كان بالإمكان أن يقبل قرار الحكومة بتوقيف تنفيذ 15 مليار من ميزانية الاستثمار المدرجة في قانون المالية لسنة 2013 ، فليس هناك عاقل يمكن أن يقف في وجه إجراءات تروم وقف تدهور للمالية العمومية وتردي وضعية الاقتصاد الكلي ( الماكرو اقتصادي) لكن الحكومة تصرفت بعشوائية واستعجال غير مبرر وجعلت قرارها يعمق الشك لدى الفاعلين الاقتصاديين والرأي العام في قدرتها على تبني سياسة اقتصادية سليمة في مواجهة الظرفية الصعبة وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية اللازمة لتجنيب البلاد الأسوأ. وتكمن الخطيئة الأصلية للحكومة ليس فقط في الأسلوب الذي اتبعته في اتخاذ القرار والإخبار به وتبريره، الذي كان عشوائيا بكل تأكيد ، بل في التحليل الذي بني عليه وأجاز اللجوء إليه الذي يعتبر امتدادا منطقيا للتحليل المفارق لواقع الحال الذي استند إليه قانون المالية لسنة 2013 الذي يصطدم اليوم بجدار سميك . فقد تغلب الكسل و الميل إلى المألوف في التعاطي الحكومي والإداري مع الاقتصاد في ظرفية تغيرت كثيرا وأصبح مطلوبا في مواجهة عوامل الغموض القوية Incertitude التي تهيمن فيها داخليا وخارجيا بشكل غير مسبوق البحث عن بوصلة أخرى و إعمال أدوات ومناهج تحليل محينة ومناسبة، تستوعب ما يستجد في الفكر والبحث الاقتصاديين ، ليس لوضع قانون مالية وحسب بل ولوضع سياسة اقتصادية ، بالمعنى الكينزي ، تستوعب مختلف التغيرات الجارية والتحديات المطروح رفعها باستحضار ضرورة التنسيق La coordination وإنهاء الاختلالات الناتجة عن ضعفه البين سواء فيما يتعلق بالسياسات العمومية أو بالعلاقة مع مختلف الفاعلين المفروض العمل على إدراجهم في مسار يقود إلى أفق مشترك ، وبالشكل الذي يكون معه بالإمكان ضمان استعمال ناجع وفعال لمختلف أدوات السياسة الاقتصادية و التقائها على النحو المطلوب ويتيح تحقيق نتائج محددة بدقة ، بما فيها ما يتعلق بمستوى معين من عجز الميزانية. وتجنب "التخربيق" إن ما سبق تتولد عنه جملة من الأسئلة، من بينها : هل المشكل بالمغرب اليوم بالدرجة الأولى مشكل عجز الميزانية ؟ وهل يكفي تقليص ذلك العجز للخروج من الدوامة واستئناف المسير؟ أليس ذلك العجز نتيجة وامتدادا وليس سببا في الوضع الحالي ؟ أليس هناك عجز أخطر منه في المدى القريب والمتوسط يكتسي استعجالا أكبر؟... إن قراءة متأنية في مؤشرات الاقتصاد الوطني في شموليته تؤكد بشكل لا غبار عليه أن عجز الميزانية ، الذي يصعب توقعه بدقة في ضوء معطيات بداية السنة المالية والقول بشكل جازم أنه يمكن أن يصل إلى 8 في المائة من الناتج الداخلي الخام مالم...، تؤكد أنه يأتي تاليا من حيث الخطورة لتوأمه عجز الحساب الجاري لميزان الآداءات ، ليس لأن هذا الأخير بلغ 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام في نهاية 2012 متجاوزا عجز الميزانية الذي بلغ 7,6 في المائة ،بل لأنه حابل بخطر التدهور الاقتصادي والاجتماعي ، الذي يمكن أن يجر في طريقه الميزانية نحو الأسوأ على المدى المتوسط والبعيد بسبب تضخم الدين الخارجي . ذلك أن تدهور الحساب الجاري يجعل احتياطي العملة الصعبة يتدهور وبالشكل الذي يهدد في كل وقت وحين بعدم تسديد مستحقات الدين في وقتها أو عدم القدرة على أداء فاتورة واردات ضرورية ( غداء ، أدوية ،منتجات وسيطة أو أولية...) أو التراجع عن استيراد تجهيزات أساسية لإنتاج الثروة والنمو والتنمية أو اللجوء إلى الاقتراض الخارجي ، خارج التمويلات التفضيلية ، إذا أتيحت بفوائد وعمولات باهظة ، وحين تشير المؤشرات في بداية السنة إلى انخفاض عائدات الفوسفاط بسبب الأسعار ووضعية الطلب وتأثير الأزمة المحتمل على مدار السنة على المداخيل المترتبة عن السياحة وعلى تحويلات المهاجرين والاستثمارات الخارجية المباشرة ، وبالرغم من تراجع محدود لفاتورة الواردات الطاقية يقابله تدبدب واضح لسعر صرف الدولار والأورو، فإن ما يكتسي طابع الاستعجال أكثر من غيره وما يهدد فعلا بالسكتة القلبية هو وضعية الحساب الجاري لميزان الآداءات ، بل ويمكن التعميم والقول ميزان الآداءات بالنظر إلى تطورات السنوات الأخيرة الناتجة عن تحرير يسير بسرعة تتجاوز إيقاع الاقتصاد المغربي . إن التصدي لعجز الحساب الجاري لميزان الآداءات يتطلب التصدي بالدرجة الأولى إلى عجز الميزان التجاري للسلع الذي بلغ أزيد من 198 مليار درهم سنة 2012 متجاوزا مجموع عائدات الصادرات الذي بلغ 183 مليار درهم ، كما لم تكن مداخيل السياحة وتحويلات المهاجرين والاستثمارات والسلفات الخارجية البالغ مجموعها 145 مليار درهم كافية لتغطيته ، بغض النظر عن التحويلات العكسية المتعلقة بالأسفار والاستثمارات الخارجية المباشرة التي تجاوزت 20 مليار درهم ، مما يجعل تلك المداخيل لا يتجاوز 125 مليار درهم فقط . إن استعمال آليات الدفاع التجاري ضد الإغراق أو غيره للحد من بعض الواردات المنافسة للمنتوج المحلي لن تكون كافية أو فعالة ، بالنظر إلى محدودية أثرها وفساد الإدارة ، وكذلك الشأن بالنسبة للإجراءات الهادفة إلى تقليص الوردات المترتبة عن الصفقات العمومية ... فالمطلوب اعتماد منظور أوسع وأكثر شمولا يجمع مابين جعل عدد من الواردات ذا كلفة عالية ( السيارات الفخمة والأثاث الفاخر والمجوهرات و اليخوت ...) بإعمال الآلية الضريبية ( الضريبة على القيمة المضافة 30 في المائة ، والضريبة على الاستهلاك ، والمساهمة في التضامن الوطني ..) فضلا عن حقوق الجمارك كلما كان ممكنا أو ضروريا ،والبحث عن مواد أولية ووسيطة داخليا أو تطوير إمكانية إنتاجها كما وجودة وبكلفة منافسة للواردات ، بما في ذلك تطوير الإنتاج الطاقي والبحث عن موارد طاقية ، والعمل على تحقيق نوع من التكامل داخل السلاكات كلما أمكن ذلك، بما فيها الفلاحية ، وتفعيل قاعدة المنشأ والتتبع... وهذه ليست بالخيارات المستحيلة حتى في ضوء الالتزامات الدولية ، لكن العمل الأساسي ، وهنا يكمن الاختيار الاستراتيجي الأسلم ، يتمثل في تنويع العرض للتصدير وجعله ذا قدرة تنافسية في مختلف الأسواق والعمل على استعمال إمكانيات السوق الأوروبية غير المستعملة لحد الآن بسبب التركيز على السوقين الفرنسية والإسبانية وتنويع الأسواق الدولية بمراعاة كلفة الوصول إليها وتجنب مشاكل الآداءات ، وهذا ما لا يمكن حصوله إلا في إطار سياسة صناعية شاملة تخضع لتنسيق عقلاني ولحكامة تقتلع جذور الفساد وتقطع مع استغلال النفوذ والتداخل بين السلطة والثروة . في إطار هذه السياسة الصناعية الشاملة يمكن أن يجد عجز الميزانية أيضا الحل ويجد تمويل الاقتصاد والحد من عجز السيولة البنكية الحل ، ودونها سيتفاقم العجز على جميع المستويات ويصبح خطرا ليس على توازن الاقتصاد الكلي ، بل خطرا على الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي سيصير أكثر هشاشة إذا استمرت الأمور على ما هي عليه . واعتماد سياسة صناعية من هذا القبيل يعني الخروج من النموذج الحالي الذي وصل إلى وضعية مأزقية منفتحة فقط على آفاق الجمود والعجز عن إتباع أي سياسة تعتمد على الطلب الداخلي أو على التصدير . فالأزمة في المغرب في العمق هي أزمة هذا النموذج الذي ناسب مصالح نافذة وفتح أمامها بابا واسعا للقبض على الريع ومراكمة الثروات بسهولة مع إبقاء البلاد رهينة للفساد بكل أبعاده. لقد تأسس هذا النموذج على انفتاح غير متحكم في مساره على الخارج ، ترجمته مختلف اتفاقيات الشراكة والتبادل الحر بعد سنوات من الحماية الموجهة بالمصالح الطاغية من جهة وعلى الدفع بدينامية الطلب الداخلي بشكل غير محسوب كانت فائدته محدودة بالنسبة للاقتصاد الداخلي الضعيف التنافسية ، باستثناء العقار، وبشكل شكل ضغطا على الميزانية عبر توزيع الدعم الذي وفر أرباح و قدرة شرائية لبعض الفئات لا علاقة لها بالإنتاج والنمو الفعلي ( دعم تجاوز المواد الطاقية والكهرباء والسكر إلى البرامج التعاقدية والنفقات الضريبية) وبقدرات البلاد الحقيقية ( خارج البخ المخزني الذي سارت بذكره الركبان) من جهة ثانية ، وأدى إلى مفاقمة عجز الحساب الجاري لميزان الآداءات ، وهو ما كان ليحصل حتى في حال لم ترتفع أسعار المواد الطاقية بالقدر الذي ارتفعت به ، و تراجع احتياطي العملة الصعبة ( أو رصيد الموجودات الخارجية بالتعبير التقني) بشكل كبير وبالتالي تولد الحاجة إلى الاقتراض الخارجي . إن عجز ميزانية بالحجم الحالي والمتوقع جزء وليس جزيرة وامتداد وليس الأصل ، والقرار العشوائي الذي اتخذته الحكومة للحد منه ، الذي لم يحسب أثره على الخدمات العمومية ، المعروف أنها تحقق أزيد من 20 في المائة من القيم المضافة والنمو في السنوات الأخيرة، ، أ وأيضا على الفاعلين الاقتصاديين ، سينتهي بالاستدراج إلى مزيد من القرارات العشوائية مادام هذا القرار محدود الأثر ، ولا يساوي إلا نقطة واحدة من العجز المتوقع ، وهذا النوع من القرارات يولد الإحساس بالإحباط ، والحال أن المغرب يحتاج إلى من يعيد إليه التفاؤل ويشعر شعبه بالأمل في المستقبل ، وذلك ما لن يتأتى إلا بتقوية الاستثمار في المستقبل . إن الخروج من النموذج الحالي بقدر ما يتطلب إصلاحات هيكلية منسقة ، فإنه يتطلب إصلاحات مؤسسية ، تعتبر شرطا لا محيد عنه لإنجاح أي إجراءات لمعالجة الظرفية أو إصلاحات هيكلية ، لأن المؤسسات ليست لباسا شكليا أو قانونيا وإنما يتولد عنها مفعول اقتصادي وتؤثر على الإنتاجية والتنافسية وتمكن من جعل الرؤيا أوضح للفاعلين الاقتصاديين ، بمن فيهم الدولة والمؤسسات العمومية، والبين أن المغرب يعيش حالة حجز على هذا المستوى بسبب تغلب تقاليد المخزن، القائمة على احتكار السلطة والثروة ، وإفراغها لكل الإصلاحات التي لا تناسبها من محتواها وفرض الدوران في الحلقة المخزنية بلا انقطاع وبسبب فقدان السياسيين للشجاعة السياسية لجرأة طرح قضايا الإصلاح المؤسسي كما يجب أن تطرح أو أيضا عدم توفر بعضهم على رؤيا واضحة لما يجب أن تكون عليه ، كما هو الشأن بالنسبة للمكون الرئيسي للحكومة الحالية الذي وجد ضالته في خطب لاتسمن ولا تغني من جوع ومن شأن الإغراق فيها أن يغرق السفينة .