أشرت في مقال" لماذا أرى أن دعوة القيادة الصينية شعبها لتخزين المواد الغذائية، قد يكون لها صلة بقرار غزو جزيرة "تايوان"..؟" أن دعوة القيادة الصينية الشعب إلى تخزين المواد الغدائية، ليس له صلة مباشرة بالتخوف من انتشار وباء جديد و إنما رد سياسي على التهديدات الأمريكية و التحالفات الدولية التي تتشكل منذ قمة مجموعة السبع G7 في مدينة "كورنوَل" جنوب غربي إنجلترا، لذلك لا أستبعد إمكانية قيام الصين بغزو جزيرة "تايوان" و حسم المعركة مع الولاياتالمتحدة و حلفاءها، قد يبدو هذا التخمين بعيد لدى البعض ، لكن القيادة الصينية التي في الغالب تميل للحكمة و التأني، إلا أنها تملك ميزة غاية في الأهمية و هي قدرتها الفائقة على إقتناص الفرص، من المؤكد أن المواجهة بين الصين و أمريكا قادمة لا محالة ، و من المهم حسم قضية تايوان، فهذه القضية لها أهمية جيواستراتيجية بالغة الأهمية لمستقبل الصين، كما أن التنافس بين الصين و باقي القوى الدولية العظمى على الفضاء الرقمي و السيبراني، سيكون له بالغ الأثر في تغيير موازين القوى الدولية ، و الصين تسعى بكل ما لديها من عضلات إقتصادية و قدرات بشرية، للعب دور أساسي في تطوير وتوجيه هذه البنية الرقمية الجديدة لخدمة تطلعاتها الاقتصادية و السياسية و الثقافية، و لعل طريق الحرير الرقمي الذي تسعى الصين من خلاله إلى إعادة هيكلة نظام حوكمة الإنترنت العالمي، و الاستثمار الكثيف في بناء شبكات الجيل الخامس مع التركيز على دعم التكنولوجية المحلية و بعقول صينية، كلها خطوات عملية لتنفيذ التطلعات الصينية، و أعتقد أن الصين تتجه بثبات نحو فرض أجندتها على العالم قريبا، و ضم تايوان يسهل مهمة الصين في السيطرة على الفضاء الرقمي و السيبراني.. أعود و أؤكد أن العلاقات الصينيةالأمريكية أصبحت شبه محسومة، فقبل أيام صرح الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض أن الرئيس "بايدن" لازال متمسكا بضرورة معرفة منشأ فيروس كورونا، و يلمح البيان إلى الصين، و هذا يذكرنا بموقف الرئيس الأمريكي السابق الذي سمى فيروس كورونا بالفيروس الصيني، الاستراتيجية الأمريكية تستهدف فرملة الصعود الصيني ، لكن الأهم و الأخطر بنظر الاستراتيجية الأمريكية هو التحالف الإستراتجي بين الصين و روسيا.. فالصين لها مشروع واحد عابر للحدود و هو مشروع الحزام وطريق الحرير، و الصين تدرك جيدا أن التفوق التقني والاقتصادي هو الطريق القادم في المستقبل للسيطرة والهيمنة على العالم، و لعل هذا التوجه الصيني هو نتيجة للاستفادة من درس شريكها التقليدي "الاتحاد السوفيتي سابقا" و كيف أن الاتحاد السوفيتي بالرغم من أنه قوة عسكريا متفوقة، لكن ضعف الأداء الاقتصادي قاده إلى الانهيار و التفكك، و هو ما تخشاه القيادة الصينية و التي منذ إطلاق إصلاحات 1978 أصبحت شرعيتها مستمدة من فعالية النمو الاقتصادي و شرعية الإنجاز فكلما وسعت خيارات الشعب الصيني إقتصاديا و اجتماعيا إلا و إحتفظ الحزب الشيوعي بالسلطة.. فعند نهاية الحقبة الماوية، و تحديدا بعد الفوضى التي ولدتها سياسة الثورة الثقافية، تشكل لدى الصينيين انطباع بأن السماء قد رفعت يدها عن تأييد الحزب، لكن التعددية بداخل الحزب ووجود اتجاه معتدل في مقابل اتجاه يساري متطرف، سمح بحدوث انتقال سلس ، و أعطى للحزب شرعية جديدة بعد 1978 شرعية النمو و التنمية، وهو ما مهد الطريق لتأسيس عقد اجتماعي جديد ، مكن القيادة الصينية من التفرغ للبناء و التوسع، و يمكن أن نستخلص من مجموع المقالات السابقة الاستنتاجات التالية: أولا – الحزب شهد تحولا عميقا باتجاه تبني الأسلوب الجماعي في اتخاذ القرار، حيث انقرضت الزعامة الكاريزمية، وحل محلها توزيع الأدوار بين مجموعة من القادة، وهو مؤشر ايجابي باتجاه تعزيز الديمقراطية الداخلية. ثانيا – انفتاح الحزب على نخب جديدة بدلا من اقتصاره على طبقة العمال والفلاحين، وهو ما جعل الحزب يغير جذريا صورته التقليدية ويعدل حطابه الأيديولوجي. فتم نتيجة لذلك، تحديث الخطاب السياسي للحزب و الابتعاد عن الخطابات الديماغوجية، مع التركيز على خطاب برغماتي يراعي مصالح الصين الداخلية والخارجية. ثالثا – التسويق الجيد لإنجازات الحزب، فالأغلبية الساحقة من الصينيون يرون بأن الحزب شهد تحولات عميقة، باتجاه احترام حقوق الإنسان و تحسين معيشة الشعب الصيني. رابع – نجح الحزب في إخراج الشعب الصيني من حالة اليأس والتذمر، و إدخاله في دورة حميدة من التفاؤل والأمل في غد سيكون بكل تأكيد أفضل من الأمس. خامسا – تشبث الحزب بشرعية النمو الاقتصادي، فمعدل النمو المرتفع هو صندوق الاقتراع الداعم لاستمرارية الحزب في السلطة. لذلك، فان الحزب يعمل جاهدا على تنفيذ وتبني مختلف الإصلاحات، التي تمكن من تحرير النمو الاقتصادي وضمان ديمومته.. حتى يتمكن الحزب من الاستمرار في السلطة.. وإن كان ذلك على حساب تحول أدوار الدولة ووظائفها. لذلك، فإن الصين تحاول التركيز على القوة الاقتصادية والتكنولوجية و العسكرية،ويهمها أن تحصل على القيمة المضافة من خلال العمل بشكل كبير في القطاعات الأخرى، فالصين خلال 2020 سجلت 8000 شركة جديدة، وتنتج وتسجل نصف مليون براءة اختراع سنويا، وهي تؤمن بأن الدور العسكري هو دور روسيا، فالصين عندما تستضيف مصانع أبل وبوينغ، فمثلا مصنع أبل فيه 260 ألف عامل وهذا غير القيمة المضافة أيضا، بالتالي لديها أيضا صناعات عسكرية وتكنولوجية، وهناك توزيع أدوار، بالتالي هذا التنسيق بين الصينوروسيا تفتقده أمريكا.. و لعل إعلان كل من الولاياتالمتحدة الأميركية وأستراليا والمملكة المتحدة عن إقامة تحالف بينهم هو تحالف أوكوسAUKUS يوم 15 أيلول/ سبتمبر 2021. الغاية منه تشكيل تحالف موازي للتحالف الروسي الصيني ، بل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي يحرر بريطانيا أكثر و يمنحها لعب أدوار أكبر… و أمريكا تحتاج إلى حليف قوي، ولا شك أن بريطانيا هي أقوى حليف للولايات المتحدة، خاصة أن بريطانيا تلعب دورا مهما في كل العالم.. الولاياتالمتحدة منذ فترة و هي تحاول تركيز جهودها على بحر الصينالجنوبي و تضييق الخناق على أهم الممرات البحرية، إذ يشهد بحر الصينالجنوبي، وباقي المياه الأخرى المحيطة بالصين، تحركات عسكرية كثيفة يغلب عليها طابع التحدي للموقف الصيني، فقد عملت واشنطن على نشر سفنها الحربية في المياه الاستراتيجية أو الحيوية للصين ، و الغاية من ذلك إحتواء بكين و الحد من نفوذها في بحر الصينالجنوبي، وبحر الصين الشرقي، ومضيق تايوان… فعلى سبيل المثال قامت الولاياتالمتحدة في 19 أغسطس 2020 بإرسال مدمرتها الصاروخية، "يو إس إسموستين"، للمساهمة في تنفيذ مهمة "حرية الملاحة" في مضيق تايوان من أجل إيصال رسالة قوية ضد الإجراءات الصينية الأخيرة في المنطقة، وتعد المدمرة "يو إس إسموستين" هي سابع سفينة أميركية تبحر هذا العام عبر مضيق تايوان.و في 4 يوليو 2020 وأثناء الاحتفال بعيد الاستقلال الأميركي، أجرت حاملتا طائرات أميركيتان "يو إس إسنيميتز"، و"يو إس إس رونالد ريغان"، مناورات عسكرية في بحر الصينالجنوبي كجزءٍ من التزامها "بالدفاع عن حق جميع الدول في الطيران، والإبحار والعمل بما يسمح القانون الدولي". وتعتبر الصين جميع الأنشطة العسكرية الأميركية الأخيرة في بحر الصينالجنوبي بمثابة استفزازات لها. وتعليقًا على هذا التصعيد العسكري المتزايد، قال "يانغ جيتشي"، مدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، في 7 أغسطس 2020، أن "الاقتتال بين الصينوالولاياتالمتحدة سيؤدي إلى كارثة كبيرة ليس فقط ضد بعضهما البعض، ولكن أيضًا لبقية الدول الأخرى، والعالم بأسره". لذلك، فمن الضروري لكلتا القوتين أن تهدئ من وتيرة الصراع الدائرة حاليًا من أجل الحفاظ على السلام العالمي. كما أن وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" أكد في مقابلة تلفزيونية، على أن الصين بحاجة إلى أن تظل "ملتزمة بالتنمية السلمية وتتبع استراتيجية الانفتاح ذات المنفعة المتبادلة. لذا، ستواصل الصين تعزيز السلام والتنمية العالميين ودعم النظام الدولي". ذلك أن سياسة الانفتاح و الإصلاح لم تركز فقط ، على الجانب الاقتصادي و الاجتماعي ، و إنما إمتدت إلى العلاقات الخارجية ، و التحول الجذري الذي حدث في أواخر عهد "ماوتسيتونغ" هو التطبيع مع الولاياتالمتحدة ، و أقامت معها علاقات دبلوماسية في العام 1979، و كانت سياسة الولاياتالمتحدة تجاه جمهورية الصين الشعبية تقوم عل فرضية أن الانفتاح الاقتصادي والسياسي في الصين سيقود إلى بناء مجتمع ديمقراطي و حر على غرار التصور الغربي، لكن، بعد أكثر من 40 عامًا، أصبح واضحًا أن هذا النهج لم يكن قد أخذ في الاعتبار تمامًا مدى رغبة الحزب الشيوعي الصيني في تقييد نطاق الإصلاح الاقتصادي والسياسي في الصين. و على مدى العقدين الماضيين، تباطأت الإصلاحات أو توقفت أو سارت في الاتجاه المعاكس فالتطور الاقتصادي السريع الذي حققته الصين وزيادة انخراطها مع العالم لم يحققا التقارب مع النظام الحر المفتوح الذي يتمحور حول المواطن كما كانت تأمل الولاياتالمتحدة. وبدلاً من ذلك، اختار الحزب الشيوعي الصيني استغلال النظام الحر المفتوح القائم على القواعد وحاول إعادة تشكيل النظام الدولي لصالحه و هو ما تأكد من خلال منهجية الصين في إدارة أزمة كورونا… و بحسب واشنطن فإن بكين تسعى إلى تغيير النظام الدولي ليتماشى مع مصالح وعقيدة الحزب الشيوعي الصيني. إن استخدام الحزب الشيوعي الصيني المتزايد للقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لإجبار الدول القومية على الإذعان يضر بالمصالح الأميركية الحيوية ويقوض سيادة وكرامة البلدان والأفراد حول العالم.. و للتصدي لتحدي بكين، تعتمد الإدارة الأميركية نهجًا تنافسيًا مع الصين، استنادًا إلى تقييم واضح لنوايا وأفعال الحزب الشيوعي الصيني، وإعادة تقييم للعديد من المزايا والعيوب الاستراتيجية للولايات المتحدة، والتسامح إزاء احتكاك أكبر بين الطرفين." إن نهجنا لا يقوم على فرضية تحديد حالة نهائية معينة للصين. بل إن هدفنا يتمثل في حماية المصالح الوطنية الحيوية للولايات المتحدة، كما هو موضح في الركائز الأربع لإستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية للعام 2017. فنحن نهدف إلى: (1) حماية الوطن والشعب الأميركي وطريقة الحياة الأميركية؛ و(2) تعزيز الرخاء الأميركي؛ و(3) الحفاظ على السلام من خلال القوة؛ و(4) تعزيز النفوذ الأميركي.." لذلك، أرى أنه من الخطأالتفاؤل و الرهان على الصراع بين الصين و أمريكا خاصة بالنسبة للعالم العربي و الإسلامي، لأن التغيير في النظام الدولي و الحد من هيمنة الولاياتالمتحدة مرتبطة بمدى قدرة الصين على المخاطرة و تحمل أعباء التغيير، و من يدرك عقلية القيادة الصينية و التحديات التي تواجهها- و قد بينا ذلك في أكثر من مقال و محاضرة و مداخلة تلفزيونية- سيدرك جيدا بأن الصين ستدعم استمرار النظام الدولي القائم و الترتيبات الأمنية المعمول بها منذ إنهيار المعسكر الشرقي، و أننا سوف نشهد تحالف بين الصين و أمريكا في عهد "جوبايدن" أو على الأقل تهدئة الأوضاع بينها و التوصل لنوع من الهدنة، وجلوس الطرفان على طاولة المفاوضات، فالحروب و الأزمات تنتهي باتفاقيات، كما الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسينتج عن ذلك نظام عالمي جديد تماما مختلف عن النظام الحالي….خاصة في القضايا الخلافية التي لها تأثير على استقرار النظام الدولي بشقيه السياسي و الاقتصادي-المالي ، و ليس ذلك بفعل قوة أمريكا، وإنما نتيجة لخوف و تردد القيادة الصينية، فأمريكا تراهن على أن الانهيار إذا ما وقع –و هو واقع لا محالة- سوف تتضرر منه جميع البلدان و على رأس المتضررين الصين.. لكن على خلاف مصالح الصين و أمريكا و غيرها من البلدان المتقدمة، فإن تغيير قواعد اللعبة الدولية، قد يخدم عملية التنمية في البلدان النامية و من ضمنها بلدان العالم العربي و الإسلامي، لأن عيوب التنمية التي تعانيها هذه البلدان – في الغالب- هو ميلها أكثر نحو الاستيراد من "الإبرة إلى الصاروخ"، و انخراطها "المفرط" في اتفاقيات التبادل الحر و الاتفاقيات المتعددة الأطراف التي تمت تحث إطار "الغات " أو "منظمة التجارة العالمية" ، و هو من ضمن العناصر السلبية التي أعاقت عملية التنمية، و جعلت بلداننا مرتبطة أكثر بالخارج و صادراتها في الغالب من المواد الطاقية أو المواد الخام، و هامش السلع ذات القيمة المضافة العالية جد منخفض.. كما أن تحول أولويات الولاياتالمتحدة باتجاه بحر الصينالجنوبي و المحيط الهادئ و شرق ووسط أسيا عموما ، يعني تراجع أهمية الشرق الأوسط و لعل في ذلك خير لشعوب المنطقة ، لكن في ظل إستمرار قيادات عاجزة فاقدة للشرعية و للرؤية مستقبلية فدار لقمان ستبقى على حالها، و سيظل الخاسر الأكبر الشعوب العربية… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون.. * إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة.