ملخص: يعالج البحث موضوع "الفصحى" ولهجاتها انطلاقا من فرضية مؤداها أن العربية المشتركة صناعة لاحقة على "لغات" العرب و"لحونها" التي رعتها وأحكمتها ورونقتها الحاجات الروحية التي سمت بها وارتقت بها لتصبح لغة أمثل وأجل، أي لغة للإلهام تتحول إلى لغة للوحي. هذا الوضع المعطى للغة العربية هو الذي صنع للعرب صورة ميتافيزيقية عن لغتهم. ومن جهة ثانية، فإن الانتقال من مستوى لغوي طبيعي إلى مستوى لغوي علوي تطلب تدخل جيل من النحاة له خبرة لا باللهجات والفصحى بل باللغات السامية أيضا ليرسي خصوصيات وتفردات نظامية. وعلاوة على ذلك، فإن علاقة الفصحى ب"لغات" العرب تؤكد أن "للعربية" طريقتها الخاصة في استحضار التنوع والتغير، وأن "اللغات" لا تقف في الطرف المقابل للفصحى، وإنما ينسج الطرفان بينهما علاقة تلاحم تحمي تقسيم العمل بينهما وتكرسه. ويمكن الدفاع عن هذا الرأي من خلال نظرة نسقية يتقابل فيها النسقان: نسق الفصحى ونسق أو أنساق "اللغات". وربما كان النحو الذي وضعه العرب نحوا للتنوع والتغير لا نحوا موحدا منمطا. فقد جمعت أمهات الكتب النحوية وكتب التفسير والأصول والمعاجم من التنوعات الآتية من "لغات" العرب ما يدل على أن للفصحى أكثر من نسق أو "مزيج" من أنساق، كل واحد من هذه الأنساق يؤدي وظيفة محددة. والغاية من هذا الكلام تصحيح الكثير من الأغاليط التي رددها قدامى ومحدثون، وعرب ومستشرقون، ووظفها دارسون غربيون لبناء تصور يراد له أن يكون "لسانيا" وإن كان في عمقه عامرا بمواقف إديولوجية. الكلمات المفاتيح: اللسان، اللغات، الزدواجية، الفصحى، التنوع، النحونة، التفصيح، العربية الوسطى 1. مقدمة: نعرض، في هذا البحث، لنشأة اللغة العربية "الفصحى"، اللغة المشتركة بين جميع العرب، ساعين إلى تقديم صورة عن المشهد اللغوي في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وتعايش الأنساق اللغوية "العربية" المتفاوتة، فظهور عوامل تساعد على تقريب الشقة اللغوية بين الفاعلين العرب، ثم بروز عوامل جديدة تحث على حماية المنتج المشترك من أهله ومن الأجانب الذين التحقوا بالدين الجديد وأسهموا في الحضارة العربية الإسلامية. تتميز هذه الدراسة عن غيرها من الدراسات بالنظر إلى أن "فساد" اللغة الآتي من الآخر لا يناقض "الفساد" اللغوي الذي تصنعه ألسنة العرب ويلغيه. وتقضي فرضيتنا بأن العربية المشتركة صناعة لاحقة على "لغات" العرب و"لحونها" التي رعتها وأحكمتها ورونقتها الحاجات الروحية التي سمت بها وارتقت بها لتصبح لغة أمثل وأجل، أي لغة للإلهام تتحول إلى لغة للوحي. هذا الوضع المعطى للغة العربية هو الذي صنع للعرب صورة ميتافيزيقية عن لغتهم. ومن جهة ثانية، فإن الانتقال من مستوى لغوي طبيعي إلى مستوى لغوي علوي تطلب تدخل جيل من النحاة له خبرة لا باللهجات والفصحى بل باللغات السامية أيضا ليرسي خصوصيات وتفردات نظامية. وعلاوة على ذلك، فإن علاقة الفصحى ب"لغات" العرب تؤكد أن "للعربية" طريقتها الخاصة في استحضار التنوع والتغير، وأن "اللغات" لا تقف في الطرف المقابل للفصحى، وإنما ينسج الطرفان بينهما علاقة تلاحم تحمي تقسيم العمل بينهما وتكرسه. ويمكن الدفاع عن هذا الرأي من خلال نظرة نسقية يتقابل فيها النسقان: نسق الفصحى ونسق أو أنساق "اللغات". وربما كان النحو الذي وضعه العرب نحوا للتنوع والتغير لا نحوا موحدا منمطا. فقد جمعت أمهات الكتب النحوية وكتب التفسير والأصول والمعاجم من التنوعات الآتية من "لغات" العرب ما يدل على أن للفصحى أكثر من نسق أو "مزيج" من أنساق، كل واحد من هذه الأنساق يؤدي وظيفة محددة. والغاية من هذا الكلام تصحيح الكثير من الأغاليط التي رددها قدامى ومحدثون، وعرب ومستشرقون، ووظفها دارسون غربيون لبناء تصور يراد له أن يكون "لسانيا" وإن كان في عمقه عامرا بمواقف إديولوجية. إننا نزعم أن التصور الذي بناه العرب للغتهم- نشأة وخصائص وصفات محايثة- والذي أعد لها أرضية فلسفية تناسب مكانتها الجديدة وأدوارها، تصور لا يخلو من الواقعية. ونذهب في تأويل ذلك مذهبا مغايرا إذ نعتقد، مع ميرسيا إلياد ( Eliade, M.1965 وانظر أيضا Etienne, 1982:6-8)، بأن تحقيق الذات بالإحالة على المطلق المقدس يقوي الواقع ويجسد نجاحه، وبأن بلوغ المقدس يفسح المجال أمام الانخراط الذاتي، وتوظيف ذكائها بحثا عن المطلق وربطا للنظام الرمزي بالعالم المقدس، وبأن المقدس، في الحقيقة، هو الواقعي والمتين والقوي، وبأنه يتمظهر في الأرضي. ومن هناك يسهل علينا التوفيق بين النظرة القائلة بفساد اللغة والنظرة القائلة بنقائها المطلق ورفعته، ومن ثمة رفع التناقض القائم بين الأرضي والمقدس[2]. لمناقشة هذا الموضوع من مداخله الأساسية المتمثلة في الشروط التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدينية التي كانت وراء بلورة لغة عربية عامة تفرعت إلى لغة مشتركة رسمية وتعبيرات مختلفة تستجيب للحاجيات المتجددة الأرضية والسماوية، سنعالج في القسم 1 السمات الكبرى المؤطرة للفعل اللغوي قبل ظهور الإسلام. وفي القسم 2، سنحلل الوضع اللغوي وتشكيلته ومساراته قبل مجيء الإسلام وأثناءه. أما في القسم 3، فسنتعقب حركية الخريطة اللغوية وإفرازاتها وتوزيع التعبيرات اللغوية بحسب الحاجات المتجددة المختلفة الطبائع، في مرحلة الفتوحات الكبرى. ورغبة منا في استجلاء تصور العرب للغتهم، باعتماد الشروط التاريخية والدينية، وتوظيف هذا التصور التيولوجي في تحديد طبيعة اللغة وتنقيتها بما يعبر عن المقدس ويرسيه ويبسط نفوذه، نسوق في القسم 4 الطبيعة المقدسة للغة المتجلية في نشأتها غير الطبيعية وأصلها الفوق طبيعي. أما في القسم 5، فسنتولى تسويغ مفهوم المفاضلة بين اللغات بالارتكاز على "الأصل" المقدس للعربية وتفسير مدى دوره في استكمال صورة هذه اللغة. وعلى إثر ذلك، سنطرح، في القسم 6، مفهوم الفصاحة ودوره في بلورة أداة لغوية نافذة تؤكد مَعْيرَة اللغة في وسط فكري يغلب عليه النزوع الديني. ونختم هذه الدراسة بإثبات استنتاجات متوائمة العناصر تستطيع أن تجمع بين ما يتناقض في الظاهر وتصوغ انسجامه. نشرع، فيما يأتي، في محاولة الحديث عن مجمل الممارسات اللغوية التي عرفتها الجزيرة العربية، وهي ممارسات تتصف بالتفاوت والتنوع والتغير، لكنها ترمي إلى أن تؤسس ممارسات تحقق أقدارا من التواصل والتفاهم. ومع أنها متفاوتة، فهي متعايشة ومتضامنة وتسمح بفرصة عادلة للتأريخ إذ تستحضر كل مكونات"العربية"، بنفس القدر الذي تستحضر فيه مختلف المفاهيم المؤطرة للتأريخ… هذا الوجه التلازمي بين الفصحى، والعربية الموحدة الشعرية، والعربية الموحدة اللهجية، والعربية الوسطى (Etienne, 1982; Cohen, 1962; Larcher,2003-2005, 2008; Sayah et autres,2009) هو الذي يشكل "العربية". وعلى هذا الأساس، لن يكون تأريخنا انتقائيا، فقد اتضحت لنا استحالة تأريخ"العربية"، بتعبيراتها، من خارج تفكيك مفاهيم بحمولتها الدينية الرمزية المؤثرة التي صنعت مفهوم الفصاحة الذي يكثف رؤية دينية للغة طبيعية، أو كيف يتوافق شقا "العربية" الديني والطبيعي. 1. المشهد العام للجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام: كانت البنية الاجتماعية للجزيرة العربية تتمفصل حول قبائل متناثرة على امتداد مجالها الجغرافي. وقد كانت هذه القبائل تعيش في صراع دائم منشؤه شح وسائل العيش. أما من حيث تشكلها، فقد كانت، عموما، على النحو التالي: فمن جهة، وعلى حافة الجزيرة، كان هناك نمطان من أنماط العيش يتعايشان: أحدهما ذو إنتاج زراعي في المناطق القروية الصغرى للواحات، والثاني، ذو إنتاج تجاري، وهو متمركز، خصوصا، في مدن غرب الجزيرة العربية وجنوبها. بينما كان في وسط الجزيرة ، محيط مكون من مجتمعات بدوية رعوية (الدوري، 1969: 9). نستنتج من ذلك وجود اقتصاد متراكب؛ رعوي للرحل، ونشاط تجاري. وقد أدى النشاط التجاري البعيد المدى دورا متناهيا في الحياة الاقتصادية للبلاد؛ بحيث كانت "الأرباح المستخرجة من هذه التجارة هي التي تسمح بحياة جمهوريات الحجاز التجارية الحضرية" (1976:15Samir, A,). وتفسر هذه الظاهرة وحدها ظهور المدن وتوسعها وأهمية دورها في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. وهكذا، أصبحت مكة المركز الوسيط للتجارة العربية؛ حيث كانت الثروات تتراكم فيها وتؤكد الوصول إلى عتبة حضارة متألقة مدنية وتجارية. وفي الحقيقة، فقد عرف مجموع شمال الجزيرة العربية ووسطها ازدهارا اقتصاديا يتجاوز الجماعة القبلية، مما تسبب في تراخي العلاقات القبلية ليعرف هذا الانتماء احتضاره البطيء لكن الأكيد. وقد ترتب على المنافع المالية أن صارت الروابط بين الأفراد تنزع نحو التشكل) Rodinson, M. p.176). ومن جهة أخرى، بدا من الضروري أن تلوح في الأفق بوادر ظهور إيديولوجية جديدة مستجيبة للشروط الجديدة. وفي ذلك، إعلان بتولي زمن الإنسانية القبلية (Watt,1977:49). وقد كانت المدينة والمجتمعات البدوية المستقرة تشهد الشروط نفسها. وهي شروط أكدت ما صار يحدو الناس من وجود طموح تطابق بين الأشكال القتصادية الجديدة والبنيات الاجتماعية والإيديولوجية والسياسية. وعلى الصعيد السياسي، لم يعد بمقدور الشرائح الاجتماعية الجديدة الصاعدة أن تقبل أمر غياب سلطة سياسية مركزية. وهو الشيء الذي جعل الطبقات التجارية المهيمنة تشعر بضرورة إرساء دولة، غير أن "دولة جديدة هي دولة تحتاج إلى إيديولوجية موحدة تستجيب لحاجيات الوعي العربي وتسمح للعرب باكتساب مكانة إيديولوجية مطابقة للمكانة الإيديولوجية للأمبراطوريات الكبرى المجاورة (Rodinson,M.:181). لقد كانت المقومات تتمثل في وجود دولة قوية قادرة على نشر السلم في كل المناطق وتضع حدا للغارات التي أضرت بالنمو الاقتصادي؛ ودولة قوية تدافع عن حدود البلد ضد أي غزو أجنبي؛ فارسيا كان أم بيزنطيا. لقد اشترطت هذه البنيات الاجتماعية الجديدة، إذن، تشكيل كيان"قومي" يعبر عنه مفهوم "الأمة" التي عليها أن تضم تحت لوائها كل العرب وذلك من خلال تحقيق "وحدة" على كل المستويات السياسية والثقافية واللغوية. وهكذا، لوحظت، في البدء، بشائر وعي أفضى إلى تحقيق هدف تمثل في رفض التحدي الخارجي، والثورة ضد عبادة الأصنام، والقيام بأنشطة ثقافية وأدبية في "الأسواق"، والإحساس المتنامي بروابط ثقافية واجتماعية مشتركة (الدوري، ص 12). وبعبارة أخرى، فقد كان يتصدر جدول الأعمال إحداث "سوق داخلية" تتناسق مع الاقتصاد التجاري وبنية فوقية قانونية-سياسية، اللذين يشكلان أساسا صلبا لهدف موحد يجسده تنظيم اقتصادي جديد من شأنه أن يضع حدا للتجزيء التنظيمي (القبلي) والثقافي واللغوي. 1. الوضع اللغوي بالجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام وأثناءه: * قبل مجيء الإسلام: إذا نحن امتنعنا عن كبت المظهر التاريخي للممارسات اللغوية، على غرار ما تقوم به بعض التمثلات الأيديولوجية التي تجعلنا نعتقد بأن الجزيرة العربية توجد منذ أمد بعيد، ولأننا واجهنا تمزقا اجتماعيا، فإنه ليس بمقدورنا إلا أن نجد أنفسنا أمام "النتيجة الطبيعية" التي هي "تمزق اللغة: أي اللهجة"( 13 Fleisch, 1974:). لهذا السبب، إذن، يمكننا الادعاء بوجود قدر مناسب من اللهجات بإزاء قدر مناسب من القبائل. وقد كانت لكل قبيلة من هذا الرصيد اللغوي المشترك خاصياتها. ومن البدهي جدا أن تكون بهذه المنطقة الجغرافية الكبرى مثل منطقة اللغة العربية اختلافات بالغة الدقة في المفردات والجمل. وقد كان الأمر كذلك في العصور القديمة. (Landberg، 1905:43). وهكذا، كانت هناك لهجة ربيعة المختلفة عن لهجة الحجاز، بينما كان بنو تميم يتكلمون لهجة خاصة (نفسه، ص 45). ومن شأن نظرة دقيقة إلى التراث النحوي أن توفر لنا كما هائلا من المادة اللغوية ذات الصلة باللهجات القديمة. ويمكن تصنيف هذه التنوعات اللهجية الإقليمية والجهوية وفق التشكل الاجتماعي للجزيرة العربية التي تتميز بكون مكوناتها توجد في "مجموعات متفرقة، ومتباعدة عن بعضها البعض، (Fleisch,p:12،)، وتتميز بطبيعة تناقضها الثابت بين الرحل، من جهة، وبين التجار من جهة أخرى. وتبعا لذلك، تشكل هذه المجموعات المنعزلة جماعات لسانية لها تنوعاتها الإقليمية والجهوية. ويمكن لهذه التنوعات أن تكون، في بعض الحالات، وراء صعوبات تواصلية (Landberg, p.45)، في نفس الوقت الذي تشكل فيه "حواجز لغوية حقيقية تكرس عزلة اجتماعية". ( Balibar et Laporte, 1974:32). غير أننا نلاحظ توافر بعض الجماعات على مجال أرحب للتعبير يفسره دورهم الاجتماعي داخل الجزيرة العربية، أو بعض الشروط الحياتية التي تستوجب احتكاكا سلميا أو عنيفا بينها. ويعود الحفاظ على هذا التنوع، أولا وقبل كل شيء، إلى الموقع الاجتماعي في سلك الإنتاج الذي تشغله قبيلة معينة أو فئات ميسورة. وهكذا، تحدد حركية القبائل عن طريق الحروب والترحال والتجارة، في الجوهر، مصير تنوعاتها. وإذا كان مثل هذا الانفتاح الاجتماعي يفترض انفتاحا تواصليا، فمن المتوقع إدماج التنوعات، وتوسيع الرصيد اللغوي، وتقليص التميزات اللسانية. لذا، علينا توقع انفتاح البنيات اللسانية، بل توقع أن تصبح موضوع تأثير. بذلك، تنشأ الحاجات إلى تبادل التواصل ليعرف المشهد اللغوي للجزيرة العربية بذور التغيير. لقد عرفت الخريطة اللغوية ثلاث كتل كبيرة: أهل اليمن ولهم لغتهم الخاصة في الجنوب الغربي، وهي اللغات العربية الجنوبية (السبئية والحميرية)، وسكان التخوم الشمالية للجزيرة العربية (الأنباط: عربية خالية من الإعراب)، أهل نجد والحجاز ومنطقة الخليج (يتكلمون بلغات شديدة القرب من الفصحى) (جمال الدين كولوغلي، 2007). وبذلك، يتضح أن الوضع اللغوي كان يتسم بالتنوع، وهو تنوع له أبعاد مختلفة ولا تني عن التوقف، إذ ينقسم المشهد اللغوي، كذلك، إلى صنفين لفظيين هما لهجات البدو ولهجات الرحل. وقد تأثر الرصيد اللغوي بفضل ازدهار التجارة والدور الاجتماعي الذي يقوم به التجار، وخاصة تجار قريش. فأصبحت البورجوازية التجارية بحاجة إلى ممارسات لغوية أخرى للعربية. إذ لم تعد التجارة ، كما تبلورت في الجزيرة العربية، بقادرة على أن تتوافق مع التباينات الإقليمية والجهوية، والتباينات التعبيرية. بل إن الأشكال التشريعية والسياسية قد صارت بمثابة عوائق في وجه حركية البضائع. لعله من الواضح تقريبا أن يمتلك الأغنياء من الملامح اللغوية المشتركة أكثر مما كان يملكه الفقراء (1976:21 Mackey, ) بسبب انتقالهم من مركز تجاري إلى آخر، وبسبب أن مصالحهم المشتركة قد فرضت عليهم التخلي المتبادل عن خاصياتهم اللهجية. لقد ساهمت التجارة، إذن، بشكل أو بآخر، في التقليل من التنوع اللغوي بين الشرائح الاجتماعية (نفسه)؛ "فالاختلافات الجهوية بين اللهجات تنحو، هي كذلك، نحو الانقراض لأن الحركية الجغرافية تتطور في نفس الوقت الذي تتطور فيه الحركية الاجتماعية ( نفسه). وهكذا، عملت القبائل أو فئاتها الاجتماعية المميزة اقتصاديا أو ثقافيا -التي كانت في الغالب متواصلة – على تكييف دائم لأسلوبها في الكلام. ولقد وفر وجود مراكز تجارية، وخاصة بمكة، فرصا عديدة للتواصل بين المجموعات البشرية. وكلما كانت العلاقات والاتصالات وثيقة كلما كان هناك تشابه. ولهذا السبب، كانت قبيلة قريش، التي قامت بدور اقتصادي جوهري في هذا العصر، تمتلك رصيدا لغويا ينزع نحو الانتشار. وهو رصيد لغوي للجماعة اللسانية "يعكس، على العموم، رصيد أدوارها ، باعتبارها أدوارأ مستخرجة من الممارسة أو "مؤدلجة". ولا تصلح هذه الملاحظة فقط بالنسبة إلى توسيع الرصيد، وإنما تصلح أيضا بالنسبة إلى مقبوليته وإلى استعماله الجاري" (Labov, 1976:47). وبالموازاة مع ازدهار النشاط التجاري، عرفت الجزيرة العربية ازدهارا ثقافيا، وعلى الخصوص ازدهارا شعريا. وهكذا، كنا نجد في الأسواق، التي كانت تستهدف أساسا تبادل البضائع ، تباريا بين الشعراء الذين يمثلون كل القبائل (سوق عكاظ) (الأفغاني، 19643 :). لقد كانت هذه الأسواق تؤدي دورا لغويا هاما جدا بحيث كانت كل التنوعات اللغوية تلتقي وتتبادل فيما بينها التأثير. ويستلزم مثل هذا الوضع الاتصالي إطلاق أسس التفاهم التواصلي. ولهذا، كانت أسواق العرب في الجاهلية تسمح بانتقاء لغات قبائل شبه الجزيرة العربية وإبعاد لغات التخوم بسبب احتكاكهم بالأجانب. لقد أنتج اختلاط القبائل في المدن والأسواق "اندماجا بين اللغات تمخضت عنه لغة عربية بدوية مشتركة هي التي وفرت أساس اللغة العربية القديمة للقرون اللاحقة" (Fuck, 1955:7، بنعبد الله، 1964: 3). يتعلق الأمر بمعالم اللغة المشتركة التي مأسسها الشعراء الذين طوروها وأحكموها ونمقوها بفضل عملهم الفني. ( Fleisch,p.15، أنيس، 1952: 40). ومن الممكن أن نؤكد أنها حصيلة توافق ضمني بين لهجات نجد واليمامة ولهجات تميم ومكة. إن هذا الفعل التوحيدي للشعراء، على المستوى اللغوي، لا يمكن فهمه إلا في سياقه التاريخي الاجتماعي. إنه فعل إيديولوجي يعبر عن إرادة اجتماعية تنزع إلى خلق هوية اجتماعية ولغوية، وتستجيب لشروط جديدة موضوعية أفرزها الازدهار الاقتصادي. هكذا، شكل الشعراء، ومن ورائهم البنية اللغوية الجديدة، عامل اندماج وحاملا لتطلع وحدوي، و"دليلا يتولى تحقيق الاندماج في "االواقع الاجتماعي"( 1969:134( Sapir, الجديد، وأخيرا استضمارا للبنية الاجتماعية في كل أبعادها. وعلاوة على ذلك، فإن الانتقاء الذي باشره الشعراء، على المستوى اللغوي، لا يمكنه إلا أن يعكس شكل العلاقة الاجتماعية الجديدة. إذ تجري عملية إعادة إنتاج غير ميكانيكية للانتقاء الاجتماعي في الحياة اليومية مع نزوع التجار إلى أداء دور اجتماعي وسياسي في الجزيرة العربية. في مثل هذا الوضع، يجب علينا أن نتساءل عن الوظيفة المسندة إلى هذه اللغة "الجديدة". وانطلاقا من أخذنا بعين الاعتبار الشروط التي أطرتها، فإن تغطيتها، على الفور، لوظائف عديدة يكون مستحيلا. وقد نضيف إلى ذلك غياب الأجهزة الإيديولوجية للدولة القادرة على جعلها تؤدي دورا حاسما. وبعبارة أخرى، فإن دورها مقصور على أداء وظيفة شعرية وأدبية وإن كان مجموع السكان، عموما، يفهمونها. ومفاد ذلك أن اللهجات تغطي دائما وظائف تواصلية داخل القبائل وما يزال لها، على الأقل، دور تؤديه في المجتمع الذي لم يعرف تغيرات اجتماعية وثقافية عميقة. ومن الآن فصاعدا، لم تعد لا اللهجات ولا اللغة المشتركة مجالات لغوية مغلقة. ويكفي أن نشير فقط إلى أن اللغة المشتركة " قد كانت شفافة، إلى حد ما، تجاه التأثيرات اللهجية للتعبيرات الحية، فقد جمع اللغويون القدماء عددا من الأشعار التي تتضمن بعض طرق القول لدى القبائل…" (, p.18 Fleisch). وقد سمحت هذه المجموعة من التغيرات بظهور حالة غير تامة لازدواجية اللغة. إذ هناك اللغة العليا (الرفيعة H)؛ وهي لغة الحظوة الثقافية وربما الاجتماعية أيضا، بينما يسند إلى "اللغات" الأخرى وضع ثانوي (اللغات الدنيا B) (Marçais, W: 1930، وFerguson:1959). ويبدو هذا التصنيف حديا لأن ما بين اللهجة والفصحى أصنافا تتوسط قطب الفصحى وقطب العامية تحقيقا للتواصلية اللغوية العربية (The Arabic linguistic continuum) (كولوغلي، سبق ذكره). انطلاقا من هنا تنشأ إديولوجيا تشرعن الوضع المهيمن لمجموع نصي أُنجز في لغة معينة (Ricard:16). هكذا، تتأسس معيارية لغوية، على أساس معيارية أدبية. فقد حُكم على لغات القبائل بألا تلج المَعْيَرة اللغوية. وهو ما من شأنه أن يرسي، إذن، الشروع في ممارسة لامساواة لغوية وفي القيام بتوزيع اللغات توزيعا وظيفيا. ومن الطبيعي ألا نرى في هذا التوزيع وهذه اللامساواة، في نهاية الأمر، سوى فعل سياسي تعكسه اللغات المهيمن عليها واللغة المهيمنة. * انتفاضة اللغة مع مجيء الإسلام: لقد شكل الإسلام، بوصفه نسقا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، حدثا هاما جدا. فقد قلب الإسلامُ النظامَ الاجتماعي القائم بإتيانه بأشكال جديدة لتنظيم المجتمع على أساس مفهوم الأمة الذي عوض مفهوم القبيلة. وهو مفهوم يبدو أنه يتخذ صورة الوحدة السياسية. فقد قدمت"رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تلك التي توجد في الأقسام الأولى من القرآن الكريم، توافقا إديولوجيا مع الوضع الجديد" (Rodinson,p.178,158)؛ سواء في مكة أو في المدينة ( كرم الله، الخلاص الفردي، العدل الاجتماعي، نظرة جديدة إلى الزواج وإلى الأسرة). إن النظام الاجتماعي الذي وضعه الرسول نظام يضع حدا، في نفس الآن، لتلك الحروب العديدة بين القبائل وللبنينة الاجتماعية القديمة. إننا بإزاء كيان جديد منسجم قيد التشكل، وهو كيان يهدف إلى إرساء الاستقرار على مختلف المستويات. ولهذا السبب، نفهم أن "الانخراط في الأمة يضمن السلام والأمن، كما أنه يؤمن وسائل العيش من خلال الغنائم المنتزعة من الكفار" (Rodinson, p.179 ). الواضح أننا بصدد إيجاد عامل ييسر التوسع الاقتصادي لكيانات جنوب الجزيرة العربية، وهي كيانات "كانت قد حاولت إخضاع "البدو" ( نفسه، ص 181)، الذين كانوا يتسببون، في السابق من خلال الغزوات التي يقومون بها، في إحداث خسائر كبرى في صفوف فئة التجار . وقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، انطلاقا من منظور التنظيم الاجتماعي المستقبلي، مطالبا بإيصال رسالته إلى كل القبائل العربية. ومن الطبيعي ألا يتأتى نشر أفكاره وقيمه من خلال التنوع اللغوي، ذلك أن الرؤية التوحيدية والموحدة تتطلب نسقا تواصليا مشتركا ومنسجما. فالتمثل الموحد للتصور الديني يستلزم تشاكلا موحدا لسكان الجزيرة العربية، بينما يشكل اتخاذ لغة مشتركة، كأداة تواصلية، رمزا قويا للتضامن الذي يوحد العرب. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه اللغة ستسمح بنسج صلات بين المجموعات التي تتكون منها الجزيرة العربية. وهكذا، تجد الرسالة القرآنية أمامها لغة سبق أن أقامها الشعراء. ولذلك لم يكن بالإمكان أن" تنقل الرسالة إلا بوساطة لغة العرب الجميلة، بواسطة اللغة الفنية للشعر" (Fleisch, p.19، وPellat, 1970:31). وقد أدت اللهيجات المتناثرة بالجزيرة العربية، التي كانت تتحطم عليها الغزوات الثورية للرسول صلى الله عليه، دورا معرقلا. وهو ما استوجب ضرورة التوفيق بين الرسالة القرآنية والنسق اللساني المشترك، الذي لا يخضع للتأثيرات اللهجية وخاصة منها تأثيرات أهل الحجاز. (Fleisch, p.19). لقد كانت لغة الشعراء، إذن، هي المنطلق، غير أن إيديولوجية الإسلام الجديدة قد خصَّبته. وقد تمثل ذلك في تدخل الإيديولوجيا الدينية التي غيرت من وضع اللغة العربية، ليكتسي هذا النظام التواصلي طابعا دينيا لا طابعا أدبيا فحسب. ونكون، على هذا المنوال، قد أسندنا إلى اللغة، دورا مقدسا، ودورا متساميا. فقد استقطبت اللغة السلطة الدينية لتتحول، بالنتيجة، إلى أداة تكهن، أي إلى أداة سلطة. "فنحن لا نبحث عن أن نُفهم فقط، وإنما نبحث عن أن يوثق بنا، وأن نطاع، ونُحترم، ونُمَيَّز" (Bourdieu,1977:20 ). ويترتب على ما سبق أن العلاقة بين الناس واللغة قد أصبحت علاقة سلطة اعتقاد، واعتقاد سلطوي، وأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم لا ينشر الدين فقط، بل ينشر اللغة ذاتها، وأن اللغة تحطم الحدود بالقوة فوق الطبيعية التي اكتسبتها بفضل التدخل الإيديولوجي للرسول (ص). لقد التبست اللغة بالدين، وصار القرآن هو كلام الله، وصارت اللغة التي نقل بها الدين اللغة التي اختارها الله لنقل رسالته. وقد احتوى الخطاب القرآني (ومن ثمة اللغة) على ظواهر شبه صحيحة (1969Blau, )، وقد قوَّت الظاهرة القرآنية، فيما يبدو، مثل هذه الظواهر. ومن المحتمل أن يحصل عن التواصل بين القبائل ( الاعتناق، والفتوحات، والتجارة، إلخ… ) خليط من اللهجات ( الحضرية والبدوية) ونزوع معين نحو التقليص من الفوارق بين اللهجات ولغة السلطة الدينية. ولا شك في أن العلاقات اليومية بين الحضريين والبدو هي التي فرضت، إلى جانب اللغة المشتركة الشعرية القرآنية، إنشاء لغة مجاورة ومقاربة (Cohen, 1970:106, 124) تُستخدم للتواصل بين كل سكان الجزيرة العربية. إنها لغة بين -قبلية تستجيب للحاجيات الجديدة الاجتماعية والاقتصادية. 1. المشاكل اللغوية وهندسة السياسات اللغوية على إثر نشر الإسلام في كل أطراف الجزيرة العربية، جاءت الفتوحات الكبرى التي قادها الخلفاء الأوائل. ومع أن السبب الأول لهذه الفتوحات قد كان، في المقام الأول، ذا طبيعة دينية، فإنه لا يمكننا أن نغفل دوافع ذات طبيعة اقتصادية. فقد كانت تهديدات الأمبراطورية البيزنطية، وثروات البلدان المتاخمة وضرورة بحث المسلمين عن أسواق نشيطة على إثر الانتهاء من الفتوحات بالجزيرة العربية، -كانت تلك عوامل لا يجدر بنا تجاهلها. ( الدوري، ص 15). وقد كان من نتائج هذه الغزوات أن حدث تغيير كبير في حياة العرب، وفي تصوراتهم وتمثلاتهم للأشياء. فقد انفتح أفق تفكيرهم على مجتمعات وحضارات أخرى وثقافات مختلفة. هكذا، امتزج العرب بالأجانب واشتد عضد الاختلاط، وخاصة في المدن التي كانت فضاءات للاتصال والاحتكاك بين التجار والزبناء من مختلف الأجناس والثقافات واللغات. وكان العرب يستحضرون، منذ البدء، خشيتهم من إدماج غير العرب في الجماعة العربية وذلك في بداية إرساء المراكز العسكرية المكونة من البدو وتوطينها. وكان هذا الإجراء قد اتخذ بغية تفادي إدماج الخصوصيات اللهجية غير العربية في لغة البدو. غير أنه لم يحدث لأي جماعة أن بقيت بمنأى عن تأثيرات الجماعات الأخرى، خصوصا مع الازدهار الاقتصادي والثقافي الذي عاشته خاصة منطقة ما بين النهرين التي تطورت فيها الحضارة الأولى الزراعية الحقيقية وذلك تحت حكم الدولة العباسية. وبالموازاة مع ذلك، نشَّطت التجارةُ البعيدة، البحرية والقوافلية، هذه الحضارةَ وخاصة في الجانب الآخر من "الهلال الخصيب". لم يتوقف الغزو العربي عند هذا الحد، فالدولة الإسلامية ضمت كذلك فارس الساسانية التي استُعير منها تصورها التنظيمي للدولة. وقد عرف العالم الحضري ازدهارا ثقافيا متناميا بفضل الأجيال الأولى من الفلاسفة والعلماء، الذين يعود أصلهم إلى ماوراء زاغروس بإيران الذين أدوا دورا حاسما في تشكيل الثقافة الجديدة.(Samir, A. p.17 ). وقد كان هذا المجتمع العربي الجديد متمركزا على البلاطات، والمحاربين، ورجال الدين، وتجار بغداد، والبصرة وحلب ودمشق. وهكذا، فهذه المدن هي التي قامت بدور سياسي واقتصادي وثقافي هام؛ وذلك بسبب تراكم الثروات. وعلى الرغم من نهوض الحضارة المدينية والتجارية، فقد بقيت البوادي بعيدة عن بعضها البعض، مع بقائها خاضعة للمدن الفخمة والكثيفة السكان التي تعد مراكز للثقافة العربية الإسلامية. (Samir A, p. 20،). إلا أننا سنعرف، انطلاقا من 700، تناوبا بين فترات التقدم والانحطاط. وإن كنا سنعرف، في القرن العاشر، تحطيم الغزو التركي المانغولي للأمبراطورية العربية وإنشاء اثنتي عشرة دولة مستقلة. وهو ما سمح بظهور أشكال شبيهة بالإقطاعية على حساب أشكال التجارة. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن هذه الكيانات السياسية لم تتوحد وحدة شكلية إلا تحت النفوذ العثماني. وبالنظر إلى المشهد الموصوف أعلاه، يمكننا أن نتساءل عن الوضع اللغوي في الأمبراطورية العربية؟ كيف يتمظهر، وما هي أهم سماته وخصائصه؟ بادئ ذي بدء، ينبغي أن نسجل أن الأمبراطورية العربية الإسلامية تتضمن تنوعا لغويا كبيرا: اللغة العربية بمختلف تنوعاتها (الأدبية، والبدوية، والحضرية..) تضاف إليها لغات الأقوام الأخرى التي اشتركت معها في المجال الترابي. ومن الطبيعي ألا ينغلق أي تنوع من التنوعات على ذاته أبدا لأن شروط التبادل اللغوي قد خلخلها النظام السياسي الاجتماعي الجديد. وهكذا، وفي ظل حكم عمر بن الخطاب، ومن أجل الحفاظ على اللغة العربية من مخاطر "الفساد"، أنشأت الدولة مراكز عسكرية تتشكل حصريا من البدو الذين كانوا، خلال أيام الغزوات، يستعملون الإعراب الذي يتضمن الوقف ونظام الإسكان (Fleisch, p. 23, et Fleisch, 1961:173). ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن تنوعاتهم قد احتفظت، إلى غاية القرن العاشر، بالحالات الإعرابية في الاسم والفعل (Fuck, p. 131). إلا أن هذا الفرق، كما لاحظ ذلك يوهان فوك، لم يكن بالمقدور الحفاظ عليه بين الغزاة العرب والسكان غير العرب. وبفضل التغيرات الاجتماعية، وخاصة بتحويل المراكز العسكرية إلى مدن كبرى، لم يعد العالم البدوي بمعزل عن التأثيرات اللغوية الأجنبية. فقد أبان الانتقال إلى الحياة المستقرة وإلى التجارة عن بداية فترة جديدة في تاريخ اللغة العربية. وهكذا، ترك اللفظ الوحشي مكانه للغة محكمة ولينة وبسيطة لا تعيق التفاهم. ( نفسه. ص 50). إن الحياة المدينية "لم تعد هي هذا العالم الذي تحدده الجماعة، بل هي العالم الذي يفتقد هويته الخاصة، إنه عالم مجهول، وغير قابل للتبادل، إنه عالم كوسموبوليتاني ومجرد…" ( Gobard, 1976:28،). فلقد باتت الحياة الاجتماعية المدينية تتطلب علاقة اجتماعية أخرى بين المتخاطبين. وهي علاقة لا يمكن لها أن تقام دون أن تحطم الحواجز اللغوية التي لم تعد تستجيب لحاجيات النمط الجديد للحياة وشروطها الجديدة. وهكذا، تشتغل العلاقة التواصلية "وكأنها سوق يعمل مثلما تعمل الرقابة وذلك بإعطاء قيم غير متساوية، إلى أبعد حد، إلى المنتجات اللغوية المختلفة") Bourdieu,,p. 28). وعليه، فالمشكل اللساني يحدث منذ الاتصال الأول بغير العرب المرتبطين بأي جيش من الجيوش العربية حيث يُلاحظ ظهور لغة تجارية تلجأ إلى الوسائل الأكثر بساطة في التعبير اللغوي. (Fuck, p. 8 et 102). هذه الظاهرة ستتعزز خاصة مع الموالي في المراكز الحضرية؛ إذ يتبنى غير العرب، من خلال عملية تعريبهم، عددا من التغيرات التي تلحق بالنطق فالصرف فالتركيب. وقد انتقل التنوع اللغوي في المدن التجارية ( مكة، الكوفة، البصرة، المدينة) إلى درجة إحداثه تغييرات وفسادا في اللغة العربية. ويؤشر مثل هذا الحدث إلى أن الوضعية قد صارت أخطر: فقد صارت العربية تُحقَّق بدون إعراب لتبتعد، بذلك، عن "العربية الكلاسيكية" (نفسه، ص 88 و 90) من حيث البنية، ويلاحظ ذلك خاصة في الشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا من ساكنة المدن. يتعلق الأمر بالعربية الوسطى المميزة ببنية أكثر تحليلية. وهي العربية التي ستعرف رقعتها اتساعا بعيد سقوط الأمبراطورية العربية ( نفسه. ص 87). هكذا، عرفت اللهجات المدينية تغيرات مست خاصياتها اللغوية. وحده العالم البدوي قد حافظ على نقاوة وصفاء في لهجاته، وذلك على الرغم من الأخطاء التي يقع فيها هو نفسه، وعلى الرغم من بعض خصوصيات كل لهجة من قبيلة إلى أخرى. وتضاف إلى ذلك، تأثيرات لغة القرآن وتأثيرات اللغات الأصلية. ولهذا السبب، كان على مَعْيرة اللغة العربية أن تتأسس على قاعدة اللغة البدوية، وعلى وجه الخصوص على لهجات بعض القبائل: قريش، وقيس، وتميم، وأسد، وهذيل(الأفغاني. نفسه). ويمكن النظر إلى معيرة اللغة العربية على أساس أنها ضرورة دينية؛ إذ كان يجب تأمين القراءة الصحيحة للقرآن الكريم، وحمايته من التنوعات التي أدخلها القراء ( القراءات السيع) (Fleisch, p. 19 et 20، ؛ أنيس، ص 67) وغير العرب الذين دخلوا إلى الإسلام. وقد استهدف التصويب اللغوي، في البداية، اللغة في ذاتها ولذاتها، لكنه استهدفها، في الجوهر، لأنها وعاء الدين الإسلامي. هذا الإسلام الذي بلغ مرحلة صار عليه فيها أن يعرف بنفسه بإقامة قانون خاصة بإزاء عالم غير عربي حديث الدخول إلى الإسلام والذي عليه أن يستوعب التصور الديني برمته. ومن هنا، كانت الحاجة أكيدة إلى التفسير الذي سينقسم إلى عدة فروع من بينها النحو (Fleisch, p. 21 )، فقد تحولت كتب التفسير الأولى تدريجيا عن طريق التعمق والتخصص إلى كتب نحو متكاملة وكتب لغة وقواميس (كولوغلي، سبق ذكره). وهكذا، "سينفصل باكرا من صفوف القراء رجل جديد، تقني اللغة العربية: هو النحوي" (Fleisch, p. 25). لقد أفضى كل نشاط النحاة واللغويين، خاصة في القرن الثامن، إلى إنشاء اللغة العربية القديمة التي هي "حصيلة جرد تم إنجازه (…. ) موضوعه القرآن، والحديث، والشعر القديم واللهجات التي عدت أكثر نقاء" (, p. 33 Pellat). لقد نشأ النحو بهدف الفهم الجيد للنص القرآني، وتيسير تعريب جيد (وإذن أسلمة جيدة) لغير العرب، وتعليم لغة بدون لحن لسكان المدن. على هذه القاعدة، عُد تصور النحو ضرورة حيوية. (Fleisch, p. 46). كانت تلك هي الاعتبارات التي استندت إليها قواعد الاستعمال الصحيح للغة الذي ظهر في المدن. وهو ما يسمح لنا بأن نستخلص بأن الأمر يتعلق، إذن، بظاهرة مدينية، إلا أنها تتأسس على قاعدة الاستعمال اللغوي عند البدو. ففي كل القضايا اللغوية، كانت الإحالة على البدو، وكان الاحتجاج بلهجاتهم لتفسير الظواهر اللغوية. فهم، في هذا المجال، سلط لا يُطعن فيها. إلا أن ذلك، لم يبعد عن النحو العربي الانقسام إلى فريقين متنافسين: هما البصرة والكوفة. وقد كان من نتائج هذا الانشطار أن صارت القواعد المؤسسة معقدة وصعبة. ومن الممكن أن يكون هذا الانقسام إلى بصريين وكوفيين ناتجا عن طرق البدو في القول. ف"هذه الطرق المختلفة في القول تجد مصدرها في اللهجات، وكل واحد يدافع عن الطريقة التي تبدو له صائبة" (Landberg, p. 46؛ Fuck, p. 52). هذه المعيرة اللغوية على النمط البدوي ستفضي باكرا (وخاصة مع الانتقال إلى الحياة المدينية) إلى مأزق. إذ سيتضح أن بالمجال الترابي أجيالا أخرى لم تكن لها معرفة سابقة بالحياة البدوية، وهو ما نمى الحاجة الضرورية إلى إيجاد لغة سهلة ومرنة وواضحة وتستجيب للحاجيات الجديدة. ويمكن أن نمثل لذلك باستعمالهم اللغة الشعبية في الشعر منذ عهد هارون الرشيد(انظر Fuck، ص: 82 و83 ). منذ ذلك الحين، بدأت اللغة الأدبية في الابتعاد عن العربية البدوية في مجالات الصرف والتركيب والمفردات والأساليب ( نفسه، ص 87). وعلى الرغم من وضع النحو، فإن أخطاء الفساد قد عرفت انتشارا كبيرا إلى درجة أصبح معها وقوع الخطإ مباحا. وقد شملت هذه الظاهرة كل الكتاب. ويعود السلوك اللفظي إلى تأثير العربية الوسطى التي صارت ، مع تفكك الدولة الأمبراطورية العباسية، أمرا واقعا؛ فتشكلت اللهجات الجهوية من تعبيرات محلية لها ملامح مشتركة. ( نفسه، ص 143؛ انظر أيضا Dozy، ص: 306 و307). غير أن مهمة النحوي قد أدت إلى مَعيرة اللغة العربية التي تمثلها هذه اللغة المشتركة الثقافية التي ارتقت إلى مصاف اللغات المكتوبة. وكما ساهمت في مأسسة اللهجات، وإن كانت الصرامة والدقة اللتان جرت بهما المعيرة قدأضرتا بتطور اللغة العربية. ومع ذلك، فإن استيعاب عربية القرآن قد حافظ على وضع اللغة العربية "التي تظل اللغة الدينية بل والرسمية في الجزء الغربي للمجال الإسلامي بإفريقيا الشمالية، وإسبانيا، وأيضا بسوريا ومصر إلى بدايات الهيمنة العثمانية" (Pellat, p. 46). فيما ظل كل هجوم على اللغة العربية يؤول باعتباره مسا بالدين. لقد صارت للغة العربية قيمة روحية كبرى. لعل أهم حدث لغوي تمثل في القرار الذي اتخذه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، في سياق قرارات مؤسّسة للدولة، والقاضي بجعل العربية اللغة الرسمية للدولة الإسلامية. وهو القرار الذي صاحبه قرار تقني يقضي بإصلاح الكتابة العربية. لقد ولَّدت حركية المجتمع والتغيرات التي عرفها بسبب الازدهار الاقتصادي، والتوسع الترابي واحتكاك الإثنيات المتعددة، بالتدريج، شعورا بالوحدة القومية. وفي هذا السياق، يمكننا أن نموقع محاربة الفساد اللغوي الناتج عن مخالطة الأجانب. ومن شأن هذا أن يناسب تماهيا بين العربية والعرب، وبين العربية والرسالة المحمدية. لقد افترض إرساء سلطة مركزية على مستوى الأمبراطورية العربية على الصعيد اللغوي إرساء جماعة توحدها مجموعة من المعايير المشتركة. فالمعيارية، إذن، مرتبطة بسيرورة تشكل الأمة العربية القائمة على الإديولوجية الإسلامية. هكذا، سايرت الإديولوجيا المعياريةَ. لقد أُرسيت قوانين الدين الجديد في الوقت الذي أرسيت فيه قواعد اللغة العربية. وفي الوقت الذي يدافع فيه الفقهاء عن نقاء الإسلام باعتباره دينا وحيدا لكل الأمبراطورية، فإن النحاة لم يتوقفوا عن التبشير بصفاء العربية بوصفها الأداة الوحيدة للتواصل. ومن ثمة نشأة النحو الذي محا كل الاختلافات. فلا مجال في العربية لأي موقع للتمييزات والاختلاف والتنوع. (François,1976:66). وتجعلنا هاته الوقائع نفهم، للتو، معنى الصراع الذي يخوضه النحاة من أجل التوحد الصواتي والصرفي والتركيبي والدلالي والمعجمي ذلك أن اللغة "تناسب، من حيث تحديدها، نسقا واحدا، أي تناسب نحوا واحدا" (Rey, 1972:12). إن لغة القرآن لغة صفاء وطهر، وهي تجسد العقل الديني. إنها الاستعمال الأجود، وعلى هذا النموذج الذي تقدمه يجب توحيد تنوعاتها. غير أنه، بسبب ذلك، يُلجأ إلى الغلو في التصويبات، وهو ما يؤدي إلى انتقاء صارم من اللهجة. إن النخبة الوطنية من النحاة لم تترك أي حق في الاختلاف وللاختلاف. فلقد أدانت الاقتراض اللغوي والمداخل المعجمية. لقد حبس النحاة أنفسهم في برج بابل دون أن يأخذوا بعين الاعتبار الوقائع اللغوية التي تجتازها بلدانهم السائرة في طريق تشكلها في صورة دولة. ويبقى منتجهم منتجا فوقيا. ومع أن مهمتهم عويصة، فإن أي خليفة لم يوفر لهم بنية تحتية قادرة على أن تيسر لهم عملهم. فكانت الحصيلة أن ظل هذا الامتثال النحوي محصورا في فئات اجتماعية محلية أو في مراكز محلية" (, 1975:677 Gramsci). إن الامتثال النحوي الوطني الموحد كان في صلب جدول الأعمال بغية استكمال إرساء لغة وطنية مشتركة، وقد سلم كل ذلك، بالإضافة إلى دوغمائية النحاة العرب وغياب تخطيط لغوي حكومي، إلى "احتكاكات خصوصا في وسط الجماهير الشعبية حيث تكون الخاصيات المحلية والظواهر النفسية الضيقة والإقليمية شديدة العناد أكثر مما نعتقد. (Gramsci, op.cit. p. 679). ومن ثمة، يجري إرساء أرستوقراطية لغوية (Rey، 18) حيث تبقى غالبية الشعب غريبة عن ممارسات العربية المعيار. وإذا كان التوحيد غير قائم على المساواة، فإننا سنعرف، من الآن فصاعدا، تقسيما للعمل في الممارسات اللغوية، ولامساواة بل تناقضا صارخا بين العامة والخاصة. بذلك يتأتى لنا القول بأن السوق اللغوية لم تعرف توحدها الكامل حتى وإن كانت اللغة العربية قد فرضت نفسها كلغة وحيدة ومشروعة. إلا أنها هي اللغة التي تسود في السوق. فقد أرسيت علاقات هيمنة جديدة تكون فيها للغة المعيار وحدها الفعالية الاجتماعية مع احتكارها للممارسات اللغوية. إنها الاستعمال المهيمن بحيث تتماثل مع الحظوة الاجتماعية والثقافية والسياسية وتلغي الكلام واليومي والمباشرة، وإذن تقصي التنوع والتغير اللغوين. ف"كل ما يقسم الجماعة اللسانية قد أحيل على جهنم الفعل الفردي" ( Encrevé، في تقديمه لكتاب Labov، ص 11). لقد تمثل مصدر التوجيه الأساسي الأكثر انتشارا للنحاة الجدد في تصورهم الخاطئ لطبيعة الجماعة اللغوية وطرح الوضع الاجتماعي للغة. وإذا كانت الحياة الاجتماعية، في ذلك العصر موحدة، فإنها لم تكن أقل انقساما لأنها كانت مجال الصراعات الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد كانت أبعد من التجانس التبسيطي. فاللغة لا يمكنها أن تكون سوى جزء لا يتجزأ من المجتمع. ومن هنا نقول بأن اللهجات تعكس هذا الصراع. لقد رأينا أن المجتمع العربي يسير نحو تنوع لغوي متزايد متقاسما مجموع المعايير. وهذا ما يفسر مقاومة المعايير غير المشروعة في مواجهة المعيارية المشروعة التي يعترف بها الجميع وإن كانوا لا يتقاسمونها. ( Encrevé، في Labov سبق ذكره، ص 33؛ انظر أيضا Labov، ص. 268). إن انعدام وجود إطار اجتماعي قد استلزم الإغفال النهائي لدراسة الجماعة المتكلمة، أي اللغة اليومية. وقد ترتب على ذلك تحديد ما هو صواب في إطار التناسب مع قواعد النحو، وكأن اللغة المنطوقة ليست نحوية وليست سوى فساد للنموذج المعياري. وباعتبارنا لذلك، نلاحظ أن النحاة العرب قد عملوا على إقصاء كل تنوع من اللغة. ليُنظر إلى اللغة بوصفها مجموعا منسجما ووحيد الشكل، فيما يعود كل تنوع إلى الفرد المنعزل عن وسطه الاجتماعي. إنها تفتقد للمعنى الاجتماعى. إذ على اللغة أن توحد بغير المتغير فيها. إننا نتوافر الآن كذلك على جماعة أريد لها أن تكون منسجمة وإن كانت تخترقها فسيفساء لغوية. وفي ظل هذه الجماعة التراتبية والهرمية، يتعذر على شكل الحظوة أن يخترق كل مكوناتها، وإذن، فهناك تراتبية متصاعدة لإنجازات موضوعية ( p 183 Labov,). لقد كان للتوحيد اللغوي للجماعة الاجتماعية أيضا مفعول عكسي إذ أنتج تقسيما لغويا للمتكلمين وذلك بطريقتين: " لسانيا، وذلك من خلال التنوع الهام جدا الناتج، على مستوى السطح، من التطبيق المختلف ( في البنية وفي التواتر) بحسب اللهجات، ومن خلال قواعد متغيرة مشتركة، وتطبيق قواعد خاصة على لهجة معينة دون تناسب مع الأخريات، وسياسيا، من خلال طريقة اكتساب العادة اللغوية (في موقع اجتماعي مهيمن أو مهيمن عليه) الذي يتحكم، بتحكمه في العلاقة باللغة، في اكتساب (واستعمال) هذا النحو الفرعي أو ذاك للغة بالنسبة إلى كل طبقة في تبادلاتها الداخلية وفي علاقاتها مع الطبقات الأخرى ( التنوع الأسلوبي). ( Encrevé, p. 32 et p. 33). هناك، إذن، تقسيم لغوي، لكن هناك أيضا هيمنة وتمييز وصراع ومقاومة. تلك هي نتائج توزيع الوظائف الاجتماعية للغة. لكن هناك أيضا إنكار التغير اللغوي الذي هو عبارة عن التنافر المقيم في قلب كل نسق لساني. إلا أن الغلو في التصحيح قد كان آلية هامة من آليات التغير اللغوي. وقد كانت كذلك بنينة اللغة العربية الفصحى نتاج هذا التغير الذي لحق بالأنساق الفرعية إلى حدود فترة المعيرة. وفي الحقيقة، لم يستطع التوحيد لا عرقلة ظهور العربية الوسطى، ولا عرقلة لغة المحدثين تحت حكم العباسيين ( بشار بن برد، أبو نواس…)، ولا منع بعض المجموعات من الاحتفاظ بلهجاتها. لقد أثرت الممارسات اللغوية، إذن، في بعضها البعض، وذلك تبعا للمراحل التاريخية في الوقت نفسه الذي تابعت فيها كل "لغة" مسار تطورها الذي لم يكن هو أيضا موحدا، إلا أنه كان يعكس تغير العلاقات الاجتماعية؛ وخصوصا خطاب الحياة الاجتماعية غير المراقَب. على هذا المستوى، يمكننا القول بأن هذا التنافر اللغوي ليس شرا أو خطيئة كبرى، لكنه مرتبط بالسيرورات العادية للتواصل وجها لوجه (Labov, p. 432،) وأن التنافر يمثل الحالة العادية للنسق؛ ومن ثمة، يكون من المحق إلغاء التعارض بين اللغة المعيارية واللغة بلا معيار. فكل واحدة منهما تعد وجها من وجهي نفس النسق. (Marcellesi et Gardin, 1974: 204). لقد كانت الوحدة السياسية التي أسسها المحاربون التجار وحدة هشة، وتمركزا قائما على التجارة البعيدة المدى التي يشكل التشتت مصيرها المحتوم بمجرد تحويل طرق التجارة. وعليه، فإن الوحدة اللسانية القائمة ليست صلبة أبدا، ولا منتشرة الانتشار المرغوب فيه. إلا أن عوامل التوحيد، وهي عوامل قوية جدا، تبدي إصرارها على الاستمرار. " تلك العوامل التابعة للدين الموحد، وعوامل تأثير النص المقدس، وعامل الشعور المتفاوت القوة بحسب العصور، وإن كان شعورا لا يخبو تماما، وعامل الشعور بالانتماء إلى جماعة ثقافية" (Cohen, p. 124). ويضاف إلى ذلك عامل الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة. إن تشتت العالم العربي إلى كيانات سياسية إقليمية مستقرة نسبيا لم يضع موضوع نقاش أو جدال مسألة الانتماء الثقافي أو الانتماء القومي. إنه التعدد في إطار الوحدة (Meillet, 1970:54). وبذلك يكون العالم العربي متعددا وموحدا في نفس الآن ثقافيا ولغويا. 1. في أفق استكمال تصور اللغة العربية: موضوع أصل اللغات: رأينا، أعلاه، وقائع تأريخية ضمن أفق تصوري مطبوع بالمعتقد الديني، نريد، فيما يأتي أن نمنح له الفضاء المناسب وأن نبين حضور المقوم الديني في ثنايا التفكير اللغوي وحلقات تأهيل التعبيرات العربية لتولي عملية التواصل اللغوي. سنعرض، في هذه الفقرة، الخلفية الفكرية التي انتظم داخلها الحراك اللغوي العربي القديم، ومدى مساهمتها في بناء تصور عربي قديم للغة العربية. وتشكل الأفكار المعروضة هنا مدماكا نظريا صلبا يؤطر الممارسة اللغوية ويقنن السلوك التأويلي لتعبيراتها المختلفة. وتتنوع أركان هذه الخلفية لتشمل: موضوع نشأة اللغة (ات)، وأولى اللغات، وأفضلها، وأول المتكلمين بها، وأفصحها، وأفصح المتكلمين بها…. يشكل موضوع أصل اللغات ونشأتها موضوعا ممأسسا لعربية القرآن. به وبغيره تبني الدولة تصورها الفكري وعمودا أساسيا من أجهزتها الإيديولوجية، فتضع إطارا فكريا وتصورا ينتظم الأفكار المتداولة ويحدث تناغمها على قاعدة قناعات ومعتقدات مستوحاة من تعاليم دينية ومن تقاليد ثقافية وأنساق رمزية في أفق تعزيز وحدة العربية ووحدانيتها، وبيان قدسيتها وسموها، وإبراز كمالها وعبقريتها. ومن الجدير بالذكر أن الأسطرة العربية لواقع العرب ولأفكارهم ومعتقداتهم تتواصل مع أساطير الأمم السالفة لكنها، بانتقالها من حضارة إلى أخرى، تتخذها لبوسا ثقافيا، لتتكيف مع ثقافة الحضارة الجديدة ومعتقداتها. وهذه النظرة إلى اللغة تحتاج منا إلى رصد محاولة الاكتشاف – ومن ثمة التفسير – المستمر لطبيعة اللغة وبيان عناصرها ووظائفها وبنياتها ورمزيتها وصلتها بالفكر والسحر والدين والفلسفة. وعلى خطى الأمم السابقة، كان لا بد من الانخراط في السرديات الأسطورية ليتموقع العرب في الزمان والمكان، فانشغلوا بموضوع اللغة، مثل سابقيهم، من حيث إنها لغة وثيقة الارتباط بالقرآن الكريم، ومن حيث القدرات التفكيرية والإبداعية والعملية التي مكنت الإنسان منها. فمثلما اعتقد اليونانيون أن لغتهم أصل اللغات وأفضلها في مقابل اللغات البربرية، واعتبر الهنود واليهود اللغتين السانسكريتية والعبربة لغتين أصليتين، صاغ العرب رؤيتهم للغتهم وتاريخها وأدوارها ومكانتها وكونيتها. كما انشغل الفكر الإنساني بمسألة تعدد اللغات، فرُبطت بأسطورة بابل، ذلك أن الله بلبل ألسنة البشر على إثر تحديهم له واتخاذ قرار بناء برج بابل في محاولة منهم الوصول إلى حيث يوجد الله. والمتصفح في الثقافة العربية الإسلامية سيلاحظ أنها لم تسلم من نفس الموجهات. فتبعا للنصوص القديمة ( ابن فارس، ابن جني، السيوطي) كان للنظرة الدينية حضورها الوازن عند العرب، على غرار غير العرب في العصور القديمة فالوسطى فعصر النهضة. وتتكون خريطة التصور من شبكة من الموضوعات المتلازمة: طبيعة اللغة: توقيفية أم اصطلاحية، العربية لغة الأنبياء وأهل الجنة، العربية لغة القرآن، اللغة الأولى هي العربية، لغة مقدسة، التكلم بها مفتوح على التنوع، اللغة النموذج واللغة المثال التي يسعى الإنسان جاهدا ليرتفع إليها. اللغة الأولى أحادية، مستويات التكلم بها ، التعددية والخطيئة، المفاضلة بين اللغات ومكانة العربية ضمن اللغات، القرابة النظامية والقرابة العائلية. لقد سدت مجموعة من الموضوعات المشاغل اللغوية الحرجة ودور الإيديولوجيا في ربح الرهانات السياسية والاجتماعية من قبيل: كيف فكر الإنسان في اللغة؟ ولم الحاجة إلى اللغة؟ وكيف نشأت؟ وما اللغة الأولى؟ ومم بدأت؟ وكيف تطورت؟ وهل نشأت متعددة أم أحادية؟ وما صلاتها ببعضها البعض، وما علاقة اللغة بالدين وبالأسطورة وبالخرافات وبالعقل؟ وهل للفكر الإنساني نظرة واحدة أم نظرات تختلف باختلاف الثقافات والأعراق؟ وكيف تأتى لأصل اللغات أن اختلط، إلى درجات كبرى، بأصل القدرات العجيبة المعرفية وبأصل الثقافات في مختلف أشكالها: السلوكات الدينية، المعنى الفني والجمالي، البناءات الاجتماعية الشديدة التطور والتعقيد. ففي موضوع أصل اللغة، يرى ابن فارس أن لغة العرب كلها توقيف ووحي؛ توقيف يتخذ أشكالا مختلفة: الوحي على نبي، أو خلق أصوات في بعض الأجسام، أو خلق علم ضروري في بعض العباد. ويستند هذا الرأي إلى قوله تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها". وعملا على تلطيف التناقض بين الذاهبين إلى أنها وحي وإلهام والذاهبين إلى أنها تواضع واصطلاح، ذهب ابن جني إلى أن المراد بالتوقيف هو أن الله قد أقدر آدم، ومن ثمة الناس، على الكلام وعلى المواضعة، وعليه، فهو يؤول التوقيف بالقدرة على إنتاج الكلام والتخاطب به، فكان أن علم آدم الأسماء بجميع اللغات التي تفرقت بحسب تفرق آدم وأولاده (انظر السيوطي،). إن اللغات توقيف لا اللغة، وتعددها من خلق إلهي. وفي موضوع أحادية اللغة وتعددها، تكاد كل التمثيلات والتصورات تمتح من أصل واحد هو سفر التكوين الذي جاء فيه:" 1 وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً.(…..) 4 وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ». 5 فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. 6 وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَ ذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. 7 هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ» . 8 فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ، 9 لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ ." اعتمادا على هذا النص، تكون اللغة الواحدة الموحدة هي الأصل، وتكون بلبلة الألسنة وتعددها لاحقا على عصيان وناتجا عن خطيئة، فكأنه عقاب لأنه، مبدئيا، يعوق التفاهم المتبادل. أما الرواية العربية فقد اتخذت تلوينات أخرى. جاء في المزهر: " وأخرج ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفا قال: لما حشر الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا؛ فاجتمعوا ينظرون لماذا حشروا له، فنادى مناد: من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره، واقتصد البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء، فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود، أنت هو؟ فكان أول من تكلم بالعربية المبينة؛ فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا، حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا، وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن؛ فسميت بابل. وكان اللسان يومئذ بابليا" (السيوطي، ص. 32) هذه الرواية العربية لبلبلة الألسنة تأتي في سياق التوزيع الإلهي للألسنة ومعاييره، وتخصيص يعرب بن قحطان بكلام أهل السماء ليكون بذلك أول متكلم بالعربية المبينة. بل إن العربية كلام أهل السماء، وهي إيحاء إلى النبي أو إلى أنبياء، إيحاء إلى نبينا محمد (المزهر، 34)، بل إنها كانت لغة الأنبياء، قال رسول الله: "كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها" (المزهر، ص 35). وبذلك، عُدت العربية أول اللغات وكل لغة سواها حدثت بعدها عُدت إما توقيفا أو اصطلاحا واستدلوا بأن القرآن كلام الله، وهو عربي، وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات وجودا (المزهر، 28). وقيل أيضا ضمن نفس المنطق وبنفس التنويع إن أول من أطلق لسانه بها إسماعيل، إذ وُقّف على العربية المحضة، فهي توقيف من الله تعالى ( المزهر، ص. 28). فالله هو الذي علم آدم الأسماء كلها. وقد كانت العربية لغة آدم في الجنة، فلما عصا سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه العربية (المزهر، ص. 30). كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربيا، إلى أن بعد العهد وطال، حرف وصار سريانيا… وكان يشاكل اللسان العربي… إلا أنه محرف.. وهو كان لسان جميع من في سفينة نوح إلا رجلا واحدا يقال له جرهم، فكان لسانه لسان العربي الأول (المزهر، نفس الصفحة). تحاول تلك النصوص أن تصبغ اللغة العربية بكل ما يجعل منها لغة تتجاوز اللغات الطبيعية البشرية مؤكدة لنا أن العربية كلام أهل السماء، فهي لغة سماوية مقدسة مثلها في ذلك مثل القرآن، ولأنها كذلك فلا يمكنها أن تكون إلا إيحاء وتوقيفا، ولأنها كلام أهل السماء فهي لغة آدم في الجنة ولغة الجنة. إنها اللسان الأول والأسبق، إنها اللغة المبينة الأكثر فصاحة وأناقة وطهارة وصفاء. وهي لغة أودعها الله رسالته إلى البشر. فعلاقتها بالبشر علاقة مستعملين، وكل إنسان يتطلع إلى إنجاز لغوي نموذجي كما حدث ذلك في كلام الله وإنجاز أنبيائه، ومن هم أقرب إليهم. إنها لغة الدنيا والآخرة، ولغة الله ولغة البشر، ولغة الصفاء ولغة الاختلاط. إنها لغة إلهية ولغة بشرية، لغة كاملة، ولغة ناقصة، لغة إلهام ولغة اصطلاح، ومن ثمة لغة صفاء لغوي ولغة فساد لغوي. إنها لغة تتغير بتغير مستعملها. لقد حولت المخالطة الصفاء إلى فساد، كما حول التسامي الفساد إلى نقاء. 1. اللغة العربية وأبعاد المفاضلة بين اللغات: بين التتويج والتكليف: ضمن نفس المنطق، قارن بعض العرب القدماء بين اللغات (أبو حاتم الرازي، الزينة في الكلمات الإسلامية العربية)، وهو منطق محكوم، ضرورة، بالتحيز والميز والمفاضلة. إذ بالنظر إلى المقدمات التصورية التي بسطناها أعلاه، يكون من البدهي أن نتوقع حوز الفصحى حظوة كبيرة ومكانة مرموقة. ولعله من الواضح أن يكون لاختيار الله للغة العربية لتكون لغة رسالته خاصيات جعلتها قادرة على أداء الدور الذي أنيط بها. وتقوم هذه النظرة على أن الله تعالى قد وهب البشر ملكة اللغة، وأن اللغات تختلف باختلاف الأقوام والأجناس، وأنه تعالى قد خص أفضل الأمم وآخر نبي بأفصح اللغات وأجود لسان مبرزا بذلك مكانة اللغة العربية، ومن ثمة واجب العناية بها (نفسه، 72). وقد ساق أبا حاتم منطق ُحديثه إلى التطرق لموضوع المفاضلة بين اللغات مركزا على فضائل اللغة العربية بالقياس إلى غيرها من اللغات. فهو يسلم بتفضيل لغة العرب على غيرها من اللغات. وهكذا، فهو يبني خطابه على أساس فرضية تتمثل في كمال العربية ونقصان اللغات. وإذا كان الرازي ينطلق من القول بتعدد اللغات، وحكمة الله في تعددها وتعليمها لخلقه مهما كانت مراتبهم. إلا أن هذه اللغات لا تتساوى، ومن ثمة فهي تتوزع على مراتب من الأعلى إلى الأدنى من حيث سلم الأفضلية، فيذكر أن أفضل ألسنة الأمم كلها أربعة هي العربية والعبرانية والسريانية والفارسية، ويرجع هذه الأفضلية إلى كونه تعالى قد أنزل كتبه على أنبيائه بهاته اللغات رادا مزاعم من أضاف اليونانية والهندية. (نفسه. ص 73) ثم ينتقل إلى المفاضلة بين هذه اللغات الأربع، لينتهي إلى أن العربية هي أفضل اللغات وأسماها كلها مقدما ما يناسب من حجج ليخلص إلى اعتبار العربية ممتنعة لأنها لا تعرف نقصانا. فهي اللغة التي نزلت بها آخر رسالة دينية، وتتسم بالفصاحة والكمال والعذوبة والبيان (فهي تامة الحروف، وغنية المعجم، ومعبرة بيسر عن جديد الحضارات)، كما أن الناس، من أقوام مختلفة، يقبلون على تعلمها والتحدث بها. ولأنها لغة كل الديانات ولغة كل الشعوب المنخرطة في الحضارة الجديدة، فقد نقلت إليها الكتب المنزلة وحكمة العجم وفكرهم، فيما صعب نقل المكتوب بالعربية إلى اللغات الأخرى لأنها ناقصة أمام كمال العربية (نفسه. ص 73). ولا ينسى الكاتب أن يثبت أن لغة العرب معيار ومقياس ونموذج تقاس به اللغات الأخرى ودرجاتها. وهي بهذه السمة تحقق رفعتها. ويعود الفضل إلى أهلها في كونها مثمرة ونافعة. وقد أفضت هذه "الحقائق" بأبي حاتم الرازي إلى أن الريادة للعربية بحيث لا تلحق بها اللغات الأخريات التي تبقى منقادة لها. لكل ذلك، أقبلت عليها الأمم، وأحبها الناس لفضلها وفضل الإسلام والنبي، فدين الإسلام عربي، والقرآن عربي، وبيان الشرائع والأحكام والفرائض والسنن بالعربية (ص، -7574). ومع أن المفاضلة المعروضة خارجية في جوهرها، فإنها تقيم اللغات بناء على دورها الديني ومكانتها المقدسة. بينما ذهب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام، ص 34 ) إلى عكس ذلك موضحا أن القرآن الكريم لم ينزل بلغة العرب إلا ليفهم العرب هذه الرسالة، ذلك أن الله قد أرسل كل رسول بلسان قومه موضحا أن الثقافات السابقة قد ذهبت نفس المذهب حينما ادعى اليونانيون أن لغتهم أفضل اللغات وأن سائر اللغات نباح كلاب ونقيق ضفادع. وإذا كانت المفاضلة تقوم على المقارنة، وكانت المقارنة تستوجب أولا وصف اللغات موضوع المقارنة والتمثيل الدقيق لأوجه النقص، فإن ذلك لم يتحقق على النحو الموضوعي المرضي عند أبي حاتم الرازي (المفردات وسعة التعبير عن الأشياء، النظام الصوتي…) لأن هذه المؤاخذات مردودة ومجانبة للصواب ذلك أن لكل لغة قيمة وظيفية تؤديها على الوجه المناسب لمتكلميها ووفقا لحاجاتهم وأغراضهم وحياتهم الاجتماعية ومستوى تقدمهم الثقافي والحضاري، فضلا عن أن لكل لغة أنظمتها الخاصة وقواعد موسومة تسير بحسبها سائر أنظمتها الفرعية. فحروف الهجاء، مثلا، واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح. ويتبين، مما سبق، أن المفاضلة المطروحة ذات مضمون ديني وسياسي وثقافي، وتعكس من بين ما تعكسه صراعا بين اللغات وانقسامها إلى لغات غالبة ولغات مغلوبة. وهكذا، فإن الفضل المتحدث عنه فضل غير نسقي وغير نظامي لأن الفضل، على هذا المستوى، لا عمل للغة فيه، فتكون اللغات متساوية ومتكافئة. وقد أنهى ابن حزم كلامه بالسخرية ممن يقول بلغة أهل الجنة (نفسه، ص 33، 34 ). غير أن استحضار الخلفية الدينية والطابع الاستثنائي للغة العربية وقدرتها التعبيرية وامتلاكها لطاقة فوق بشرية، ووسمها، في نقلها للقرآن الكريم، باللغة المعجزة- غير أن كل ذلك يشعرنا بسمات لغوية "فوق بشرية" هي المثل والنماذج المطلقة التي تتجاوز القدرة البشرية عموما، وتصل أو تقارب الاستهداف السامي والرفيع. وإذا كانت لغة القرآن قد عرضت أسمى نموذج تقترب منه نماذج البلغاء والشعراء، فإنها اللغة التي تضمنت الخاصيات المثالية الرفيعة التي يتفاوت الناس في القرب منها. إنها لغة الله في ممارسة الإنسان لها، وهي ممارسة لغوية تتفاوت بحسب الملكات والقدرات. وإذا سلمنا بذلك، سلمنا بأحقية المفاضلة. 1. الفصاحة والمعْيرَة: النحونة العربية: يشكل الانتقال من تعدد اللهجات في الجزيرة العربية إلى العربية المشتركة الفصحى نقطة تحول كبرى في المسار التاريخي والحضاري للعرب. وهو علامة بارزة على أن هناك مقومات للتوحيد اللغوي استطاع الدين الإسلامي أن يبلورها وأن يستوعبها جميعا وأن يصوغها على قاعدة مقومات أساسية احتل فيها مفهوم الفصاحة الأداة الحاسمة باعتباره الممهد لانطلاق سيرورة التقعيد. وبهذا المعنى، كان مفهوم الفصاحة مفهوما لغويا أكثر مما هو بلاغي. فقد سمح للعرب أن يُقْدِموا على عملية تقعيد اللغة انطلاقا من مقدمات مذهبية. لقد تتبعنا التحولات العظمى التي كانت الجزيرة العربية تعرفها على مستوى الممارسة اللغوية، بحيث لم تعد اللهجات بخصوصياتها المختلفة والمتباينة على أكثر من مستوى، بقادرة على نقل الرأسمال الرمزي الموحد. بل أصبح التنوع اللغوي العفوي وغير المنظم عائقا أمام الطموحات اللغوية للأمة. وفي المقابل، كان لبروز العربية المشتركة، وتطويعها من خلال المراس القرآني والشعري، وتعزيز قدرتها التعبيرية، وتماهيها مع منظومة القيم الجديدة، الأثرُ البالغ في تشكيل الوعي اللغوي الذي يُعْلي من المشترك والموحد ويصوغ الهوية. ومن ثمة، ظهر نزوع جماعي يرمي إلى تمكين القرآن الكريم من الأدوات اللغوية التي تصونه من كل تحريف أو تشويه. وهكذا، فُكِّر في استتباب الأمن اللغوي الداخلي (وضع حد للتنوع اللغوي) والخارجي (وضع حد للتأثيرات اللغوية الخارجية)، وهو ما دفع بأولي الأمر السياسي والديني واللغوي إلى البحث عن أدوات الانتقال من مرحلة المشافهة إلى مرحلة الكتابة والتدوين. وقد استدعت كل هذه الشروط انتقاء تنوع لغوي من التنوعات المنتشرة في الجزيرة العربية، وبناء منظومة فكرية مذهبية تحمي هذا الاختيار، والبحث عن هيئة متخصصة تُعْنَى بالتقعيد، أي وضع قواعد للغة ووضع نظام للكتابة يكونان قادرين على تمكينها وتأهيلها لتقوم بوظائفها الجديدة. يقدم السيوطي(المزهر، ص 209 – 212) الفصاحة باعتبارها معيارا لتوحيد اللغة وتنظيم ممارستها وفق محددات ثقافية واجتماعية ودينية جديدة. غير أن مفهوم الفصاحة ليس مفهوما خطيا وأحادي البعد ومنمطا، وإنما هو مفهوم ذو أبعاد مختلفة. فالفصاحة، إذن، متعددة المستويات. وتستمد الفصاحة قوتها وعنفوانها، أولا، من كون الرسول أفصحَ الخلق، وثانيا، من كون قريش أفصحَ العرب. ويستتبع ذلك أن القبائل العربية متفاوتة في الفصاحة لأسباب. كما ورد أن اللغة الفصيحة تتميز عن اللهجات (وهي غير فصيحة) بخاصيات ارتفعت بها. وإذا كان ذلك كذلك، فإن واجب مأسسة الوضع الجديد يقتضي أخذ اللغة وجمعها وإنشاء صناعة للغة تتيح لها قواعد تحميها. ورد في ثنايا عدد من المصادر القديمة (السيوطي، الفراء، الفارابي، ابن فارس ) ما يفيد بأن الفصاحة تعني الخلوص من الشوائب، وتعني الإعراب والإبانة والصفاء. مثلما أوحت بعض التعابير بأنها تعني الحسن والجودة والرقة وحسن المسموع والسهولة في النطق (السيوطي، ابن النديم، ابن منظور، ابن سنان الخفاجي). وعلى قاعدة هذه التعريفات يمكن أن نستشف أن اللغة الفصيحة هي تلك التي تخلصت من الشوائب اللهجية وارتفعت عنها (ارتقت بها)، فكانت مفرداتها وتعابيرها وتراكيبها نقية وخالصة ورقيقة وحسنة في السمع، ومبينة، بنوع من اليسر والدقة، عن المقاصد، ومعربة وجيدة وبليغة ورفيعة. وإذا كانت العربية بهذه السمات، وكان الله قد اختارها لتكون لغة القرآن، وكان ما ورد بالقرآن أفصحَ كلام العرب، فإنها، نتيجة لذلك، مرشحة لأن تكون النموذج اللغوي المعيار، به تقاس فصاحة الناس والقبائل العربية، ومستويات فصاحة "لغات" العرب التي تأكد أنها تتفاوت في الفصاحة بين الأفصح والفصيح والأقل فصاحة وغير الفصيح. ووفقا لهذه النصوص، فكلام العرب يتفاوت على هذا المستوى، وكلما تفاوت وحاد عن هذا السبيل انتقصت فصاحته. وتتألف الفصاحة من معايير لسانية: كثرة الاستعمال واستبعاد الغرابة والابتذال، والخلوص من تنافر الحروف، وتجنب مخالفة القياس والوقوع في الضرائر، والتخلص من الشوائب اللهجية وتأثير لغات الأمم المجاورة (السيوطي، نفسه). كما تتألف الفصاحة من معايير خارج لسانية: الوضع المتميز لبعض القبائل: فقد كانت للبعض حظوة تزيد أو تنقص (مكانة قريش مثلا، ومكانة قبيلة سعد بن بكر…)، فضلا عن الوضع المتميز للأعراب والبداة بالنظر إلى عدم مخالطتهم للأقوام الأخرى، وحضور معايير انطباعية خصت وصف الفصحى وجمالها إذ صيغت بتعابير غير دقيقة فضلا عن كونها أحكامَ قيمة، ومن ثمة فعلميتها غير واردة. أضف إلى ذلك حضور معايير إديولوجية غير موضوعية لا يستعصي على الفهم بيانُ اصطناعها. وقد كانت معايير الفصاحة بحاجة إلى إجراءات تقنية أخرى من شأنها الضبطُ والتدقيق، ومنها أن اللغة لا تعتبر صحيحة ما لم يُشترَط في أخذها ونقلها السندُ الصحيح، واعتماد السماع، فضلا عن أن العرب قد حددوا الخريطة الجغرافية للقبائل التي تؤخذ منها اللغة (القبائل الست)، وحددوا الزمان (من الجاهلية إلى منتصف القرن الثاني الهجري: فترة الاحتجاج)، مثلما حددوا المتن (الرصيد اللغوي الأساس)، وهو متن مستمد من القرآن والشعر والنثر ولغات القبائل المرخص لها ( الفارابي، الفراء، السيوطي، ابن خلدون) والمقصود بالمَعْيَرة، عندنا، هو انتقاء لغة معيار أو نموذجية لتُسنَد إليها وظائف سامية، ويعني التقعيد تقييدَ الكلام العربي بقواعد وقوانين محددة. ولأن القيم التي أتى بها الإسلام لم تعد تقبل التفتت والانقسام والخصوصيات على حساب المشترك، ولأن القرآن قد"نصَّب" العربيةَ المشتركة لغة لكل العرب، ولأن الجزيرة العربية كانت تعرف لغات قبلية مختلفة ومتميزة بخاصيات متفاوتة من قبيلة أو مجموعة قبائل إلى أخرى. وإن كانت قد توزعت إلى مجموعتين كبيرتين: لغات جنوبية ولغات شمالية، ولأن الاختلاف اللهجي لم يعد مسموحا به، فقد انتقل إلى الفصحى وأصبح يغير من ملامحها، ولأن تصورا ما عن الخاصيات اللهجية قد استقر (فهي غير مستحسنة ومذمومة)، فقد دعت الضرورة إلى إرساء اللغة المعيار الناشئة مؤسساتيا، فكان أن ساعدت ظروف دينية واقتصادية وسياسية على ظهور لغة موحدة تَبْسِط، على مستوى الممارسة، مفهوم الفصاحة وتستجيب له، إذ اللغة المعيار تقوم على مبدإ الاختيار (اختيار الأصوات والمفردات والصيغ والتراكيب والتعابير)، ومبدإ القابلية للصناعة النحوية (تشذيب وتهذيب وتشطيب)، على أن يسعى ذلك إلى استيعاب سائر اللهجات سيرا على نهج القرآن الكريم في التعامل معها. هكذا، ظهرت صناعة العربية (جمعا للغة، ووضعا للنحو، واختيارا لنصوص نموذجية (نموذجها الأعلى هو القرآن الكريم)، وضبطا للكتابة، وتعليما..) التي أُسنِدت إليها وظيفة أعلى من الوظائف الدنيا المسندة إلى اللهجات. ومن المعروف أن سيرورة إخضاع اللغة لقواعد وقوانين نحوية واستعمالية تسمى في الأدبيات اللسانية بالنَّحْوَنَة. وإذا عدنا إلى تلك النصوص للتمعن في نسيج الحجج المرتبطة بالفصاحة، استوقفتنا طريقة بناء الحجج. فقد بدأ السيوطي بعرض حجج ذات نفوذ على العقل، حجج مستمدة من رمزنا الديني (الرسول ص) باعتباره قدوة على مستوى الفصاحة. ولأن الرسالة المراد تبليغها رسالة إلهية ومن طبيعة غير بشرية، فقد كان من اللازم أن تُختار لها لغة تتسم بالإعراب والإبانة والفصاحة. وتأتي بعد هذه الحجة سلسلة حجج، وهي حجج دينية وسلطوية واجتماعية وسياسية وتتمثل في أن العلماء بكلام العرب والرواة للأشعار، والعلماء باللغات والأيام والمحال قد أجمعوا على أن قريشا أفصح العرب: وهو إجماع مختصين في كلام العرب والعارفين به، وإجماع صناع اللغة والمُلِمِّين بدقائق أمور الشعر، وإجماع متخصصين في اللهجات العربية وعارفين بها وقادرين على تمييز الأفضل منها. وبسبب مكانة قريش وميزتهم تلك، اختارهم الله واختار منهم محمدا (ص). بينما تتمثل الحظوة المجتمعية والمكانة الدينية في كون قريش قدوة وأصحاب حظوة وذوي تقاليد روحية وتدبيرية لبيت الله، وكون موطنهم محط الحجيج من كل القبائل، وكونهم يقومون بدور الحكماء الذين يفضون النزاعات بين القبائل. أما التميز اللغوي فقد تجلى في كون قريش، وبفضل تلك الأدوار والعوامل المحيطة، قد تأتى لها ما لم يتأتَّ لغيرها من تجميع لمقومات الفصاحة وحسن اللغات ورقة الألسنة. ولعل ذلك يدل على أن قريشا قد كانت تمتلك ملكة ودربة لغوية مكنتها من القدرة على الانتقاء، إذ كانت تقوم بدور مصفاة لغوية. لقد استوجب موضوع المعيرة، أي اختيار لغة لتكون مشتركة ونموذجا متميزا عن باقي أدوات الاتصال اللفظي الأخرى، واستوجب التقعيد، أي إخضاع اللغة لقواعد نحوية تم الاتفاق عليها، – لقد استوجب كل ذلك أولا، إرساء منظور سيرورة سوسيو لسانية: وقد خص الأمرُ تغيير وضع "اللغات" المتعايشة بإسناد وظائف مختلفة إليها، فاختيرت "لغة قريش" لتكون أساسا للغة الموحدة للاعتبارات المذكورة أعلاه. وقد ساعد على ذلك تكوين وعي لغوي جديد مناسب للمنظومة الفكرية الجديدة، وتأسيس إديولوجية لغوية، وتكوين مؤسسة رسمية تُعنى بأمر مواصلة المعيرة والتقعيد (النحاة وعلماء اللغة….). وقد اعتُمِد، للوصول إلى تثبيت معايير لسانية مشتركة، على نزع طابع القبلية عن بعض لغات العرب أو بعض خاصياتهم اللغوية، وإضفاء طابع الهوية اللغوية المشتركة على بعض خصوصيات "اللهجات القبلية". وبذلك صارت مكة تتكلم بلغة العرب لا بلغتها. وإذن، بناء الهوية العروبية على مستوى "اللغة" بما يفيد أن تتكلم القبائل العربية بلغة العرب لا بلهجاتها. واستوجب ذلك، ثانيا، إرساء منظور سيرورة لسانية. وقد تحقق ذلك من خلال تشكيل قاعدة اللغة المشتركة من عمل توليفي ضم سمات صوتية وصواتية، وصرفية ومعجمية وتركيبية مأخوذة من تنوعات جغرافية واجتماعية متنوعة، وذلك بانسجام تام مع القرآن الكريم الذي نزل بلغة جامعة مستوعبا بذلك لغات العرب (نزول القرآن بسبع لغات). وهذا هو القانون الذي كان وراء اعتبار النص القرآني نصا معياريا موجِّها ووراء اختيار النصوص النموذجية (القرآن الكريم، الحديث النبوي الشريف، الشعر الجاهلي، النثر الفني،…..). وقد أتاح هذا المنظور انطلاق عمليات إصلاح العربية وتعميمها في صيغتها الجديدة: جمع اللغة، ووضع النحو، وتصحيح النطق وتجويده، وتعليم العربية الفصحى للعرب ولغيرهم، وضبط الرسم القرآني (كتابة المصاحف وإملاء القرآن على الكتاب) والكتابة النظامية. هكذا، إذن، بدأت صناعة اللغة وبدأ بسط النحاة واللغويين لنفوذ السلطة اللغوية التي أصبحوا يتمتعون بها. تعتبر اللغة العربية الفصحى تلك اللغة الخالية من الخاصيات اللهجية والمبتعدة عن الاستعمال العامي الدارج والمستوعبة للفصيح من كل اللهجات العربية، إنها «الكلام المُعْرب» أو هي «اتباع الأساليب العربية» (ابن منظور، لسان العرب)؛ والخالية من الخطإ واللحن والعجمة. وبعبارة أخرى، تعد العربية الفصحى الرصيد المشترك بين اللهجات العربية الذي أفرزته الممارسة اللغوية وكرسه القرآن الكريم ورسَّمه النحاة. وبذلك تعتبر العربية الفصحى انتقالا من الدوارج إلى وضعها الجديد بسن قواعد تفصيح (التفاصح أو التفصح) يُنتظر منها أن تبتعد بها عن الدوارج نذكر منها: تحديد النظام الصوتي (أصواتا وتأليف أصوات)؛ وتحديد البنية المقطعية ؛ وتحديد البناء الصرفي؛ وإرساء الإعراب والبناء التركيبي؛ وتحديد المعجم والدلالة…. تعرض النصوص، التي نحيل عليها، إذن، لمفهوم الفصاحة عند العرب، ولعلاقة الفصاحة بمعيرة اللغة وتقعيدها. وقد بدا أن التراث العربي قد نظر إلى الفصاحة باعتبارها مفهوما لغويا (لسانيا) يحيل على المستوى الجيد والرفيع للغة، أي ذلك المستوى الذي يرتفع عن الخطإ واللحن واللكنة. وقد تفاوتت هذه السمة الجديدة بين القبائل وبين المستعملات اللغوية من التعابير والكلمات والتراكيب، ووُزِّعت بلاتكافؤ بينها. ففي حين مُيِّزَت قبائل وارتفعت نسبة الفصاحة عندها، تضاءلت هذه السمة لدى قبائل أخرى بالنظر إلى المعايير الجغرافية التي وضعها العلماء العرب. وقد اتضح أن الفصاحة، بشروطها ومعاييرها، قد شكلت الأسس النظرية لانطلاق نحو يُستنبَط أساسا من المتون الفصيحة، إذ يعودون إلى الكلمات والتراكيب والتعابير والأصوات العربية غير المذمومة للانتقال بها إلى «الكلام المعرب»، أي اعتبارها حجة في استقراء قواعد اللغة. غير أن الفصحى، في حقيقة أمرها، فصحيات والعربية عربيات. فكان أن وُضِع مخطط سوسيولساني ومخطط لساني خالص ينقل العربية المشتركة إلى مصاف اللغة المعيارية التي يتطلب إعطاؤها هذا الوضع القيامَ بصياغة أسس التقعيد والسياسة اللغوية التي كانت وراء وضع النحو، وجمع اللغة. ومن الأكيد أن يسم هذا التصور للفصاحة النحوَ العربي وكل المنتج اللغوي القديم. خاتمة: قدمنا، في هذه الدراسة، نسيجين اثنين وإن كانا يتداخلان ويتدافعان: نسيج تعقب مراحل تكون "عربيات" الجزيرة العربية، ونسيج تصور العرب عن لغتهم إيمانا منا بأن هذا التصور قد كان وراء سياسات نشر العربيات وتأهيلها دراسة وتعليما وتعلما. وقد حاولنا، من خلال هذا العمل، أن نقف خارج الثنائية الضدية المبسطة المتجلية في فساد اللغة، من جهة، وقدسيتها، من جهة أخرى، واللغة المقدسة واللغة الأرضية إيمانا منا بأن الشأن اللغوي شأن معقد. ولعل في هذه المقاربة ما قد يلقي أضواء كاشفة على دينامية الصلات بين التعبيرات اللغوية العربية، وبذلك نحقق اقتصادا في الكلام يجنبنا عددا من المفاهيم الملتبسة من قبيل الازدواجية اللغوية والحرب اللغوية والتقاطبات اللغوية. ويبقى على الدراسة النسقية لكل مستوى من مستويات الدرس اللساني (الصواتي والصرفي والتركيبي والدلالي) أن تؤكد أو تدحض مثل هذا التصور. وكان قد سبق لنا، في سنة 1982، أن برهنا، باعتماد التوليدية المعيار، على أن العربية مجموعة من الأنساق الفرعية المرتبطة ارتباطا وثيقا بتنوع المواقف التواصلية والتعبيرية، وأن صواتة العربية المكتوبة وصواتة العربية المنطوقة صواتتان لمستويين فرعيين يمثلان معا صواتة العربية. أي أن صواتة العربية تتشكل من نسقين فرعيين صواتيين، وأن القواعد الصواتية لكل نسق ليست سوى تنوعات بالنظر إلى بعضها البعض، وأن التباين بين الدارج والفصيح يتحقق بوساطة عمليات صواتية تتجلى على نحو مختلف، قواعد تحضر في هذا المستوى وتغيب في مستوى آخر، أو قواعد صواتية مشروطة بسياقات معينة. (انظر حنون، 1982)، ومن شأن هذه الفرضية أن تجعلنا نتصور إقامة صواتة اختلافية للعربية. فهل تؤكد النظرية (ات) الصواتية في مقارباتها الحديثة تصورنا للعربية؟ المراجع والمصادر:
ابن سنان الخفاجي، أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد. (1982). سر الفصاحة. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. ط 1. ابن جني، أبو الفتح عثمان، (ب ت) الخصائص، تحقيق. محمد علي النجار، المكتبة العلمية. ابن حزم الأندلسي، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد. (1983) . الإحكام في أصول الأحكام. تحقيق أحمد محمد شاكر. ج. 1. منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت. ابن خلدون، ولي الدين عبد الرحمن بن محمد، (2004) مقدمة ابن خلدون. تحقيق عبد الله محمد الدرويش. دار يعرب. دمشق. ط 1. ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (1997). في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها. تحقيق أحمد حسن بسج. دار الكتب العلمية. بيروت. ط. 1 الأفغاني، سعيد ( ب ت)، من تاريخ النحو، دار الفكر، بيروت. لبنان. ابن النديم، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحاق ( ب. ت) كتاب الفهرست. تحقيق رضا تجدد. طبعة طهران. أنيس، إبراهيم. (1952) اللهجات العربية. لجنة البيان العربي. القاهرة. بنعبد الله، عبد العزيز ( 1972) . نحو تفصيح العامية في الوطن العربي. المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي. الرباط. بنعبد الله، عبد العزيز ( ب ت) تطور الفكر واللغة في المغرب الحديث. القاهرة. الدوري، عبد العزيز ( 1969) مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي. دار الطليعة. بيروت. لبنان. الرازي، أبو حاتم أحمد بن حمدان، ( 1994) الزينة في الكلمات الإسلامية العربية. تحقيق حسين ابن فيض الله الهمداني اليعبري الحرازي. مركز الدراسات والبحوث اليمني. صنعاء. الطبعة الأولى. السامرائي، إبراهيم ( 1971). نصوص ودراسات عربية وإفريقية في اللغة والتاريخ العربي. بغداد. العراق. السيوطي، عبدالرحمنن جلال الدين () المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقيق محمد أحمد جاد المولى بك، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي. دار التراث. القاهرة. الجزء 1. الطبعة الثالثة. الصايغ، الحسن، (1968) دفاعا عن الثقافة المغربية. دار الكتاب. الدار البيضاء. المغرب. الفارابي، أبو نصر. (1990). كتاب الحروف. حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي. داب المشرق. بيروت. لبنان. ط 2. كولوغلي، جمال الدين، (2007). مقابلة . المدرسة العليا للأساتذة بليون. فرنسا.
Attia, A. (1966) « Différents registres de l'emploi de l'arabe en Tunisie ». Revue tunisienne de sciences sociales. 2ème année, Déc. 1966, n° 8. Ayache, A. (1956) Le Maroc, Ed. Sociales, Paris Balibar, E et Macherey, P. (1974) «Les français fictifs» in Revue Littéraire, n° 13, Balibar, R et Laporte, D.( 1974) « Le français national », Hachette, Paris. Benaballah , A.(1964) Lexique des origines étymologiques arabes et étrangères du parler maghrébin. Centre national d'arabisation. Coll. Dictionnaires et lexiques. 8. Maroc. Berque, J. ( 1962a) « Les arabes et l'expression » in Studia Islamica, Vol. 16, Berque, J. (1962b) «Le Maghreb entre les deux guerres», Ed. du Seuil, Paris, Blau, J. ( 1969) « L'apparition du type linguistique néo-arabe » in Revue des études islamiques. Année 1969/2. Paris. Bourdieu , P) et Botlanski (1975) « Le fétichisme de la langue » in « actes de la recherche », N° 4, Juillet Bourdieu, P .( 1977) L'économie des échanges linguistiques in langue française n°34, , Larousse. Bourdieu, P. ( 1972) Esquisse d'une théorie de la pratique. Librairie Droz, Genève, Paris Brunot , L (1921) Yallah! ou l'arabe sans mystère, Emile Larose Librairie – éditeur, Paris. Brunot , L (1949) Emprunts dialectaux arabes à la langue française. in Hesperis, Tome 36, année. Brunot , L (1950) Introduction à l'arabe marocain, Librairie orientale et américaine, G.P. Maisonneuve et Cie, Paris Brunot , L (1952) Textes arabes de Rabat, Tome II, Glossaire. Librairie Orientaliste, Paul Geuthner, Paris Calvet, J-L (1974) Linguistique et colonialisme, Payot, Paris, Cantineau, J. (1945) Les parlers arabes du Horan, Klinksiek, Paris. Carter, M.G (1972) Les origines de la grammaire arabe, in Revue de Etude Islamiques. XL/1, Paris Cohen, D.(1970) « Etudes linguistiques sémitique et arabe », Mouton. The Hague, Paris Cohen, D. (1962). Koinè, langues communes et dialectes arabes. Arabica, 9(1), 119-144. Colin , G.S., (1932) « Le milieu indigène au Maroc » in Initiation au Maroc. Ecole du Livre, Rabat. Dozy , R, (1961). Supplément aux dictionnaires arabes. V. Leinden, Brill. Encrevé, P. (1977 ) Présentation, in Langue Française, n° 34. Larousse. Eliade, Mircea.(1965 ) Le sacré et le profane. Paris, Gallimard. Etienne,J. (1982). Le profane et le sacré. Pour une clarification Conceptuelle. Revue Theologique de Louvain.13e année. Fasc. 1, Fleisch, H, (1949-1950), Etude de phonétique arabe, in Mélanges de l'Université Saint Joseph. T. 28, Beyrouth. Fleisch, H, (1961). Traité de philologie arabe. Imprimerie catholique. Bayrouth, Fleisch, H, (1974). Etude de l'arabe dialectal, Dar El Machreq, Beyrouth, Franck, Elegoët. (1973). "Bilinguisme ou domination linguistique" in Temps modernes. 29ème année. N° 324-325-326. Août-septembre. Fück , J. (1955) « Arabiya ». Didier, Paris. Gaudefroy-Demombynes, M.et Mercier, L. (S.D ). Manuel d'arabe marocain avec introduction historique et géographique, Librairie orientale et américaine. E. Guilmoto-Editeur. Paris. Gister, D. B. (1976) « Langue créole force jugulée » l'Harmattan. Paris Gobard, H. (1976). L'aliénation linguistique, Flammarion, Paris Gramsci, A. (1975 ). Gramsci dans le texte.Ed. Sociales. Paris. Hanoun, Mbarek (1982). Arabe parlé et arabe écrit au Maroc. Etude phonologique contrastive. Thèse de 3eme Cycle. Sorbonne Nouvelle. Paris 3. Sous la direction de David Cohen. Labov , W. (1976). Sociolinguistique, Ed. de Minuit, Paris Lacheraf, M. (1968). L'Algérie : Nation et Société, F. Maspero, Paris. Lacoste, Y, (1966). Ibn Khaldoun , F. Maspero, Paris, Landberq , De. (1905). La langue arabe et ses dialectes, Communication au XIVème Congrès des orientalistes. Leide. Brill, Larcher, P. (2003). Diglossie arabisante et fushâ vs' âmmiyya arabes: essai d'histoire parallèle. Larcher, P. (2005). Arabe préislamique, arabe coranique, arabe classique: un continuum?. Die dunklen Anfänge. Neue Forschungen zur Enstehung und frühen Geschichte des Islam, Berlin, Verlag Hans Schiler, 248-265. Larcher, P. (2008). Al-lugha al-fuṣḥâ: archéologie d'un concept «idéolinguistique». Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, (124), 263-278. Larcher, P. (2008). Qu'est-ce que l'arabe du Coran? Réflexions d'un linguiste. Cahiers de linguistique de l'INALCO, 5, 2003-2005. Laroui, A. (1977). Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain. F. Maspero. Paris Mackey, W.F. (1976) « La langue, dialecte et diglossie littéraire » in Diglossie et Littérature. Ouvrage collectif. Bordeaux-Talence. Maison des sciences de l'homme Marçais, G, (1941). La berbérie au IXème siècle d'après al-ya'qūbī , in revue Africaine, Marçais, W. ( 1938, 1956). Comment l'Afrique du Nord a été arabisée in A.I.E.O., Tome IV, 1938 et Tome 14, 1956. Marçais, W. (1931). « La langue arabe dans l'Afrique du Nord in L'enseignement Public » Tome 105, Janvier-Juin. Marcellesi, J.B et Gardin, B. (1974). Introduction à la sociolinguistique; Larousse, Paris, Meillet, M. (1970). Méthode comparative en linguistique, Librairie Honoré-champion éditeurs. Ed. 1970 Paris Monteil, V. (1960). L'arabe moderne. Klincksieck. Paris Pellat, Ch, (1970 ). Langue et littérature arabes. 2ème édition, revue A. Colin. Paris. Rey, R. (1972 ). « Usage, jugements et prescriptions linguistiques » in Langue française, n°16, Décembre Rodinson, M. (1968 ). Mahomet, Ed. du Seuil, Paris Rodinson, M. (1972 ). « Mahomet et les origines de l'Islam » in les Cahiers rationalistes n° 164. Déc. Sapir, E. (1969 ). La linguistique, Ed. de Minuit, Paris Sayah, M., Nagem, R., & Zaghouani-Dhaouadi, H. (2009). La langue arabe, histoire et controverses. Synergie Espagne, (2), 63-78. Terrasse, H. (1949 ). « Histoire du Maroc des origines à l'établissement du protectorat français. » Editions atlantides. Casablanca. Watt, M. (1977). Mahomet à la Mecque. Payot. Paris.
[1] . هذا البحث في الأصل فصل من فصول أطروحة دكتوراة السلك الثالث التي أعددتها سنة 1982 تحت إشراف دافيد كوهن بجامعة باريس 3 السوربون الجديدة. وقد عملت على تنقيحه وتطويره بإضافة إطار التصور المعتقدي للغة عند العرب، فالتمثلات السيميائية للغة لدى الناطقين بها جزء صميمي أيضا من تاريخها. [2] . نحن بصدد إعداد كتاب عن خطاب معيرة اللغة العربية قد يرى النور في مطلع سنة 2021 نعرض فيه لمختلف الأساطير المؤسسة لما نسميه بالنحونة Gammaticalisation.