(الجزء الأول) (1) إلى الذين نسوا أو تناسوا سياسة الدم والرعب التي انتهجها النظام، تحت حكم الحسن الثاني، قرابة الأربعة عقود الأخيرة من القرن الماضي ضد معارضيه وأسرهم، وإلى الذين يراهنون اليوم عبثا، في زمن الثورات والغضب الشعبي، على "توبة" النظام ويروجون ل "إيمانه" بدولة المؤسسات والقانون وحياده السياسي ووقوفه على نفس المسافة من جميع الأحزاب السياسية، إلى هؤلاء جميعا أهدي هذه الشهادة المؤلمة للمناضل الراحل مومن الديوري رحمه الله، والتي تضمنها كتابه "مرافعة ضد مستبد"، يصف فيها مشاهد التعذيب الرهيب في سجن "الباستيل" المغربي، رمز الطغيان والظلم، والمعروف باسم "دار المقري". يقول سي مومن رحمه الله: "خيل إلى أنني في قاع بئر، طرقت مسامعي تنهدات مستمرة، وصرخات متأوهة وسعال، وأصوات نساء ورجال وأطفال. كنت مستعدا أن أدفع أي ثمن لقاء أن أعرف ما يحدث حولي". ثم يضيف الراحل، بعد أن رفع الحارس العصابة عن عينيه: "غلالة سوداء تموجت بضع لحظات أمام عيني، بدا لي أنني أرى كائنات بشرية معلقة من أرجلها في السقف ورأسها إلى الأسفل، فكرت أن عيني قد غشيتا لانتقالهما من الظلمة إلى النور. خلال دقيقة ستعود رؤيتي واضحة، وسأجد هؤلاء الأشخاص جلوسا أو وقوفا. للأسف، لم يكن ما رأيت خطأ أو خديعة، فالصور حقيقية فعلا، جد حقيقية، رجال ونساء مقيدون ومعلقون في السقف بكلاب حديد ربط إلى حبل، وعلى الأرض أطفال يرفعون رؤوسهم نحو أمهاتهم وآبائهم، وهم ينتحبون وقد أضناهم التعب والبكاء. وجوههم الصغيرة متسخة بالدموع، والمخاط يسيل من أنوفهم. لا عمر لهذه الكائنات الصغيرة التي بدت قريبة من الاحتضار لهؤلاء الأطفال الراكعين أو الجالسين القرفصاء في برك من الدم والقيء". لقد أدرك المناضل الراحل سي مومن بعد خروجه من السجن استحالة مقاومة الحسن الثاني داخل ملعبه، فقرر في أكتوبر من عام 1971 مغادرة المغرب مباشرة بعد انقلاب الصخيرات. آمن الراحل، وهو في فرنسا سنة 1972، أن الإسلام هو الحل للقضية المغربية، واضعا بذلك حدا لمسار فكري طويل راهن خلاله على الفكر الاشتراكي. "لو قدر لي أن أستعيد عافيتي، لكتبت كتابا حول إفلاس النخبة". بهذه العبارة المريرة تحدث الراحل مومن الديوري وهو على فراش المرض لصديق عزيز أياما قليلة قبل أن يغادر هذه الدنيا بظلمها وظلمتها. كل المقربين من سي مومن رحمه الله يؤكدون أن الرجل مات وفي قلبه غصة اتجاه النخبة المغربية، خاصة الاتحاديين منهم، الذين قبلوا أن يدخلوا تناوبا مهزوزا وفاقدا لشروط التناوب الحقيقي قبل أن يجري الانقلاب عليه بسهولة عام 2002، حين عين القصر واحدا من "رجاله"، إدريس جطو، وزيرا أولا مكان عبد الرحمن اليوسفي، رجل انتقال الحكم من الحسن الثاني إلى ولي عهده عام 1999، الذي لم يجد من رد على ذلك سوى عبارة يتيمة تعبر عن شعوره بغدر النظام: "لقد تم الانقلاب على المنهجية الديمقراطية"، عبارة أسدل بها النظام الستار على تاريخ اليسار المغربي، حين قبل قادته أن يكونوا مجرد وزراء في حكومة جطو التكنوقراطي عام 2002، ثم حليفا، بعد ذلك، لحزب الدولة العميقة، بقايا اليسار، عشية استحقاقات السابع من أكتوبر 2016. لقد أصبح اليسار مجرد قطع غيار مستعمل لصيانة ما أفسده النظام وأحدثه من أعطاب في مؤسسات الدولة أو أداة لمناكفة خصومه السياسيين، عامة الإسلاميين، العدل والإحسان خاصة، الخصم المشترك بين المخزن واليسار والطبقة الأوليجارشية والليبرالية المتوحشة. (2) ليس من الصعب، بالنسبة للباحث الأكاديمي والسياسي، على حد سواء، إثبات دور مباشر للمؤسسة الملكية في ترتيب المشهد السياسي بالمغرب بما يضمن مصالحها واستمراريتها، على النحو الذي تريد، بالرغم من كل الأعطاب البنيوية والظرفية التي تعصف بها، خاصة بعد الاضطرابات التي هزت جل الدول العربية منذ 2011، وأسفرت عن سقوط أنظمة مستبدة، في تونس ومصر وليبيا واليمن، أو أدخلتها، إضافة إلى دول أخرى، في نفق لم تخرج منه بعد بسبب أحداث عظيمة قوضت مؤسسات وأركان الدولة وأغرت قوى إقليمية ودولية غربية بالتدخل العسكري في الشام والعراق تمهيدا وطمعا في بسط هيمنتها، من جديد بالنسبة للبعض، مثل روسيا، ومرة أخرى مثل فرنسا وإنجلترا وأمريكا، على عالم عربي مزقته الصراعات السياسية وأنهكه الفساد وأضعفه الاستبداد. إن مجال السياسة ليس مجال الأدلة المخبرية، وإنما هو مجال رصد وتحليل وتفسير السلوك السياسي للفاعلين السياسيين، بما فيهم السلطة الحاكمة، بناء على آليات ومناهج علمية تناولتها دراسات الفكر السياسي وعلم الاجتماع السياسي، وتأكدت عبر قراءة منهجية ومنطقية لنتائج الفعل السياسي. ويؤكد الواقع والشواهد بأن هناك صلة بيولوجية بين حزب "الأصالة والمعاصرة" والنظام، إذ يكفي أن يكون مستشار الملك فؤاد عالي الهمة هو مؤسس "الحركة لكل الديمقراطيين"، ثم حزب "الأصالة والمعاصرة" فيما بعد، ليصبح حزب الأغلبية في البرلمان عام 2010، دون أن يخوض أي انتخابات تشريعية من قبل. يكفي ذلك للقول إن هذا الحزب هو صنيعة القصر، مثله مثل صنائع أخرى ك "الحركة الشعبية"، أسسها واحد من رجالات المخزن والحماية الفرنسية، المحجوب أحرضان، رفقة واحد من رجالات حركة المقاومة وجيش التحرير الأقرب إلى القصر عبد الكريم الخطيب، وذلك لمواجهة نفوذ حزب الاستقلال والاتحاديين فيما بعد قبل الانشقاق الذين قادته ما يسمى ب "مجموعة الرباط" في ديسمبر عام 1975 بقيادة عبد الرحيم بوعبيد وعمر بن جلون ومحمد اليازغي وآخرون. هناك أيضا تجربة "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية"، "الفديك"، أسسها مستشار الحسن الثاني، أحمد رضا كديرة، في مارس عام 1963، والخطيب وأحرضان ودور النقابي اليساري المولد المحجوب بن الصديق، زعيم "المافيا" حسب تعبير عمر بن جلون في كتاب يحمل نفس العنوان وأحد من مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في دعم الجبهة لمواجهة اليسار، الممتد إيديولوجيا وأهدافا عبر القارات الثالثة، إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يسار كان من أبرز وجوهه المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم والفقيه البصري ومومن الديوري وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي وآخرون، شخصيات سيلعب جلها أدوارا سياسية لصالح الملكية فيما بعد، وذلك في أحلك وأصعب لحظاتها التاريخية المضطربة، ابتداء من عودة الأسرة العلوية من المنفى عام 1955 حتى "حكومة التوافق" عام 1998، وأيضا في نسف حركة 20 فبراير من الداخل، اليسار الموحد تحديدا، وتقارب "البام" والاتحاد الاشتراكي عشية الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها في السابع من أكتوبر 2016. لم يكتف اليسار بتغذية وتطعيم الحزب الملكي بالكوادر فقط، قواعد وقيادات، وإنما وضع حزب الوردة كله، تاريخه وشرعيته، في خدمة حزب "الجرار" ومشروعه المخزني التحكمي، كأن 20 فبراير وحركات الاحتجاج الغاضبة لم تمر بديارنا، وكأن سنن الاجتماع البشري لا تنطبق على مجتمعنا. كما لم يكن للملكية أن تنجح في تسويق تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة لولا الدور الذي لعبه كوادر اليسار في تبييض فترة حكم الحسن الثاني خلال سنوات الرصاص،1961-1999، في حق ضحايا التعذيب الممنهج والاغتيال والنفي والسجن خارج سلطة القانون وفي غياب ضمانات المحاكمة العدالة. لم يكن الهدف من هذه المبادرة السياسية المؤلمة هو المصالحة مع التاريخ وجبر الذاكرة المغربية ومعاقبة المجرمين، وعلى رأسهم النظام و"خدامه"، ولكن كان الهدف أولا تطبيع علاقة المغاربة، أفرادا وأحزابا، مع جلاديهم مقابل مبلغ مهين لا يعوض يوما واحدا في السجن أو المنفى ولا لحظة حزن على عزيز تم اغتياله أو تعذيبه وسجنه بدم بارد، ثم ثانيا إقناعهم، وبتواطؤ سافر بين النظام وجل القوى السياسية، خاصة شخصيات من قوى اليسار من مختلف المواقع الحزبية وغير الحزبية، بأن العهد الجديد ليس هو عهد الحسن الثاني، وبأن هناك قطيعة تامة ومفاصلة جذرية بين العهدين. لذلك سمي عهد محمد السادس ب "العهد الجديد" وكانت الإجراءات الأولى لهذا العهد هي تصفية تركة الحسن الثاني من رجالاته وحلفائه في سياق شرعنته وتسويقه. كانت فاتحة التصفية خادم العرش الأول إدريس البصري وآخرها، وليس أخيرها، رجل المرحلة الصعبة وانتقال الحكم بين ملكين اليساري عبد الرحمن اليوسفي. لقد كانت هذه الهيئة في حقيقة الأمر عبارة عن عملية جراحية لذاكرة المغاربة للفصل بين مرحلتين تاريخيتين، مرحلة طبعتها سياسات القمع والاغتيال والظلم والفقر، ومرحلة طبعتها سياسات التضليل وتشويه الوعي ومسخ الهوية الدينية والوطنية وموت الأحزاب والسياسة والعمل السياسي والأخلاق. لم تعد الأجيال الحديثة من المغاربة، أجيال ما بعد "المسيرة الخضراء" 1975، تتذكر شيئا عن سنوات الجمر، لأن النظام أحدث شرخا، بل وتلفا في الذاكرة المغربية الجمعية وكأن المغرب والمغاربة ولدوا يوم 23 يوليو 1999، وكأن الجرائم التي ارتكبت في حق المناضلين خلال فترة حكم الحسن الثاني، وقبلها، جرائم أدخلت اليتم والحزن والرعب والفقر في أغلب البيوت المغربية، كانت مجرد صراع حول السلطة، كما جاء في تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة وورد على لسان أحمد حرزني، يساري آخر الذي سيخلف رفيقه الراحل اليساري إدريس بنزكري في خدمة الملكية. هناك كيانات سياسية اصطنعها النظام فيما بعد لنفس الغرض، خلط الأوراق داخل المشهد السياسي واصطناع "زعامات" للخروج من أزماته وصراعاته مع اليسار، من بينها التجمع الوطني للأحرار الذي أسسه أحمد عصمان عام 1978، صهر الملك الحسن الثاني، من نواب ال "بدون"، من ليس لهم انتماء سياسي ولا هوية فكرية وثقافية ولا شرعية تاريخية ودينية، والذين جاءت بهم انتخابات 77 التشريعية، ليصبح وزيرا أولا بدون أي تاريخ سياسي ونضالي يذكر. كذلك جاءت تجربة المعطي بوعبيد، يساري سابق ومن قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كان وزيرا في حكومة الراحل مولاي عبد إبراهيم، وقلده الحسن الثاني فيما بعد منصب وزير العدل ثم عينه وزيرا أولا عام 1979، ليغادر هو كذلك المنصب، كما غادره عصمان من قبل، بأمر من الملك، ويؤسس الاتحاد الدستوري عام 1983 بإيعاز من القصر. لقد أصبح النظام، إلى جانب صناعة الأحداث، يساهم في صناعة الأحزاب و"الزعامات" الحزبية والسياسية والنقابية والحقوقية والإعلامية والثقافية، سواء خلال سنوات الرصاص، في عهد الحسن الثاني، أمثال المحجوبي أحرضان وعبد الكبير الخطيب والمحجوب بن الصديق و"البوعبيدين"، عبد الرحيم والمعطي، والنوبير الأموي وأحمد عصمان وأرسلان الجديدي ومحند لعنصر ومحمود عرشان...، أو خلال ما يسمى بالعهد الجديد، نبيل بنعبد الله وإدريس لشكر ومحمد شباط وصلاح الدين مزوار ومصطفى الباكوري وحكيم بنشماس وإلياس العماري وعبد العزيز الرباح ومصطفى الرميد وسعد الدين العثماني... إنه من السهل الملاحظة بأن شخصيات من اليسار قد لعبت أدوارا كبيرة وخطيرة في تاريخ المغرب السياسي المعاصر لصالح ملكية تنفيذية مطلقة منذ فجر الاستقلال التفاوضي، أدوارا فوتت على المغرب والمغاربة فرص التغيير في بنية نظام مناهض للحرية والكرامة والمواطنة والاستقلال والعدالة والديمقراطية، وعززت سلطات الملكية بالخبرة والعلاقات لتتحول مبكرا نحو ملكية مهيمنة على جميع مؤسسات الدولة ومقدراتها، وبموجب الدستور، دستور 1962، خاصة الفصل (19)، فصل قال عنه فقهاء الدستور بأنه دستور في رحم دستور، كما كانت ولازالت هذه الشخصيات اليسارية عبارة عن صمام أمان و"حامية للعرش"، لدرجة الانسجام واستنساخ عقلية وثقافة المخزن، حتى أصبح اليسار ملكيا أكثر من الملك، بل أصبح يرى في الإصلاح السياسي والدستوري ليس تهديدا للملكية فقط، وإنما يرى فيه تهديدا لمصالحه ومواقعه التي أضحت، هي الأخرى مثل الملكية، يتوارثها الأبناء عن الآباء. وأول من برز من هذه الشخصيات اليسارية في خدمة الملكية، منذ فجر الاستقلال التفاوضي، هو المهدي بن بركة ثم عبد الرحيم بوعبيد من بعده، ثم عبد الرحمن اليوسفي ومحمد اليازغي وفتح الله أولعلو وخالد عليوة وأحمد الحليمي وعبد الواحد الراضي وإدريس لشكر والحبيب المالكي وآخرون، كما سبق أن تسلل من اليسار كوادر، ترعرعت في صفوفه، عبد الهادي بوطالب والمعطي بوعبيد وعبد اللطيف السملالي والمحجوب بن الصديق، لتصبح من خدام الملكية التنفيذية، مستشارا للملك مثل بوطالب، والمعطي بوعبيد، وزيرا للعدل ووزيرا أولا، وبن الصديق، "زعيما" نقابيا مواليا للقصر حتى وفاته. أما اليوم، فنجد هذه الكوادر من قيادات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ووزارة الداخلية والأمن الوطني، وأيضا في دهاليز الديوان الملكي، مثل عبد اللطيف المنوني وعمر عزيمان وآخرون، وفي المجال الحقوقي والمدني والإعلامي أمثال إدريس اليزمي وإبراهيم الصبار وإدريس بنزكري وأحمد حرزني. يتقن اليسار المغربي فن التشكل على نحو متفرد ويتمظهر في مختلف الهيئات والهويات الفكرية والسياسية والإيديولوجية بما يتوافق مع أهداف ملكية يغريها، ولو شكليا، شعارات اليسار البراقة، "الكتلة التاريخية" و"اليسار الجديد" و"البديل الديمقراطي" و"الانتقال الديمقراطي" و"حكومة التناوب" و"حكومة التوافق" و"فيدرالية اليسار" و"المنهجية الديمقراطية"، ويستمتع الطرفان، الملكية واليسار، بهذه الأدوار النفعية المتبادلة، على الأقل في مرحلة ما، حتى ظهور "الحركات الإسلامية" وإكراهات الثورات العربية التي وضعت تيارات الإسلام السياسي والجهادي في واجهة الأحداث العربية والدولية، بل في مركز السلطة في جل الدول التي سقطت فيها أنظمة الاستبداد، ولو مؤقتا. تدرك الملكية جيدا بأن زمن اليسار قد انتهى، رغم ضرورة بقائه في المشهد السياسي كزينة ضمن تأثيث سياسي يعتبر من لوازم "الديمقراطية الحسنية" وكتوازن مع "الإسلاميين" واحتياط تكتيكي توظفه في أزماتها ولعبتها الانتخابية كقطع غيار مستعمل. وتبقي الملكية كل الكيانات السياسية، ولو كانت في حالة موت سريري، كما كان شأن حركة د. الخطيب التي احتفظ بها في "مشرحة الأحزاب" منذ عام 1967، غداة حالة الاستثناء عام 1965، ليخرجها وينعشها عام 1995، عبر تحالف مع بعض تيارات الحركة الإسلامية، ويمنحها هوية إسلامية على أساس الثوابت الدستورية، الملكية وإمارة المؤمنين ونبذ العنف ومغربية الصحراء، لتصبح فيما بعد حزب "العدالة والتنمية" الذي يقود اليوم حكومة ما بعد 20 فبراير 2011. هذا الإجراء "البعثي"، أي بعث الكيانات السياسية من رماد، أفرادا وجماعات، من حالة السبات الشتوي أو الموت السريري إلى حالة الإنعاش والنقاهة، ستسلكه الملكية مع "اليسار الجديد" كما فعلت في الماضي، غداة الاستقلال التفاوضي، وذلك في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عام 1975 تحديدا، بشأن عملية "الفصل السيامي" بين أبناء "يسار الخيار الثوري"، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة عبد الله إبراهيم، رئيس أول حكومة وطنية عامي 1958-1960، أسقطها ولي العهد وقتئذ الحسن بن محمد عام 1960، وأبناء "يسار الخيار السياسي"، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة عبد الرحيم بوعبيد ثم عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول لحكومة "الانتقال الديمقراطي" و"التناوب التوافقي" أو ما يمكن تسميته بحكومة "القسم"، توافق وقسم تنازل بموجبهما اليوسفي عن محاسبة المفسدين، آكلي المال العام وجلادي سنوات الجمر، والتزم بموجبهما الحسن الثاني بضمان استقرار حكومة اليوسفي وحصولها على تأييد القصر و"خدامه" داخل قبة البرلمان وقطاع المال والأعمال. لقد كانت صفقة سياسية على حساب الشعب المغربي الفقير والمظلوم، كانت صفقة ضمن بها الحسن الثاني في حقيقة الأمر انتقالا سلسا ومضمونا للحكم إلى ولي العهد، دون أن تدفع الملكية أي ثمن سياسي يحول الملكية على الأقل إلى مؤسسة تسود ولا تحكم لفائدة ممثلي الشعب مقابل هذه الخدمة التاريخية التي قدمها لها اليسار ضمن سلسلة من الخدمات. *أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية