تمثل ضربة الثامن من سبتمبر2021 لحزب العدالة والتنمية المغربي فرصة تاريخية، دون قصد من خصومه، لإيقاف السقوط الذي وقع فيهخلال العشر سنوات الأخيرة، على الأقل، خاصة منذ اندلاع حركة 20 فبراير في سياق انتفاضة الربيع العربي عام 2011، إذا توفرت له الشروط التالية: أولها، انتخاب قيادة جديدة من الصف الثاني ممن لم يتحملوا مباشرة المسؤولية الحزبية والحكومية مع الفريقين اللذين قادا الحزب والحكومتين المتتاليتين عامي 2012-2021، برئاسة عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني وفريقيهما، وإعادة الثقة بين قواعد الحزب والمتعاطفين معه وبين الحزب وتحصين بناءه الداخلي من الاختراق والغفلة. ثانيها، إعادة النظر في منطلقات الحزب السياسية ومراجعة مسيرته الحزبية وتقييم الواقع السياسي المغربي بدقة وتجرد بكل قواه وفعالياته الحزبية والمؤثرة، بما فيه المؤسسة الملكية ودورها المباشر في السلطة التنفيذية وإدارة شؤون الدولة ومؤسساتها الدستورية، والإقرار بأن المؤسسة الملكية فاعل سياسي ومؤثر مباشر في القرارات الاستراتيجية للدولة وليست حكما أو طرفا محايدا، بل تلعب أدوارا حيوية في حياة الدولة والمجتمع عبر أحزاب أمرت بتأسيسها أو رعتها وأخرى استمالتها عبر السنين الماضية وإعادة النظر أيضا في طبيعة العلاقة غير المتوازنة بين الحزب و المؤسسة الملكية. ثالثها، إعادة تعريف وتحديد طبيعة وأهداف العلاقة بين الحزب وحركة التوحيد والإصلاح مستقبلا، ليس من باب الفصل بين الدعوة والسياسية، وهذا منزلق وكمين خطير سيسلب الحزب عمقه المعنوي، إلا أنه من الناحية الوظيفية وتقسيم المهام يمكن رسم خريطة توافقية متوازنة بين الحقلين والتنظيمين لما يحقق مصالح الناس والمجتمع. ولأن عمل الحزب، كأي حزب سياسي، يروم بالأساس تحمل المسؤوليات الكبرى داخل المؤسسات الدستورية وللعلاقات الدولية والشؤون الاقتصادية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية والاقتصادية وآثارها على حياة ومصالح الناس، فإن عمل الحركة موجه بالأساس للمجتمع ومنظومته القيمية وهويته الدينية والأخلاقية كجبهة داخلية للدولة يجب أن تكون متماسكة ومتلاحمة ومتنوعة ومترابطة، وبينهما، الحزب والحركة، والدولة والمجتمع، دينامية وظيفية وأدوارا متكاملة تحقق القوة والرفاه والتمكين والازدهار للجميع. رابعها، استعادة الثقة بين الحزب والجماهير لاستنهاض همتها أبناء من جديد وترميم العلاقة مع الناس والكتلة الناخبة، وبث روح جديدة في جسد حزب أنهكته السقطات والضربات وأعيت رجالاته ولم يتجاوز عمر الحزب ربع قرن، حزب كان يتمتع بديناميكية وحيوية بين الأحزاب عند بداية انخراطه في العمل المحلي والتشريعي وحتى الحكومي، مما جعل هذا السقوط ظاهرة غريبة في تاريخ الأحزاب السياسية قمينة بالدراسة والتحليل. هذه الفرصة لن تعوض أبدا للصف الثاني من قادة الحزب شريطة أن يتوارى إلى الظل ويستقيل جيل الحرس القديم الذي استأثر بإدارة شؤون الحزب والشأن العام لسنوات وانتهى بكارثة يمكن أن تعصف بمستقبل الحزب وعلاقته الاستراتيجية بحركة التوحيد والإصلاح وبالشعب وبأبنائه بسبب أخطاء وقعت فيها هذه القيادة القديمة فكرا وفهما وواقعا واجتهادا، إذ تجاوزت حدود الاعتدال إلى الابتذال وتحولت من الواقعية السياسية إلى الوقوعية السياسية. لقد بنت مستقبل الحزب ومشروعه الإصلاحي والسياسي على مجاراة السلطة وإرضائها دون الحصول على أي مقابل سياسي أو حتى كسب الثقة الملكية كما كانت تسعى لذلك. "قل هو من عند أنفسكم": الذات منطلق التصحيح إن منهج القرآن الرباني لفهم وتقييم أسباب أي مصيبة تقع للمسلم، كيفما كانت طبيعتها، هو أمر ربه له بالتوجه نحو الذات التي تشكل البيئة الداخلية ومبتدأ هذه المصيبة، دون إغفال العوامل الموضوعية والخارجية بطبيعة الحال، لأن عوامل الاستعداد والتأهيل هي مقدمات لبداية الانتكاسة وتربة خصبة للسقوط أمام النفس والخصوم، حيث قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّا هَذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). إن العودة للذات ليس تبرئة لدور الخصوم فيما وقع لحزب العدالة والتنمية يوم الثامن من سبتمبر، ولا يمكن تفسير وفهم النتائج إن لم تشخص جذروها وتبين أسبابها وتحليل المسار الذي اتبعه على الأقل خلال العشر سنوات الماضية التي تحمل فيها الحزب رئاسة الحكومة واعتقد بعض قادته أنهم حقا وصلواللسلطة. ولا يمكن الوقوف على ما تسببت فيه العوامل الداخلية والذاتية للحزب وفهمه وتحليله وتصحيحه ما لم تستبعد الشخصيات التي كانت وراء ما وقع له يوم الثامن من سبتمبر وطرح بدائل سياسية وتنظيمية وفكرية من شأنها أن تخلق بيئة داخلية جديدة تستقبل تصورات جديدة لتدبير شؤون الحزب في المرحلة الحالية والمقبلة في أفق الاستحقاقات القادمة وإعادة تحديد ركائز علاقاته بجميع الأطراف والفاعلين في الساحة السياسية، بما فيه الفاعل الأكبر والأبرز، وهي المؤسسة الملكية من منطلق مهامها وصلاحياتها وسلطاتها ودورها التنفيذي كما جاء في دستور 2012 وفي كل الدساتير منذ 1962، لذلك يجب أن تدرك القيادة الجديدة للحزب التي سيختارها المؤتمر الاستثنائي نهاية أكتوبر المقبل، وأتمنى أن تكون من الصف الثاني لأسباب مرحلية وسياسية واستراتيجية، بأن مراجعة النفس الحزبية والشخصية والفكرية للوقوف على جذور الكبوة والغفلة لا يمكن أن تنجح إن لم تتسم بالتشخيص الدقيق والصدق مع الله ثم مع الذات والصراحة مع الجميع، الداخل الحزبي والمجتمع والفاعلين السياسيين والخارج. وتبقى الممارسة على أرض الواقع في المرحلة المقبلة هي ساحة الاختبار لما ستسفر عنه هذه المراجعة والتأمل فيما حصل خلال السنوات الماضية من تقصير وانزلاق وأخطاء، كما أنه سيكون لهذا الأمر الأثر الإيجابي داخل أحزاب تعاني هي الأخرى من نفس الاختلالات والأعطاب والشيخوخة وتحتاج لقيادات جديدة من الصف الثاني لقيادة المرحلة السياسية القادمةعلى يد جيل جديد يحمل طموحات كبيرة. العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح: جدلية المسار والمصير إنه لخطأ استراتيجي أن تعتقد القيادة الجديدة لحزب العدالة والتنمية، إن تم لها هذا، بأن ما أصاب الحزب يوم الثامن من سبتمبر بتدبير من السلطة وخصومه السياسيين والناخبين، كان سببه علاقته بحركة التوحيد والإصلاح، وبناء عليه يجب فك الارتباط معها عمليا بعدما سبق أن قطعت الصلة التنظيمية والوظيفية معها وأبقت على مسافة منها كخزان انتخابي وعمق اجتماعي يستعين به في صراعه السياسي ونزاله الانتخابي. تعلم السلطة جيدا وخصوم العدالة والتنمية السياسيين بأن نقطة ارتكاز الحزب وعضده الروحي هي الحركة، لذلك يتم مهاجمة الحزب منذ سنوات والضغط عليه لفك الارتباط بالحركة لسببين استراتيجيين، الأول إبعاد الحزب ورجاله عن البيئة الدعوية والتربوية والشرعية التي تلتزم بها الحركة ليسهل إيقاعهم في براثين وبدع العمل السياسي وإكراهات العمل الحكومي والإداري اليومية وإغراءات وملذات المناصب والمال، وهذا ما وقع في كثير من الحالات لضعف الوازع الديني وهم بشر مثلهم مثل غيرهم من البشر، والثاني حرمان الحزب من الدعم اللوجستي والمدد البشري والسند المعنوي في معاركه السياسية وصراعاته مع خصوهم خلال الاستحقاقات والتي كسبها مرتان متتاليتان عامي 2012 و2016 بلا منازع بدعم قوي من الحركة. إن ما وقع يوم الثامن من سبتمبر من سقوط للحزب لا يمكن عقلا ولا واقعا أن يعلل بتخلي الحركة عن الحزب عقابا له عما اقترف من خطايا ورزاياوقع فيها الكثير من فريق عمل القيادتين خلال ولاية الحكومتين وعقد من الزمن، بل كان أشدها اندحارا وتنازلا قانون الفرنسة وقانون القنب الهندي واتفاقية العار مع الكيان الصهيون. وبالرغم مما يمكن فهمه بأنه شكل تراجعا أو فتورا في الحماس والدعم لمرشحي الحزب، فإن موقف الحركة من الحزب وقادته المؤسسين الذين تحملوا المسؤولية الحكومية والتشريعية والجهوية والجماعية خلال العشر سنوات الأخيرة مرده لأسباب شرعية وتربوية وسلوكية، وربما أيضا سياسية، وإن كانت الحركة لا تعلن انخراطها في العمل السياسي. إن قيادة جديدة لحزب العدالة والتنمية هي في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الحركة كحليف استراتيجي، إلا أن هذه العلاقة تحتاج لتعريف جديد وتحديد إطارها وأهدافها وآليات عملها بشكل واضح ومسؤول، ولا تختلف حاجة الحزب للحركة عن حاجته للهيئات النقابية والإعلامية والمدنية والرياضية والثقافية والحقوقية، فكلها روافد تصب في بعضها البعض وتعزز دور بعضها البعض كل في مجاله ونشاطه ومهامه. إنها علاقة أفقية وليست عمودية بحيث لا يجمع بين الحزب والحركة أي ارتباط تنظيمي أو وظيفي ولا يتبادلان الأدوار ولكن يشتركان في المرجعية والأهداف ولكل منهما آليات ومجال عمله وبرامجه. العدالة والتنمية:من أقلية برلمانية إلى أغلبية جماهيرية إن منطق الأغلبية والأقلية في ظل منظومة سياسية غير سليمة لا تعكس حقيقة القوة والضعف لدى الأحزاب ولا وزنها السياسي الحقيقي،ولا تعكسه كذلك لا نتائج صناديق الاقتراع ولا ردهات المؤسسة التشريعية، وإنما إرادة الكتلة الناخبة الحقيقية والقاعدة الصلبة، وأيضا الأغلبية الصامتة التيلم تحظ بالدراسة من قبل الباحثين ولا نعرف اختياراتها بسبب مقاطعتها الاستحقاقات الانتخابية خلال محطات 1997 و2002 و2007 و2012 و2016 و2021 وعبرت عن سخطها ورفضها للعبة السياسية برمتها في صيغتها المصطنعة ونتائجها المعدة سلفا قبل توجه الناخبين للاقتراع، وهو السيناريو الذي نرى أنه نفذ في الانتخابات التشريعية الأخيرة. ولكيلا يفاجئخصومه بولاية ثالثة للحزب، بالرغم من الحملات المسعورة والتشويه الممنهج و"معركة الأحزاب" التي تشكلت من تحالف هيئات سياسية إدارية وبقايا أحزاب وطنية، ولتقطع الشك باليقين، يبدو أن السلطة رتبت وباقي أحلافها المشهد السياسي لمرحلة ما بعد الثامن سبتمبر في الغرف المغلقة بالتنسيق والتشاور مع قيادات حزبية شكلت فيما بعد التحالف الثلاثي، التجمع الوطني الأحرار والأصالة والمعاصرة والاستقلال، وجعلت الرأي العام المغربي يبدو وكأنه قبل بهذه النتائج المدوية، بل وشمت بعضهم في الحزب كما صورته وسائل الإعلام المحسوبة عليها. إنه يمكن لحزب العدالة والتنمية تحت قيادة الصف الثاني وإبعاد كل من ساهموا في إلحاق هذا الضرر الكبير به خلال الحكومتين المتتاليتين سياسيا وتنظيميا وفكريا وتربويا واجتماعيا وأخلاقيا ومكانة، يمكن أن يعيد بناء صفوفه وموقعه داخل أغلبيته وقاعدته الصلبة التي، في رأيي، لم يطلها ضرر كبير ولن تتخلى عن الحزب، وإنما أرادت له أن يغير موقعه ويخرج من المأزق الذي أوجدته فيه قيادتي الحزب وفريقيهما خلال فترة الحكومتين السابقتين بسبب ممارسات وتنازلات وأخطاء قاتلة حولته من قوة اجتماعية وظاهرة حزبية جديدة إلى رقم حزبي كباقي الأرقام تخلىعن أصوله وجذوره بالاستدراج حتى تحول لطيف سياسي باهت وتابع بلا هوية ولا شخصية ولا طعم ولا رائحة، خاصة خلال الولاية الثانية برئاسة سعد الدين العثماني وشلته من المهرولين. وإذا نجحت السلطة وأحزابها في تحويل حزب العدالة والتنمية إلى أقلية داخل قبة البرلمان والمجالس الجهوية والجماعية والغرف ضدا على حقائق الاجتماع والسياسة والواقع وعلم الإحصاء والرياضيات، فإنه يمكن للقيادة الجديدة، بفضل مقاربة جديدة للعمل السياسي ولمفهوم المشاركة في العمل السياسي ولفلسفة التحالفات وتحديد وتعريف جديدة للعلاقة مع حركة التوحيد والإصلاح وباقي الحركات الإسلامية والجمعيات الدعوية والأحزاب الوطنية المستقلة، يمكن أن تعيد تموقع الحزب من جديد وتحقيق أغلبية سياسية بفضل رصيد جماهيري تعيد بناءه على أساس تعاقد اجتماعي جديد بعيدا عن الانتهازية الانتخابية والتجييش العاطفي الخطابي. إن عمق أي حزب وشرعيته وركنه الشديد يوجد في هموم المجتمع ومصالحه وطموحاته، يدور معها حيثما دارت، لأن حال المجتمع وسعادته من عدمه هو المؤشر الحقيقي على النجاح وعلى الوزن السياسي الحقيقي للحزب وليس رضا السلطة أو أرقام صناديق الاقتراع المبرمجة، فالأول ثابت وصادق والثاني زائل وكاذب، لذلك يجب على حزب يحترم إرادة الشعب وأبنائه أن يعيد النظر في سلم أولوياته بعد هذه المحنة. إن قيمة أي عمل حزبي بالمفهوم الوظيفي تكمن في الثقل الذي يمثله في وجدان الناس وفي الواقع الذي يتحرك فيه لا في نتائج رياضية تخرج من صناديق لا تعكس بالضرورة حقيقة وتعبير إرادة الناس وإنما تصنعها معادلات تركب في معامل ومختبرات السلطة وتنفخ فيها صحافة بلا ضمير مهني لتسوقها لشريحة من الناس تبيع مستقبلها وذمتها على الهواء وبالصورة والصوت لمن يدفع أكثر. هناك فرق بين القوة الرقمية والقوة الاعتبارية، لذلك يجب على القيادة الجديدة لحزب العدالة والتنمية، وكذلك لباقي الأحزاب التي تعيش نفس وضع العدالة والتنمية، أن تحرر الحزب من منطق حشر فيه ومسار استدرج إليه عنوة واستهدافا، استدراج ساهمت فيه قيادات الحزب الحالية على مدى العقد الأخير حتى بلغ القاع السياسي وهوت به الأرض، فذاقوا وبال أمرهم. خيارات قيادة الحزب السياسية: الأخطاء القاتلة ليس هناك ما يبرر استمرار القيادتين السابقتين، بنكيران والعثماني وفريقيهما، ولو مرحليا، وإنما هناك ضرورة اتخاذ قرار تاريخي لإدارة دفة الحزب والعمل من أجل كسب قلوب وعقل وثقة المغاربة مرة أخرى والعودة لصدارة المشهد السياسي وقيادة الحكومة بأغلبية كبيرة في جميع المجالس البرلمانية والجهوية والجماعية بتحالف مع حزب فقط، بل إن من الشروط الواقعية والذاتية لتحقيق كل ذلك أن يتبوأ جيل جديد من الصف الثاني قيادة الحزب ليضخ دماء جديدة ونفسا جديدا ووجوها جديدة وروحا فكرية واجتهادا وفهما سياسيا جديدا في الحزب وفي الحياة السياسية. ومن أجل إنجاح هذا التحدي وهذا الرهان السياسي، على القيادة الجديدة للحزب ألا تقدم في خطابها لأي جهة كانتشيكا على بياض، لأن العمل السياسي لا يكون كذلك إلا إذا كان فيه تبادل المنافع والمصالح وفق توازن لا يخل بالأصول والقيم والمبادئ والأسس لدى أي طرف، بما في ذلك المؤسسة الملكية التي هي الأخرى طرف في العمل السياسي تشارك في الحياة السياسية عن طريق رئيس الدولة كما ينص عل ذلك الدستور كسلطة تنفيذية أو عن طريق أحزاب حليفة لها كما كان الشأن دائما منذ أول حكومة غداة الاستقلال برئاسة مبارك البكاي الهبيل عام 1956، بل هناك ظاهرة فريدة من نوعها يجب التخلص منها سياسيا ودستوريا وقانونيا لأنها تمثل انتهاكا صريحا للبناء الديمقراطي ولمبدأ توازن السلط والفصل بينها، وتتمثل في تحيز العديد من المؤسسات العمومية للمؤسسة الملكية وللأحزاب الحليفة لها، كما ظهر جليا في الانتخابات الأخيرة، إضافة إلى دور مستشاري الملك وتدخلهم في شؤون العمل الحكومي والبرلماني والقضائي والأنشطة الاقتصادية في غياب تام لأي سند دستوري وقوانين معلنة تنظم وتحدد مهامهم. إن تحمل المسؤولية الحكومية لعقد كامل والتنظيمية والتشريعية والمحلية والجهوية لقرابة ربع قرن كان كافيا للقيام بتداول على قيادة الحزب بين جيلين من أبنائه، الجيل المؤسس وجيل الصف الثاني المحرر، إضافة إلى أن الظرفية الحالية التي وصل إليها الحزب من خلاف وسوء تفاهم مع السلطة وحلفائها الحزبيين خلال حكومة بنكيران ومن سوء تدبير وتقدير خلال حكومة العثماني تفرض القطع مع الفهم السياسي والمقاربة التي اعتمدتها القيادة القديمة في التعاطي مع جميع الأطراف، بما فيها المؤسسة الملكية، سواء غلبت على العلاقة معها قلة الوضوح والتوتر وفقدان الثقة والتوجس، حالة حكومة بنكيران، أو غلبت عليها الشعور بالدونية والتنازلات غير المحسوبة والتماهي مع رغبات السلطة وأحزابها لحد الابتذال كما كان الحال مع حكومة العثماني. إن الحزب فوق أخطاء قيادته واجتهاداتها الخاطئةبشأن فكرة المشاركة السياسية في غياب الحد الأدنى من الضمانات وبدون حلفاء سياسيين حقيقيين، لذلك نقول إن صعود قيادة جديدة من الصف الثاني ضرورة سياسية ووقتية بالشروط التي سقناها في ثنايا هذه المقالة تدور حول أربعة محاور جوهرية، العلاقة مع الذات والمشروع السياسي (البناء الداخلي) والعلاقة مع الشعب (البناء الجماهيري) والعلاقة مع الملكية وجميع الهيئات الحزبية (التعاقد السياسي) والعلاقة مع حركة التوحيد والإصلاح وباقي التنظيمات الإسلامية والوطنية الأخرى (التحالف الاستراتيجي). قد نختلف أو نتفق حول بعض القرارات والسياسات التي مررت خلال حكومتي عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني، ولكن هناك مواقف ستحفر سلبا في السجل التاريخي لحزب العدالة والتنمية، وقد كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الحزب على مستوى الجبهة الداخلية والعلاقة بالناس والمتعاطفين معه والكتلة الناخبة وأيضا على مستوى ميزان القوة مع المؤسسة الملكية وخصومه من الأحزاب، قرارات اتخذتها حكومة الحزب، تحت رئاستين، لم تدبر بحنكة وبعد نظر، وإنما أكدت حالة التماهي غير المستقيمة بين الحزب والمؤسسة الملكية إلى أبعد حد، كان آخرها توقيع رئيس الحكومة وأمين عام الحزب سعد الدي العثماني اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبعدها قانون القنب الهندي (الكيف) وقبله توقيع خلفه في الحكومة والحزب عبد الإله بنكيران قانون الفرنسة. هذه بعض الأخطاء البارزة التي استدرج إليها الحزب وقادته، إضافة لمواقفهم السلبية من قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة والمحاكمات الجائرة التي عرفها المغرب منذ اندلاع حركة 20 فبراير، وركنوا لهذا الاستدراج بدعوى مصلحة الدولة، نفس الدولة ممثلة في أركانها العميقة وخصومه الحزبيين هي من أجهزت عليه يوم الثامن من سبتمبر ولم تشفع له كل هذه التنازلات التي قدمها خلال عمره القصير، بل غطت على كل إنجازاته الخدمية للساكنة خاصة في المجالس المحلية والجهوية. خصوم الأمس، ربما حلفاء اليوم: السياسة فن جعل المستحيل ممكنا لقد أخطأت القيادتان السابقتان، خاصة ولاية سعد الدين العثماني، في العلاقة مع الأحزاب السياسية في غياب أي تصور حول قواعد وضوابط هذه العلاقة. للأسف، لقد أفقدت الحزب كثيرا من هويته وخصوصيته، وأقحمته في دائرة المتاهة والتبرير غير المنتهي حتى بلغ القاع وفقد البوصلة والاتجاه وفقد حاضنته الاجتماعية وحليفه الحركي وبعض الأحزاب التي كانت ترى فيه في بداية مشواره السياسي، مثل حزبي التقدم والاشتراكية والاستقلال، قوة سياسية واجتماعية ستعيد للحياة السياسية وهجها ونبلها واستقامتها. وتقتضي الحنكة والدهاء السياسي من القيادة الجديدة للحزب في أفق المؤتمر الاستثنائي المزمع عقده نهاية شهر أكتوبر المقبل، والبراغماتية الواقعية تحويل استراتيجية السلطة وحلفائها الحزبيين، التحالف الثلاثي اليوم، من محاولة لإضعاف الحزب مؤسساتيا واجتماعيا وسياسيا وتنظيميا وعزله داخل المشهد السياسي والمؤسسي إلى عمل دؤوب ومستمر بدون ضجة إعلامية وفي صمت من أجل بناء تحالفات جديدة مع الأحزاب التي اضطرت وأجبرت على التموقع في المعارضة، خاصة حزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقوى اليسار الأخرى (قرابة 70مقعدا)، تحالف من شأنه أن يشكل فرصة للحزب بتشكيل فريق نيابي على أساس تحالفي من جهة، ويمثل هذا التحالف رأس حربة في مواجهة التحالف الثلاثي المهيمن على جل المؤسسات المنتخبة الوطنية والمحلية وسياسات حكومته من جهة أخرى. إن حجم الصراع والتناقض بين المجموعة الحزبية الحكومية، بعد إسقاط العدالة والتنمية في الثامن من سبتمبر، أكبر بكثير مما بين العدالة والتنمية وأحزاب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي وفيدرالية اليسار واليسار الموحد، خاصة وأن ما يجمع أحزاب المعارضة هذه، وقد أجبرت على ذلك وفق هندسة السلطة وتخطيطها الانتخابي الذي وضع لرسم المشهد السياسي الآن وللمرحلة القادمة، هو تهميش المعارضة وتقزيم دورها داخل المؤسسة التشريعية والمجالس الجهوية والمحلية، كما ساهم قطب هذا التحالف، التجمع الوطني للأحرار خلال حكومة بنكيران على وجه الخصوص، بخلق عداوة بين العدالة والتنمية وبين الاتحاد الاشتراكي وباقي اليسار وبينه وبين حزب الاستقلال، وساهمت حكومة العثماني في تأزيم العلاقة مع حزب التقدم والاشتراكية، واستفاد منها التحالف الثلاثي اليوم. إن على الأحزاب المستهدفة بحادثة الثامن من سبتمبر المروعة من قبل الأحرار والأصالة والمعاصرة والاستقلال، وقد كانت دائما حليفة للسلطة منذ الاستقلال، في أشكال مختلفة، في مواجهة اليسار في الماضي وللإسلاميين الوافدين الجدد على اللعبة السياسية غداة اندلاع انتفاضة حركة 20 فبراير، عليها أن تدرك بأن الهدف من ذلك، وفي هذه اللحظة التاريخية الدقيقة، هو محو تأثيرها في المجتمع وآثارها بعد حكومتي اليوسفي وبنكيران، وقد باشرت هذه المهمة مع تشكيل حكومة العثماني بشروط السلطة على يد رجل الأعمال عزيزأخنوش ورجاله داخل الحكومة وبدعم من الأحزاب الإدارية في المعارضة. نفس السيناريو يتكرر اليوم لإنهاء عملية المحو السياسي ليس فقط عبر صناديق الاقتراع في الثامن من سبتمبر ولكن أيضا داخل المؤسسات البرلمانية والجهوية والجماعية والغرف، حيث اضطرت الأحزاب "المنبوذة" للذهاب للمعارضة مرغمة، العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية وفيدرالية اليسار والاشتراكي الموحد، وكذلك محو آثارها من ضمير ووجدان الناس. إن الهدف الأكبر هو محو تجربة اليوسفي وبنكيران من ذاكرة المغاربة، بالرغم من كل التحفظات والمآخذ على كثير من الأمور حول التجربتين والرجلين، كما فعلت السلطة بدعم من اليسار مع سنوات الرصاص للذاكرة المغربية الجمعية عبر هيئة الإنصاف والمصالحة، وإغلاق هذا القوس إلى الأبد. تقدم السلطة والتحالف الثلاثي الأغلبي اليوم خدمة سياسية وتاريخية لا تعوض لأحزاب المعارضة، لذلك على قادتها الجدد، وأتمنى أن تتجدد قيادة كل هذه الأحزاب المهزومة والمتورطة فيما لحق بأحزابها من أعطاب وضعف وصراعات وانحرافات بسبب اختيارات سياسية وتنظيمية خاطئة طبعت قراراتها خلال العقدين الأخيرين، لذلك عليها أن تغتنمها وتترفع عن أخطاء جيل القيادة القديمة لتحدد لنفسها مسارا وتصورا وأهدافا جديدة تستوعب الواقع السياسي الجديد وتجمع الموقف المعارض لسياسات السلطة، تجمعه على أرضية مشتركة وتحالف استراتيجي من أجل المغرب والمغاربة وليس من أجل الحسابات الحزبية الأنانية والضيقة أو الصراعات الفكرية والإيديولوجية المفتعلة. على أحزاب المعارضة الضعيفة بمفردها داخل المؤسسات، القوية بتوحد مواقفها وأهدافها وتنسيقها داخل المؤسسات والمجتمع، عليها أن تفشل كل المحاولات الهادفة لتأجيج الصراع بينها وإذكاء الفرقة في صفوف أبنائها، وستزيد هذه الممارسات إذا هي أخذت قرارا نحو التنسيق والتعاون والترابط بينها للدفاع عن مصالحها المشتركة من أجل البقاء ومن أجل الأمل في مغرب أفضل. عليها أن تعلم بأن خصومها السياسيين، وبدعم مباشر وغير مباشر من الدولة العميقة، سيمعنون مستقبلا في إضعافها أكثر وتسفيه شعاراتها التي رفعتها وكسبت بها سياسيا خلال ربع قرن الماضي منذ حكومة اليوسفي حتى حكومة بنكيران. إن عامل الوقت حاسم وحيوي في هذه المرحلة، والأحداث تتسارع داخل التحالف الثلاثي لاستحكام قبضته على جميع المؤسسات العمومية وشبه العمومية والهيئات المنتخبة، في مجلسي النواب والمستشارين، في الأغلبية وفي المعارضة، لذلك دفع هذا التحالف بالحركة الشعبية بكل ألوانها والاتحاد الدستوري وباقي التنظيمات الحزبية الموالية له لتلعب دور المعارضة للتضييق ومناكفة أي تكتل محتمل بين العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية وفيدرالية اليسار والاشتراكي الموحد من جهة، ودعم حكومة أخنوش من جهة أخرى. أمام حزب العدالة والتنمية أيضا فرصة للعمل داخل المؤسسة التشريعية من أجل إقامة علاقة تعاون برلماني مع بعض مكونات الأغلبية الحكومية، خاصة حزب الاستقلال، نظرا لعلاقتهما السابقة ولتاريخ حزب الاستقلال الذي لم يكن دائما وديا مع التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة. "العدالة والتنمية" والمؤسسة الملكية، من التماهي إلى التعاون إن العلاقة بين الملكية والقوى السياسية لا يمكن أن تقوم أو تدوم برغبة ومبادرة من جانب واحد فقط، وإنما يجب على جميع الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية والمجتمعية والمسؤولة عن إدارة الشأن العام والسياسات العمومية، بما فيها المؤسسة الملكية، أن تتحمل كلفة العمل المشترك داخل المؤسسات الدستورية وتحت السقف الدستوري وليس في حاشيته وخارج نصه وبعيدا عن روحه. وقد عرف المغرب منذ أول حكومة بعد الاستقلال عام 1956 نوعان من القوى السياسية ومن الحكومات التي ترأستها على مدى قرابة سبعة عقود حتى اليوم، 2021، في علاقتها بالمؤسسة الملكية وحلقتها الاستشارية الضيقة.النوع الأول، حكومة يتم هندستها واختيار وزرائها بعناية وتوجيه من القصر أو رجالات القصر، يكون الملك رئيس المجلس الوزاري، إضافة إلى وجود مؤسسات موازية للحكومة تضطلع بنفس المهام وتتبع مباشرة للملك لكون من على رأسها يعين بظهير، مما يساهم في إفراغ الحكومة من مهامها ومسؤولياتها الدستورية. إنها حكومة لا تمثل في كل تشكيلتها إرادة الناخبين واختياراتهم ولا مخرجات صناديق الاقتراع، وإنما تمثل إرادة المؤسسة الملكية وتوجهاتها السياسية بما يحفظ لها سلطتها ورقابتها وإدارتها لدواليب الدولة وشؤون المجتمع، ويضمن لها التفوق على باقي المؤسسات والاستمرار في لعب هذا الدور الحيوي بالنسبة لها دون إمكانية مراقبة قراراتها أو إلغائها أو نقضها أو مساءلتها عند اللزوم. النوع الثاني، حكومة أفرزتها السياقات التاريخية والتوازنات السياسية والأحداث الاجتماعية الخارجة عن سيطرة السلطة، حكومات عبد الله إبراهيم وعبد الرحمن اليوسفي وعبد الإله بنكيران، 1958 و1998 و2012 على التوالي، اضطرت الملكية للتكيف معها والانحناء أمام العاصفة واستيعابها، بل إلى اختراقها والالتفاف على ضغوطاتها وقوتها فحولتها لحدث عارض بدون تأثير يذكر على بنية السلطة، ونجحت في تسخيرها في نهاية المطاف أو إفراغها وتوريطها في أحداث أليمة ومؤسفة، انتفاضة الريف عام1958، وذبح الصحافة والطبقة الهشة، عام2000، وقمع حركة 20 فبراير عام 2012، وجعلها أداة بيدها في معادلة معقدة تستعمل فيها الخبرة والحنكة والصبر في مسائل الحكم، كما تلجأ الملكية لأخطر قوة ناعمة بيدها وأخطر سلاح وهو الإغراءات، من مناصب وحظوة ومال في استراتيجية الاستيعاب والاستبعاد التي تتقنها بلا منازع. الاستثناء الحقيقي عبر هذه السنين هي تجربة حكومة عبد الله إبراهيم بالرغم من وجود وزراء محسوبين على ولي العهد آنئذ، الراحل الحسن الثاني، إلى جانب حكومة الظل شكلت غداة تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم كان لها مهمة واحدة، هي إسقاط هذه الحكومة، وكان كذلك إذ لم تعمر أكثر من ثلاثين شهرا فأسقطت عام 1960. لا تخرج الحكومات المتتالية منذ الاستقلال عن هذان النوعان، ومن الأمانة السياسية والعلمية القول إن حكومة بنكيران الثانية التي أجهضت في المهد، 2016، عرفت نفس مصير حكومة عبد الله إبراهيم، مع الفارق العميق بين الرجلين قيمة وقامة، حيث كانت مهمة رئيس التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، التي كلف بها من قبل السلطة غير الراضية عن بنكيران ولا تريده على رأس الحكومة في ولاية ثانية، هي إفشال تشكيل حكومته الثانية بافتعال وتعمد تقديم مقترحات وشروط تعجيزية واستفزازية لمعرفة خصوم الحزب المسبقة بطبيعة ومزاج ونفسية بنكيران، فنجح أخنوش في إسقاط حكومة بنكيران الثانية، كما سبق أن فعلها أحمد رضا كديرة، صديق ومستشار الحسن الثاني مع حكومة عبد الله إبراهيم عام 1960، مما فتح المجال لغريمه سعد الدين العثماني، والذي ما فتئ أن عين رئيسا للحكومة مكان بنكيران حتى بسط له السجاد الأحمر بعد أن قدم التنازلات التي رفضها بنكيران، وشكل حكومته في غضون أسبوع فيما قضى بنكيران ستة أشهر يجوب الأرض شرقا وغربا وكلما اقترب النصاب لتشكيل حكومته ظهرت مناورات جديدة، فنسفت كل جهوده وفرقت من حوله كل القوى السياسية باستثناء حزب التقدم والاشتراكية الذي سيعاقب على فعلته هذه وقتها ثم اليوم بعد استحقاقات 2021، والقادم سيطال المستقبل السياسي والحزبي لأمين عام الحزب نبيل بن عبد الله كما فعل بعبد الإله بنكيران وحميد شباط، ومن قبل بعبد الله إبراهيم وعبد الرحمن اليوسفي. يحتاج الحزب حتما في المرحلة القادمة إلى وجوه جديدة وقراءة جديدة وثقافة سياسية جديدة لبناء علاقة جديدة مع جميع الأطراف بما فيها المؤسسة الملكية والقوى السياسية والمجتمع، قراءة تتمحور حول تحديد ثوابت الحزب الدينية والسياسية وهويته الحضارية وانتمائه للأمة الإسلامية وقضايا الإنسان في العالم، وكذلك صياغة ميثاق سلوك يحدد خطوط وإطار علاقة متوازنة ومسؤولة وواضحة مع المؤسسة الملكية كفاعل سياسي مباشر ومؤثر في السياسات العمومية وسير مؤسسات الدولة وحياة المواطنين، علاقة قائمة على الاحترام المهني والأخلاقي والشراكة في تحمل المسؤولية حسب ما ينص عليه الدستور الذي لا شك يحتاج هو الآخر لمراجعة من أجل تجويده وتطويره نحو الأفضل لتحقيق المزيد من الضمانات والشروط المؤسسة لنظام ديمقراطي وتعاقد سياسي يعكس حقيقة القوى السياسية الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية المغربية وفي الواقع المغربي تعكس نبض الشارع، وليس قوى تفرخها صناديق اقتراع تخللتها خروقات وتجاوزات غير مسبوقة في تاريخنا السياسي والانتخابي المعاصر وصلت حد القتل والتهديد بالقتل وشراء الذمم والتجوال الحزبي والابتزاز. لقد سبق هذا الواقع تجربة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) في انتخابات 1963 وحصدت 69 مقعدا مقابل 41 مقعدا لحزب الاستقلال و28 مقعدا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتدخلت المحكمة العليا فألغت فوز مرشحين من حزب الاستقلال والاتحاد الوطني لتضاف مقاعدهم ل "الفديك"، إضافة لمقاعد المستقلين (6 مقاعد)، ليفوز أحمد رضا كديرة، مستشار الملك ومؤسس )الفديك(، بأغلبية داخل البرلمان وشكلت الحكومة برئاسة أحمد باحنيني، رجل القصر، لكن سرعان ما تم حل البرلمان بعد أحداث الدارالبيضاء الدامية عام 1965، وبذلك انتهت حكومة باحنيني وأعلن الملك الحسن الثاني حالة الاستثناء في نفس السنة وتولى حكم البلاد لوحده لخمس سنوات من دون برلمان ولا حياة سياسية، أدخلت البلاد في دوامة من العنف والانقلابات العسكرية والصراعات المسلحة بين أجنحة اليسار الثورية والملكية تركت جرحا غائرا في الذاكرة المغربية وفي جسد الملكية حتى اليوم. كان الملك الحسن الثاني يعلم يقينا بأن نتائج انتخابات 1963 لا تعكس حقيقة الوضع السياسي بالبلاد ولا تمثل القوى الحية المعبرة عن نبض الشعب المغربي ولا شرعية الناخبين، لذلك كان لابد بالنسبة له إنهاء تجربة (الفديك) الفاشلة وحل المؤسسات التي أفرزتها صناديق غير تمثيلية وشل الحياة السياسية من أجل مواجهة المعارضة عبر آلة القمع والعنف وليس عبر الخيار الديمقراطي والاختيار الحر والنزيه، خاصة اليسارية الممثلة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وتنظيمات 23 مارس وإلى الأمام والقاعديين. انتظرت الدولة قرابة أربعة عقود (1999)، بعد وفاة الحسن الثاني، لتعترف بفشل خيار القمع والعنف الذي وقع في تلك المرحلة السوداء وأدانته على لسان أعلى سلطة، الملك محمد السادس بعد توليه الحكم، وحاكمت سنوات الرصاص والجمر في تقرير نشرته هيئة الإنصاف والمصالحة، فهل نحتاج اليوم لستة عقود لتعترف الدولة بأن ما جرى يوم الثامن من سبتمبر 2021، بعد قرابة ستة عقود من تجربة (الفديك) المؤسفة وما تلاها من مصائب أدخلت البلاد في أتون القمع والجريمة السياسية، لتعترف الدولة بأنه كان عليه ألا يقع، وبأنه كان على الملكية أن تختار وتراهن على التعايش والتعاون مع القوى السياسية الحية الحقيقية وتساهم من جانبها في تطوير التجربة الديمقراطية نحو الأفضل، كما وعدت بذلك غداة الاستقلال، وفسح المجال لممثلي الأمة الحقيقيين بأن يتحملوا المسؤولية بدون تدخل أو ضغوط على الحكومة والبرلمان ووجود قضاء مستقل يحمي الحقوق والحريات وأجهزة أمنية وعسكرية واستخباراتية في خدمة الدولة والمجتمع. يتأكد اليوم، وبعد عقود من المراوحة الملكية وسياسية الباب الدوار والأحداث الأليمة بأنه ليس أمامها سوى أن تكون ملكية دستورية برلمانية لتنهي حالة الاحتقان وتبدد الشك القائم بينها وبين القوى السياسية الحقيقية منذ سنين وتتصالح مع ماضيها لتضمن مستقبلها، وتتصالح مع كل القوى التي وقع عليها الظلم خلال العقود الماضية ولازال، يسارية أو إسلامية أو مستقلة، في ظل نظام سياسي يحتكم للدستور والقانون والمؤسسات التي تعبر عن إرادة الشعب، نظام تسود فيه الملكية ولا تحكم، نظام تقوده حكومة منتخبة معبرةعن إرادة الشعب وتخرج من رحم المجتمع وتعمل على تحقيق آماله وانتظاراته وتحفظ للمجتمع ولمؤسسات الدولة دورهما ومكانتهما. إن استمرار الملكية في التوجس والتشكيك في نوايا الإسلاميين والوطنيين، خاصة من يسعون ويريدون حقيقة إصلاح الأقوياء لا الضعفاء، إصلاح الشراكة لا التماهي، في إطار مؤسسات ودستور وقوانين تضمن استقلالية قرار مؤسسة الحكومة ومسؤوليتها أمام نواب الأمة، واستقلال المؤسسة التشريعية والسلطة القضائية، وتضمن احترام إرادة الشعب وحياد الإدارة العمومية بكل اختصاصاتها أمام العملية السياسية والانتخابية دون تدخل أو محاباة أو استغلال النفوذ لفائدة هذه المؤسسة أو تلك. إنه أمام أبناء العدالة والتنمية اليوم، وكل القوى الإسلامية والوطنية،تحت قيادة جديدة من الصف الثاني فرصة تاريخية لتحقيق أهداف عدة، من جهة إعادةتنظيماتهالمكانتها التي تليق بأصولها وهويتها الإسلامية وبدورها الوطني، ومن جهة أخرى المصالحة مع الشعب ومع قواعدها واتخاذ سبيل الحق والاستقامة والعدلوالصدق مع جميع المؤسسات منهجا ومسلكا استراتيجيا، بما فيها المؤسسة الملكية، كطرف وفاعل في الحياة السياسية بدون تماه معها، وتبديد كل الشكوك والتوجس معها وباقي المؤسسات الحزبية المناوئة لحياة سياسية سليمة، كل ذلك من خلال رؤية سياسية جديدة لحزب العدالة والتنمية تتأسس على مرجعيته الدينية ومشروعيته الشعبيةمن غير أن يعني ذلك انغلاقه على نفسه أو الركون للظلم والفساد والتعايش معهما، كما أنه عليه أن يعتز ويتفخر بكونه إسلاميا منفتحا على الآخر بدون أي عقدة أو تعال، وهذا هو اختياره الاستراتيجي وعمقه الحضاري ومبرر وجوده ومكانه الطبيعي. * 30 سبتمبر 2021 * أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري