. والإيرانيون يتعصبون لهذه الدولة، رغم أنها وجدت في أثناء غلبة الصبغة السنية على إيران، ولا يفوق تعصبهم للسامانيين إلا تعصبهم للصفويين».. ويرى الإيرانيون أنه لا إشكال في اعتناق الدين الإسلامي مع الإبقاء على بعض التقاليد والعادات التي ترجع إلى العصور الساسانية. جاء في مقال (موقف الإسلام من التراث الإيراني القديم): «بقي أن نشير إلى موقف الإسلام من العادات والتقاليد. ولا شك أن المسلم يكفّ عن أية عادة تتنافى مع الإسلام وتعاليمه. وهكذا فعل الإيرانيون بعد أن تأدبوا بآداب الإسلام، فأصبحوا في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم ومعيشتهم وحياتهم اليومية ملتزمين بآداب الدين الحنيف. ولكنهم لم يجدوا حرجا في ممارسة التقاليد القديمة بعد أن هذبها الإسلام وأطّرها بتعاليمه، من ذلك مثلا الاحتفال بعيد النوروز، فلقد تواصل الاحتفال به، ثم شاركهم العرب فيه، وامتدت هذه الاحتفالات إلى مصر». ظهور الشعوبية وغاياتها الشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم فضلا على غيرهم. وقد كانت الغاية البعيدة للشعوبية هي إضعاف الإسلام وهدم الكيان العربي، كما حاولت تركيز الوعي السياسي والديني للموالي وإحياء تراثهم الثقافي، بل إنها رامت حتى القضاء على السنة النبوية الشريفة، بوضع مئات الأحاديث، لكن الله تعالى حفظها منها وسخّر لذلك جهود أهل الحديث وعلم الرجال. وكان انهيار الأمويين فرصة الشعوبيين التي طالما انتظروها. يقول الأستاذ الخربوطلي: «لا شك في أن قيام الدولة العباسية، وسياستها في الاعتماد على العناصر الفارسية، قد غذى تيارات الشعوبية، ولو بطريق غير مباشر أو بدون قصد. فقد أقام العباسيون بغداد ببلاد العراق لتكون مركزا لدولتهم، وتحولوا عن دمشق عاصمة الأمويين. وأصبح العباسيون في قلب موطن العناصر الفارسية في العراق وفارس وخراسان. واعتنى الفرس بأنفسهم وقوميتهم، وتعصبوا لجنسهم وتراثهم وأديانهم المجوسية القديمة، بل إن عامة الفرس وغوغاءهم رفعوا رؤوسهم وبالغوا في شعوبيتهم، فكانوا أكثر عداء للعروبة من أشراف العجم». وقد كانت للشعوبية مظاهر متنوعة، بعضها ثقافي فكري، تجد آثاره بيّنة في أدب الجاحظ وابن قتيبة خاصة، وبعضها ثوري عسكري، كالحركتين الخرمية والبابكية. يقول المؤرخ عمر: «إن هدف الخرمية السياسي كان سحق الكيان السياسي للعروبة المتمثل بالخلافة العباسية، وهدم عقيدة المجتمع، وهي الإسلام، وذلك عن طريق القوة المسلحة. وقد أكد هذا الهدف العديد من المؤرخين المحدثين».. ويقول الدوري: «تمثل الوعي الإيراني العنيف في سلسلة من الثورات تحت راية الخرمية التي تنطوي على ثورتين: ثورة اجتماعية على الأوضاع القائمة في المجتمع الإيراني، وثورة سياسية انفصالية ضد السلطان العربي. وقد استمرت هذه الثورات حتى نهاية العصر العباسي الأول. وقد فشلت حركات الخرمية أمام قوة الدولة العباسية، وأمام تعارض المصالح بين الأشراف والعامة في إيران. فقد اتجه الأشراف إلى مسالمة العباسيين، بل التعاون معهم أيضا بعد قيام الإمارات الفارسية». والآن وقد تعرّفنا على معالم تاريخ فارس في العهدين الأموي والعباسي، فإن السؤال الذي يثور هو: ما علاقة ذلك بمسألة النزاع السني-الشيعي؟ والجواب يكون غدا عن هذا السؤال الكبير. يتبع...