في بداية هذا العام، بدا أن هناك صوت مسموع لفرحة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية بسبب رؤية انكماش الفقاعة الجيوسياسية الصينية العملاقة للمرة الأولى منذ فترة طويلة. وراجت فكرة تفكك قيادة الحزب الشيوعي في الصين، نتيجة هوسها بالسرية، وأخطائها الأولية في الاستجابة لتفشي فيروس "كورونا" المستجد، والكارثة الاقتصادية التي تتكشف في جميع أنحاء البلاد. وعندما بدأت الصين في التعافي وانتقل الفيروس إلى الغرب في مارس وأبريل ، تحول الابتهاج غير العقلاني إلى يأس غير عقلاني. ولم يكن ذلك مرتبطا في البداية باحتمالية أن يساعد الوباء الصين على الخروج منتصرة في المسابقة الجيوسياسية الجارية مع الولاياتالمتحدة. كان هناك قلق ناتج عن إعادة تشكيل الصين لسردية أصل الفيروس، وفعالية النموذج الاستبدادي الصيني في احتوائه، وحملة بكين العالمية للمساعدات. ركزت التعليقات الصينية على التباين بين السخاء الصيني واللامبالاة الأمريكية، معتبرة أن الشعب انتصر في حربه ضد "كورونا"، وجرى الترويج لفضائل النموذج السياسي الصيني. ولكن بالرغم من جهود المحاربين الإيديولوجيين في بكينوواشنطن، فإن الحقيقة غير المريحة هي أن قوة الصينوالولاياتالمتحدة ستتقلص نتيجة هذه الأزمة بشكل كبير. وستكون النتيجة انجرافًا بطيئًا ولكن ثابتًا نحو الفوضى الدولية بما في ذلك الأمن الدولي والتجارة وإدارة الوباء. مع عدم وجود أحد يوجه حركة المرور، تتخذ أشكال مختلفة من القومية المتفشية مكان النظام والتعاون. وبالتالي، فإن الطبيعة الفوضوية للاستجابات الوطنية والعالمية للوباء تمثل تحذيرًا لما يمكن أن يأتي على نطاق أوسع. القوة والتصور كما هو الحال مع نقاط انعطاف تاريخية أخرى، ستشكل 3 عوامل مستقبل النظام العالمي: التغيرات في القوة العسكرية والاقتصادية النسبية للقوى العظمى، وكيف يتم النظر إلى هذه التغييرات في جميع أنحاء العالم، والاستراتيجيات التي تنشرها القوى العظمى. بناءً على العوامل الثلاثة، لدى الصينوالولاياتالمتحدة سبب للقلق بشأن تأثيرهما العالمي في عالم ما بعد الوباء. تلقت القوة الوطنية الصينية ضربة من هذه الأزمة على مستويات متعددة. وفتح تفشي المرض انشقاقًا سياسيًا كبيرًا داخل الحزب الشيوعي الصيني، حتى أثار انتقادات لأسلوب القيادة شديد المركزية للرئيس "شي جين بينج". وانعكس هذا في عدد من التعليقات شبه الرسمية التي وجدت طريقها بشكل غامض إلى السياق العام خلال أبريل. ولقي حظر "بينج" القاسي على نصف البلاد منذ أشهر لكبح الفيروس ترحيبا واسع النطاق، لكنه لم يخرج سليما. يحتدم الجدل الداخلي حول العدد الدقيق للوفيات والمصابين، وحول مخاطر آثار الموجة الثانية مع إعادة فتح البلاد ببطء، وعلى الاتجاه المستقبلي للسياسة الاقتصادية والخارجية. كان الضرر الاقتصادي هائلاً. بالرغم من البيانات المنشورة في الصين، لن يعوض أي قدر من التحفيز المحلي في النصف الثاني من عام 2020 الخسائر في النشاط الاقتصادي في الربعين الأول والثاني. إن الانكماش الاقتصادي الذي يعاني منه الشركاء التجاريون الرئيسيون للصين سيزيد من عرقلة خطط الانتعاش الاقتصادي، بالنظر إلى أن القطاع التجاري قبل الأزمة كان يمثل 38% من الناتج المحلي الإجمالي. بشكل عام، من المرجح أن يكون نمو 2020 عند مستوى الصفر، وهو أسوأ أداء منذ الثورة الثقافية قبل 5 عقود. تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي للصين حوالي 310%، مما يشكل عبئًا على أولويات الإنفاق الصيني الأخرى، بما في ذلك التعليم والتكنولوجيا والدفاع والمساعدات الخارجية. ويأتي كل هذا قبل احتفالات الذكرى المئوية للحزب عام 2021، حيث التزمت القيادة بمضاعفة الناتج المحلي الإجمالي للصين على مدى عقد من الزمان. إن الوباء الآن يجعل ذلك مستحيلاً. بالنسبة لقوة الولاياتالمتحدة، تركت الإدارة الفوضوية لإدارة "ترامب" انطباعًا لا يمحى في جميع أنحاء العالم لبلد غير قادر على التعامل مع أزماته الخاصة، ناهيك عن أي بلد آخر. والأهم من ذلك، يبدو أن الولاياتالمتحدة ستخرج من هذه الفترة كدولة نظامية أكثر انقسامًا بدلاً من الوحدة، كما هو الحال عادة بعد أزمة وطنية بهذا الحجم. ويضيف هذا التمزق المستمر للمؤسسة السياسية الأمريكية قيودًا أخرى على القيادة العالمية للولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تشير التقديرات المتحفظة إلى انكماش الاقتصاد الأمريكي بنسبة تتراوح بين 6 و 14% في عام 2020، وهو أكبر انكماش فردي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت التدخلات المالية التي قامت بها واشنطن بهدف إيقاف الانزلاق تصل بالفعل إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي، مما دفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 100% بالقرب من الرقم القياسي في زمن الحرب البالغ 106%. تمكن حالة "العملة الاحتياطية العالمية" للدولار الأمريكي الحكومة من الاستمرار في بيع سندات الخزانة الأمريكية لتمويل العجز. ومع ذلك، فإن الدين واسع النطاق عاجلاً أم آجلاً سيقيد الإنفاق بعد الانتعاش، بما في ذلك على الجيش. وهناك أيضًا خطر أن تتحول الأزمة الاقتصادية الحالية إلى أزمة مالية أوسع، بالرغم من أن الاحتياطي الفيدرالي، والبنوك المركزية الأخرى لمجموعة العشرين، وصندوق النقد الدولي نجحوا حتى الآن في التخفيف من تلك المخاطر. لدى القادة الصينيون نظرة لينينية بسيطة لقوة الولاياتالمتحدة تعتمد على نقطتين أساسيتين: الجيش الأمريكي والدولار الأمريكي (بما في ذلك عمق وسيولة الأسواق المالية التي تدعمها). وكل شيء آخر هو تفاصيل. تدرك جميع الدول ما يسميه اللينينيون "القوة الموضوعية" واستعداد القوى العظمى لنشرها. لكن تصور القوة مهم بنفس القدر. تعمل الصين الآن لوقت إضافي لإصلاح الأضرار الهائلة التي لحقت بمكانتها العالمية الناتجة عن كونها الأصل الجغرافي للفيروس وفشل بكين في احتواء الوباء في الأشهر الأولى الحرجة. مهما كان الجيل الجديد من دبلوماسيي "الذئب المحارب" في الصين قويا، فإن الواقع هو أن مكانة الصين تلقت ضربة كبيرة. وقد شوهد رد فعل معادٍ للصينيين بشأن انتشار الفيروس، مشحون عنصريًا في كثير من الأحيان، في دول متباينة مثل الهند وإندونيسيا وإيران. إن القوة الناعمة الصينية معرضة لخطر التمزيق. لأسباب مختلفة، لا تخرج الولاياتالمتحدة من الأزمة بشكل أفضل. لقد راقب العالم في رعب رئيسًا أمريكيًا لا يتصرف كزعيم للعالم الحر بل كصديق دجال يوصي ب "علاجات" غير مثبتة. لقد شوهد ما تعنيه "أمريكا أولاً" عمليًا: لا تنظر إلى الولاياتالمتحدة للمساعدة في أزمة عالمية حقيقية، لأنها لا تستطيع حتى الاعتناء بنفسها. ذات مرة سيرت الولاياتالمتحدة جسرا جويا لبرلين. والآن نجد أن حاملة الطائرات "روزفلت" قد أصابها الفيروس بالشلل، مع تقارير الإدارة التي تحاول السيطرة الحصرية على لقاح يتم تطويره في ألمانيا، والتدخل الفيدرالي لوقف البيع التجاري لمعدات الحماية الشخصية لكندا. لقد انقلب العالم رأساً على عقب. يبدو أن الأزمة قد مزقت الكثير مما تبقى من العلاقات الأمريكيةالصينية. في واشنطن، لم يعد عالم "المشاركة الاستراتيجية" مع بكين قبل عام 2017 قابلة للاستمرار سياسياً. ستعني فترة رئاسة ثانية ل"ترامب" فصلًا أكبر وربما محاولة احتواء، مدفوعة بقاعدة "ترامب" والغضب الوطني الواسع حول أصول الفيروس، بالرغم أن هذه الاستراتيجية ستصبح غير متماسكة في بعض الأحيان بسبب تدخلات الرئيس الشخصية. في إدارة "بايدن"، ستستمر المنافسة الاستراتيجية (والفصل في بعض المجالات)، ومن المرجح أن يتم تنفيذها على أساس أكثر منهجية وترك بعض المجال للتعاون في مجالات محددة، مثل المناخ والأوبئة والاستقرار المالي العالمي. بشكل عام، تفضل بكين إعادة انتخاب "ترامب" على البديل، لأنها ترى قيمة في ميله إلى كسر التحالفات التقليدية، والانسحاب من القيادة المتعددة الأطراف، وبشكل عرضي إخراج استراتيجية الولاياتالمتحدة تجاه الصين عن مسارها. ولكن في كلتا الحالتين، ستصبح علاقة الولاياتالمتحدة مع بكين أكثر تصادمية. يخضع رد الصين على موقف الولاياتالمتحدة المتصلب باستمرار إلى مراجعة مكثفة. بدأت هذه العملية في 2018، خلال السنة الأولى للحرب التجارية بين الولاياتالمتحدةوالصين. وتم تكثيف ذلك الآن بسبب الوباء وعواقبه الدولية. تعد المراجعة جزءًا من نقاش داخلي أوسع في بكين حول ما إذا كانت الاستراتيجية الوطنية للصين، في هذه المرحلة من تطورها الاقتصادي والعسكري، أصبحت في السنوات الأخيرة إصلاحية بطريقة غير كافية في الداخل وحازمة بشكل مفرط في الخارج. كانت الاستراتيجية قبل "شي"، هي الانتظار حتى يتحول ميزان القوى الاقتصادية والعسكرية لصالح الصين قبل السعي إلى أي تعديلات رئيسية على النظام الإقليمي والدولي - بما في ذلك تايوان وبحر الصين الجنوبي ووجود الولاياتالمتحدة في آسيا. تحت حكم "بينج"، أصبحت بكين أكثر حزماً بشكل ملحوظ، حيث خاضت مخاطر محسوبة - وناجحة حتى الآن - أدت إلى إحداث تغييرات على الأرض، كما يتضح من استصلاح الجزر في بحر الصين الجنوبي و"مبادرة الحزام والطريق". واعتبر رد فعل الولاياتالمتحدة على هذا النهج قابلاً للإدارة، لكن هذا الحساب يمكن أن يتغير في عالم ما بعد الحرب، وعالم ما بعد الوباء. يمكن أن يسعى "بينج" إلى تخفيف التوترات مع الولاياتالمتحدة حتى يتم نسيان الوباء من الذاكرة السياسية. وفي المقابل قد يواجه "شي" تحديات داخلية، مما يجعله يتخذ نهجًا أكثر وطنية في الخارج. من المرجح أن يظهر كلا الاتجاهين في سلوك السياسة الصينية حتى تنتهي عملية مراجعة السياسة الداخلية للصين، وهو ما قد لا يحدث قبل مؤتمر الحزب الشيوعي العشرين في عام 2022. ولكن إذا كان أسلوب "شي" يشكل مؤشرا، فمن المرجح أن يتضاعف تحت تأثير المعارضة الداخلية، وهذا يعني تشديد موقف الصين تجاه الولاياتالمتحدة، بما في ذلك قضايا مثل تايوان، العنصر الوحيد الأكثر زعزعة للاستقرار في العلاقات الأمريكيةالصينية. من المرجح أن تحشد بكين استراتيجيتها لتقليص الفضاء الدولي لتايوان، حتى مع تكثيف جهود الولاياتالمتحدة لتأمين إعادة انضمام تايوان إلى منظمة الصحة العالمية. وبالنظر إلى أن ذلك يأتي ذلك في أعقاب الجهود الأمريكية الأخيرة لتعزيز التعاون الرسمي بين واشنطن وتايبيه، فإن تفاهمات "سياسة صين واحدة" التي عززت تطبيع العلاقات الأمريكيةالصينية في عام 1979 قد تبدأ في الانهيار. وإذا انهارت هذه التفاهمات، فإن احتمال حدوث شكل من أشكال المواجهة العسكرية حول تايوان (حتى كنتيجة غير مقصودة للإدارة الفاشلة للأزمات)، قد ينتقل فجأة من النظرية إلى الواقع. حرب باردة جديدة؟ قبل الأزمة الحالية، كان النظام الدولي الليبرالي قد بدأ بالفعل في التفتت. كانت القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، نقطة الارتكاز الجيوسياسية التي استند إليها النظام، تتحدى الصين، أولاً إقليمياً ومؤخراً على الصعيد العالمي. كانت إدارة "ترامب" تضيف إلى مشاكل النظام من خلال إضعاف هيكل التحالف الأمريكي (الذي كان في المنطق الاستراتيجي التقليدي محوريًا في الحفاظ على توازن القوى ضد بكين) ونزع الشرعية عن المؤسسات الدولية بشكل منهجي (خلق فراغ سياسي ودبلوماسي لصالح للصين). وكانت النتيجة عالماً مختل الوظائف وعشوائي بشكل متزايد. من المرجح أن تعزز الأزمة الحالية مثل هذه الاتجاهات. سيحدد التنافس الاستراتيجي الآن النطاق الكامل للعلاقة بين الولاياتالمتحدةوالصين - العسكرية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية والأيديولوجية - وسيشكل بشكل متزايد علاقات بكينوواشنطن مع البلدان الأخرى. حتى وقوع الأزمة الحالية، كانت فكرة أن العالم دخل في الحرب الباردة الثانية، تبدو سابقة لأوانها. كان النظامان الماليان للبلدين متشابكين جدًا لدرجة أن الانفصال الحقيقي غير محتمل، وبدا أنه لا يوجد احتمال كبير لحروب جيوسياسية أو أيديولوجية بالوكالة في بلدان أخرى، وهي سمة كانت مميزة للتنافس بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي. لكن التهديدات الجديدة التي يقوم بها كلا الجانبين مع تزايد التوترات المتعلقة ب "كورونا" يمكن أن تغير كل ذلك. إن قرارًا في واشنطن بإنهاء استثمارات صناديق المعاشات الأمريكية في الصين، أو تقييد الحيازات الصينية المستقبلية من سندات الخزانة الأمريكية، أو بدء حرب عملة جديدة (تفاقمت بسبب إطلاق العملة الرقمية الصينيةالجديدة مؤخرًا) سيزيل بسرعة الغراء المالي الذي جمع الاقتصادان معا. كما أن قرارا في بكين لعسكرة مبادرة الحزام والطريق من شأنه أن يزيد من خطر الحروب بالوكالة. علاوة على ذلك، مع تصاعد المواجهة بين الولاياتالمتحدةوالصين، بدأ النظام العالمي والقواعد والمؤسسات التي تقوم عليه في التعثر. أصبحت العديد من المؤسسات نفسها ساحات للتنافس. ومع تضرر الولاياتالمتحدةوالصين، لا يوجد "مدير نظام"، - وهذه عبارة "جوزيف ناي"- للحفاظ على النظام الدولي في حالة جيدة. قد لا تكون هذه مرحلة الحرب الباردة رقم 2 بعد، لكنها بدأت تبدو مثل الحرب الباردة رقم 1.5. هناك بدائل أفضل لهذا السيناريو. لكنها تعتمد على تغيير رئيسي في سياسات واشنطن، وإصلاحات في بكين؛ وتطوير بنية جديدة للانفراج بين الولاياتالمتحدةوالصين (بالاعتماد على التجربة الأمريكية السوفيتية)، والتي تضع معايير واضحة حول المنافسة من أجل تجنب الكارثة العسكرية، وجهود الدول الأخرى لتجميع الموارد السياسية والمالية للحفاظ على المؤسسات الدولية الأساسية للنظام الحالي حتى عودة الاستقرار الجيوسياسي. التاريخ غير محدد سلفا. لكن لا شيء من هذا سيحدث ما لم يقرر القادة السياسيون في عواصم متعددة تغيير المسار. بالقرارات الخاطئة، ستبدو سنوات ما بعد 2020 وكأنها عودة طائشة لثلاثينيات القرن الماضي؛ مع ذلك، يمكن للقرارات الصحيحة أن تسحبنا عن طريق الهاوية.