هل يوجد المغرب في حالة أزمة اقتصادية أم يواجه صعوبات ظرفية عابرة ؟ الوزير المنتدب المكلف بالميزانية إدريس اليزمي الإدريسي يدلي بالتصريح وراء الآخر للإقناع بعدم وجود أزمة وللتخفيف من الآثار التي ترتبت عن عرض شريكه في الوزارة نزار بركة في البرلمان الذي سبق إعلان صندوق النقد الدولي عن منح خط احتياط وسيولة( 6،2 مليار دولار) قابل للاستعمال في مواجهة أي طارئ خطير ،ويبدو أن الوزير الإسلامي يسابق الزمن لمحاصرة التصرفات الاستباقية السلبية التي يمكن أن تنتج عن الغموض الناجم عن الحدثين . لكن التصريح بعدم وجود الأزمة لا يمكن أن يقنع أحدا عندما تكون المؤشرات بارزة وشاهدة على وجودها في الواقع، وعندما تكون التأثيرات المتبادلة والتفاعلات بين عوامل التدهور في الوضعية الاقتصادية والمالية والاجتماعية واضحة للعين المجردة ومولدة لديناميات منفلتة، وعندما يسود الغموض بشأن قدرة الحكومة على التصدي لعوامل التدهور هذه بشكل يقطع مع ميكانيزمات التدبير الموروثة عن برنامج التقويم الهيكلي والمعالجات القاصرة للحكومات التكنوقراطية التي كانت تستمد شرعيتها من التعيين الملكي وليس من صناديق الاقتراع وتعبير الإرادة الشعبية. والأزمة ليست طارئة لكي يتم اختزالها في معطى ظرفي والمؤشرات الحالية نفسها تؤكد أنها نتاج تراكمات تاريخية ، ومنها الاستبداد واحتكار السلطة والثروة وتداخلهما وعدم تبني استراتيجيات وطنية بعيدة النظر واستشراء الفساد ، ومن المثير جدا أن خطاب الوزير الإسلامي المطمئن اليوم يأتي مفارقا لتصريحات حكومية سابقة تحمل الحكومة السابقة مسؤوليات واضحة فيما آل إليه الوضع ، ومناقضا أيضا للتحليل الذي قام عليه تصور حزبه الذي بني عليه التصريح الحكومي . فقد كان واضحا أن الأزمة قادمة مند سنوات وأنها قد تأخذ حجما وعمقا غير مسبوق، لكن من تولوا مسؤولية تدبير الشأن المغربي تركوا الأمور تتجه نحو التدهور ، بكثير من اللامسؤولية، وبقوا مستسلمين لخطاب منوم مفاده أن المغرب استطاع الصمود في وجه الأزمة العالمية بفضل استقرار اقتصاده الكلي وتراجع مديونيته الخارجية وصلابة نظامه البنكي وسياسته النقدية المتزنة واستقرار عملته الوطنية وحيوية طلبه الداخلي...، وهو خطاب يقوم على أساس ضعيف ويحكمه منظور لايجاوز المدى القصير .إذ أن عدم انتقال الأزمة المالية إلى المغرب ناتج بالأساس عن كون النظام المالي المغربي ، الذي يعتبر النظام البنكي مكونه الرئيسي بما يناهز 60 في المائة من مجموع أصوله ، ليس له ارتباط بالأسواق المالية الدولية التي تفجرت فيها أزمة 2008، وذلك نتيجة ضعف انفتاحه عليها سواء على مستوى الأصول أو المحفظات أو المعاملات وبقاء الأبناك المغربية، بما فيها تلك التي يهيمن عليها رأسمال فرنسي، في حدود الوساطة التقليدية ومهن بنك التقسيط. غيض من فيض في ظل هذا الواقع كان من غير الوارد أن تنتقل الأزمة المالية العالمية إلى المغرب عبر القناة المالية أو البنكية كما حصل في بلدان الاتحاد الأوروبي ،لكنه كان واضحا، وهو ما تم التشويش عليه بخطاب التطمين الذاتي الفج، أن نجاة المغرب من الأزمة المالية العالمية لا يعني أنه اكتسب مناعة كاملة للحيلولة دون حدوث أزمة مالية وأن الاقتصاد الواقعي يمكن أن يكون القناة التي تتسرب منها هذه الأزمة ، وكانت مؤشرات ذلك التسرب قد بدأت بالظهور وبدلت جهود لإخفائها بدل تكريس تلك الجهود لتجاوز العجز على إيجاد حلول غير محصورة في الترقيع الظرفي والانتظارية ومتحررة من طغيان المصالح الخاصة ومفتوحة على ما يستجد في العالم فكرا وتطبيقا. والتدهور الخطير الذي يعرفه الحساب الجاري لميزان الآداءات ليس طارئا ولا خارج التوقع ،إذ كان واضحا مند سنوات أن عجز الميزان التجاري للسلع في تفاقم مستمر وأن أسعار المواد الطاقية ستبقى مرتفعة وأن تطبيق اتفاقيات التبادل الحر مع الولاياتالمتحدة وتركيا ودول إعلان أكادير وإزالة الحماية الجمركية فيما يتعلق بالمبادلات التجارية تطبيقا لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سيزيد من تفاقمه نظرا للقوة الاقتصادية و التصديرية لبعض هؤلاء الشركاء وضعف العرض المغربي للتصدير ومحدودية تنافسيته ،هذا في الوقت الذي لا يمتلك فيه المغرب قدرات على اللجوء للحماية النوعية لسوقه الداخلية بإعمال المعايير وغيرها ، ولولا تحسن الطلب على الفوسفاط ومشتقاته وارتفاع أسعارها الدولية لكان هذا العجز قد بلغ مستوى أكثر إنذارا من مستواه الحالي . ولم يرافق الانفتاح التجاري الكبير والمتزامن للمغرب مجيء استثمارات خارجية بحجم كبير من البلدان الشريكة التي تم تحرير المبادلات معها أو من بلدان أخرى تفاقم عجز المبادلات التجارية معها ، بل على العكس ، فقد ترافق تفاقم عجز الميزان التجاري المغربي ( بقرابة 40 في المائة مع الاتحاد الأوروبي بين 2000 و2010 مثلا) وتراجع الاستثمارات الخارجية، بعد انتهاء عمليات الخوصصة الكبيرة ، والنزر اليسير من الاستثمارات الخارجية الذي وصل جاء لمنافسة المقاولات المغربية في سوقها الداخلية ولم يفد في تقوية قدرة المغرب على التموقع في الأسواق الخارجية ، بل ترتبت عليه تحويلات سلبية للمداخيل الخاصة كما يعكس ذلك حساب الرساميل وكان واضحا كذلك أن تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج التي عرفت نموا عاليا ومستمرا مند بداية الألفية سيميل إلى الاستقرار وحتى إلى التراجع بشكل عاد بعد استنفاد قدرته على النمو أكثر لاعتبارات متصلة بتحول عميق وسط المهاجرين المغاربة ومحدودية فرص هجرة جديدة ، وذلك قبل أن تأتي الأزمة العالمية التي عانى منها المهاجرون في بلدان الاستقبال الأوروبية وفي البلدان العربية كذلك . وكان واضحا كذلك أن المداخيل المترتبة عن السياحة ستعرف تراجعا ملموسا ليس فقط نتيجة عدد الوصولات ، الذي يشكل المهاجرون نسبة عالية منه، بل وأساسا نتيجة تراجع إنفاق السياح الناتج عن تأثير الأزمة على قدراتهم الشرائية وعلى طرقهم في الإنفاق والاستهلاك وكذلك عدم تنويع وإغناء العرض السياحي وعدم ملاءمته وضعف التنشيط وعدم استكشاف وتحفيز الأسواق التقليدية وغير التقليدية واستشراء الفساد في القطاع السياحي ، مدعوما من طرف الإدارة والسلطات والأمن، الذي يجعل نسبة عودة السياح إلى المغرب ضعيفة. وقد شهد المغرب خلال هذه السنوات ليس فقط تراجع مساهمة القيمة المضافة للقطاع الصناعي في تكوين الناتج الخام ، بل تراجعا صناعيا حقيقيا، بالرغم من الإعلان عن البرامج والاتفاقيات، التي ترتب عليها ريع أكثر من أي شئ آخر، ومنح الامتيازات الضريبية التي أثرت على الميزانية و ضربت مبدأ حياد الضريبة في العمق. ولهذا التراجع انعكاسات واضحة على عجز الميزان التجاري للسلع. وبالمثل ، كما أن إنتاجية القطاع الفلاحي لم تتطور بالشكل المطلوب ولم نشهد ذلك التحول الكبير في الفلاحة الذي وعد به مخطط المغرب الأخضر، الذي عرض في الأصل في وريقات (فلاير) غامضة من طرف مكتب الدراسات الأجنبي الذي أعده ، بعد صرف أموال طائلة في رافعته الرأسمالية ، التي تضاف إلى الإعفاء من الضريبة الفلاحية ، وتوزيع الضيعات التي كانت تسيرها الدولة على النافذين وعائلاتهم في إطار اقتسامهم للريع. الأزمة المالية هذه وغيرها مكونات أزمة اقتصادية حقيقية بنيوية لم تعمل تأثيرات الأزمة العالمية على البلدان الشريكة إلا على إبراز عمقها ، وهي أزمة تنقل مضاعفاتها إلى النظام المالي الذي كان قد أفلت من الأزمة المالية العالمية ، حيث تواجه الأبناك المغربية اليوم أزمة سيولة غير مسبوقة دفعت هذه الأخيرة إلى اللجوء إلى السوق المالية ودفعت بنك المغرب إلى تجاوز الحدود الضيقة جدا التي وضعها قانونه من خلال تعديلات 2005 والتدخل بكثافة لضخ أموال ضخمة في خزائن هذه الأبناك ( أكثر من 70 مليار درهم في يوليوز الماضي) ،بعد إجراءات سابقة لم تجد نفعا، إذ لأول مرة تزيد قروض الأبناك عن ودائعها، مع العلم أن الودائع شكلت مصدر تمويل الأبناك المغربية الرئيسي ( قرابة 80 في المائة من الخصوم) وشكلت الحسابات الجارية تمويلا مجانيا مند إلغاء الفوائد لفائدة هذه الحسابات سنة 1975 . لهذه الوضعية صلة بتحويلات المهاجرين ، لكنها أيضا ناتجة عن اتجاه الأبناك إلى التوسع في منح القروض للحفاظ على أرباحها العالية جدا بعدما انخفضت معدلات الفائدة وتراجعت عائدات بعض الخدمات التي كانت تفرض عليها عمولات باهظة وغير مستحقة . والمثير أن نمو القروض البنكية بشكل كبير لسنوات لم يكن له انعكاس على النمو ، لأن الأبناك فضلت السندات العمومية والمجموعات والشركات الكبرى التي تملك قدرات للتمويل الذاتي بينما بقيت متحجرة فيما يتعلق بتمويل المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل أكثر من 90 في المائة من النسيج المقاولاتي المغربي وتشكل قوة حقيقية دافعة للتقدم، لو وجدت المرافقة المناسبة ولم يلعب ضدها الانتقاء المضاد الناتج عن الريبة التي تميز تعامل الأبناك معها . والبين أن تدخلات بنك المغرب لفائدة الأبناك التي يترتب عليها ارتفاع الكتلة النقدية لم يترتب عنه ذلك التضخم المخيف الذي اعتبر استهدافه مهمة وحيدة لبنكنا المركزي ، في إطار ممارسة النقل من فرنسا وأوروبا اليوم، مما يبين أن العلاقة بين الكتلة النقدية وبين التضخم غير مؤكدة (ولو خفض بنك المغرب معدل إعادة التمويل من مستواه المرتفع حاليا ( 3 في المائة) لكان له أثر إيجابي دون مفاعيل تضخمية،) وهو ما تبين كذلك في البلدان المتقدمة مند التسعينات وبالخصوص بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة ، وما أسقط من يد النقدويين ومن تبعهم حججهم النظرية وما يحاصر اليوم الدوغما الألمانية التي فرضت نفسها على البنك المركزي الأوروبي ونقلناها بدون تريث لدى مراجعة قانون بنك المغرب. لكنه لابد من الإشارة إلى أن هذه التدخلات لفائدة الأبناك دون الخزينة العامة تطرح أكثر من سؤال ، إذ تتمكن الأبناك من جني أرباح ضخمة من فارق الفائدة الذي تجنيه من الدين على الخزينة والقطاع العمومي، وهو ما يشكل ريعا آخر لا يتحدث عنه أحد. وفضلا عن مفاقمة كلفة الدين العمومي ، فإن هذا التوجه يقلل من فرص تمويل المقاولات ، وبالأخص منها المقاولات الصغرى والمتوسطة التي تعاني أكثر من غيرها من الاستبعاد ، وخصوصا بعد الانتقال من وضعية سيولة زائدة إلى عجز السيولة لدى الأبناك في السنوات الأخيرة . أخطر من ذلك ، فالعجز الكبير للميزانية يمثل اليوم قناة لنقل الأزمة إلى النظام المالي ويقوي من مخاطر توسعها ويهدد بأن يتحول هذا النظام إلى سبب في تعميق أزمة الاقتصاد الواقعي عبر التفاعلات والتأثيرات المتبادلة المرشحة للتعاظم. فإذا ما تأكدت التوقعات التي تنذر بوصول عجز الميزانية إلى 8 أو 9 في المائة في نهاية السنة الجارية ، وإذا ما لم تتمكن الحكومة في تعبئة التمويلات الخارجية التي تراهن عليها، بالموازاة مع زيادة حقيقية في المداخيل الضريبية ، فإن المغرب لن يجد نفسه مضطرا للدخول في سياسة تقشفية موجعة وذات أثر سلبي على المستقبل عامة وحسب ، بل سيوجد الاقتصاد أمام مشكلة تمويل حادة من شأنها أن تدمر نسيج المقاولات الصغرى الهش أصلا ، لأسباب تدخل ضمنها مشكلة الولوج التمويل البنكي والمباشر وضعف التمويل الذاتي ، وأن تساهم في تركيز الثروة أكثر وفي دعم الأوليغارشية المسيطرة على الاقتصاد الوطني والمحبطة لقدرته على الاستفادة من فرص التجديد والتنويع التي يمكن أن تأتي بها المقاولات الشابة الصغيرة والمتوسطة، وذلك نتيجة لتعميق مشكلة السيولة البنكية التي تقود إلى ارتفاع الفوائد وعلاوات المخاطر و زيادة مفعول الانتقاء المضاد. كي لا ننسى إن المغرب يواجه مخاطر بارزة يصعب الالتفاف عليها بالكلام وخط الاحتياط والسيولة ، الذي لايبدو أن اللجوء إليه جاء هكذا باختيار حكومي ذاتي ، يشير إلى أن هناك مسافة قصيرة تفصل عن الأسوأ ، والأسوأ هو التفريط في السيادة الوطنية على الاقتصاد والخضوع للشروط التي تترتب عن استعمال تسهيلات صندوق النقد الدولي ،إذ أن نتيجة ذلك الخضوع ، كما بينت تجربتنا في الثمانينات وتجارب أخرى ، ليس وضعا مهينا وشكا دوليا وداخليا بل تدهور شامل . ويجب ألا ننسى أن معدل الفقر قد قفز إلى مستويات قياسية ( 19 في المائة ) في تسعينات القرن الماضي نتيجة لمضاعفات برامج القويم الهيكلي خلال ثمانينات وبداية تسعينات نفس القرن . ويجب ألا ننسى كذلك أن المغرب دخل في مرحلة تراجع صناعي نتيجة تلك المضاعفات ، ولم يخرج منه إلى الآن كما تبين ذلك معطيات المحاسبة الوطنية في السنوات الأخيرة ، وبقي نموه بين السالب والضعيف جدا خلال عقدين تقريبا ما لم تأت الأمطار للنفخ فيه. هل هذا ما يريد حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه تركه للمغرب مستقبلا ؟ هل يريدون السير بالمغرب نحو الإصلاح الذي يقطع مع الاستبداد والفساد ويقوي قدرات البلاد في ميدان التنمية والارتقاء بالأوضاع المعيشية للساكنة الفقيرة والهشة وفتح الآفاق أمام شباب المغرب أم العودة القهقرى وتكرار تجارب الماضي الذي كانت فيه الحكومات شبيهة بحكومات القرون الوسطى ينتفع وزراؤها ويغتنون كأشخاص لكنهم بلا دور حقيقي في وضع وتدبير السياسات العمومية وفي رسم الأهداف الكبرى ؟ هل يسلكون نهج الوزير الناطق باسم الحكومة الذي يعتبر معركة أو حرب القيم أهم من كل شئ ، كما يستخلص مما نشر عن عرضه أمام شبيبة حزبه ، وتقود إلى متاهات خطيرة بلا مخارج تضيع وقت المغرب والمغاربة وتعمق التأخر التاريخي ؟ ليس بخطاب التطمين الذاتي على نمط ما جرت عليه عادة مخزنية قديمة يمكن طمأنة المواطنين وجعلهم ينامون قريري العين في انتظار من يفكرون لهم وبدلهم ، هذا زمن مضى وانقضى ومعه الحكومات التكنوقراطية –المخزنية ، فالزمن ، الذي تحررت فيه الإرادات ، يستدعي اعتماد خطاب الواقع الصادق الذي ترافقه حلول حقيقية للمخاطر المحدقة بالاقتصاد الوطني وجرأة مدعومة بالقدرة على الابتكار وتجاوز الأكلات البائتة والخطيرة.