تعتبر انتخابات الثامن من شتنبر 2021، منعطفا استثنائيا في تاريخ المغرب، سيضع البلاد في مسار مختلف، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العمل السياسي والحزبي، عنوانه الكبير: تنميط الأحزاب، وترسيم حدود علاقتها بالسلطة، ووضع نهاية لتجربة "الإسلاميين" في إدارة الشأن العام، وإعادة عقارب الساعة إلى مراحل البداية لحزب العدالة والتنمية. إن الهزيمة القاسية والمفاجئة التي مُني بها حزب العدالة والتنمية، كانت صادمة ليس فقط لقيادة الحزب وأعضائه، بل لأغلب المتابعين لمسيرته، لأنها لم تكن متوقعة بهذا الشكل، حتى عند أكثر المتشائمين، صحيح أن جل التوقعات كانت تذهب في اتجاه خسارة الحزب لموقع الصدارة، لكن أن يتراجع إلى الرتبة الثامنة، ب13 مقعدا، بعدما كان يحتل في آخر استحقاق انتخابي سنة 2016 الرتبة الأولى ب125 مقعدا برلمانيا..ِ !! وهكذا، شكلت هذه النتائج "الكارثية"، صدمة كبيرة لدى قيادة حزب المصباح، مما دفع الأمانة العامة إلى تقديم استقالتها، وخروج بعض القياديين في الحزب، بتصريحات تشكك في صحة هذه النتائج، وإن كان ذلك بشكل مبطن، بالقول إن ما وقع ليلة الثامن من شتنبر غير مفهوم ولا يجدون له تفسيرا، مع التصريح بأن الانتخابات شابتها تجاوزات وخروقات، والاحتجاج على عدم تسليم محاضر فرز الأصوات.. ومعظم المحللين لنتائج هذه الانتخابات الاستثنائية، شبه متفقين على أن الترتيب الذي حصل عليه حزب المصباح، كان مفاجئا، لكنهم مختلفين حول الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج، بحسب القناعات الفكرية والمرتكزات المنهجية والتقديرات السياسية، لكن على العموم، يمكن تقسيم هذه الأسباب، إلى أسباب موضوعية وأخرى ذاتية: * الأسباب الموضوعية: تنقسم بدورها إلى قسمين: أسباب داخلية، وأسباب خارجية. – الأسباب الداخلية: تتمثل أساسا في الظرفية السياسة والاقتصادية والاجتماعية الصعبة، التي فرضتها القرارات والإجراءات المتخذة في مواجهة "الجائحة"، والتي أرخت بظلالها على الوضع العام، وبشكل خاص آثارها السلبية على ظروف عيش المواطنين، وزاد من تأزمها، الاختيارات والقرارات غير الشعبية للحكومة الحالية، بقيادة حزب العدالة والتنمية، والحصيلة الهزيلة لعشر سنوات من التدبير الحكومي، والتي فجرت سخطا واسعا في المجتمع، كان له تأثير واضح على تراجع شعبية الحزب، حتى وسط كتلته الناخبة. كما لا يمكن أن نغفل تأثيرات الهندسة الانتخابية، والقوانين الانتخابية، والحملة الانتخابية وما شابها من استخدام المال الحرام، والحياد السلبي للسلطة، إضافة إلى تسجيل تجاوزات وخروقات في عدد من الدوائر والمكاتب الانتخابية، ناهيك عن الخلط والإرباك الذي وقع فيه أغلب الناخبين، بسبب تنظيم الانتخابات البرلمانية والجماعية والجهوية في تاريخ واحد، في النتائج المعلن عنها. لكن، بعض المحللين أرجعوا السقوط الحر لحزب العدالة والتنمية، إلى المراتب الدنيا، جاء بسبب ما يعرف ب "التصويت العقابي"، بمعنى أن الناخبين الذين كانوا قد وضعوا ثقتهم في الحزب في انتخابات 2011 و2016، عاقبوه بالتصويت ضده، لصالح أحزاب أخرى، وهذا التفسير في تقديري غير دقيق، لأننا لسنا أمام عملية انتخابية، تشبه ما هو موجود في الدول الديمقراطية، كما أن الناخب المغربي لا يملك ثقافة سياسية راسخة، تمكنه من الاختيار الحر لمرشحيه، بعيدا عن إغراءات المال والجاه والسلطة.. هذا من جهة، أما من جهة اخرى، فإنه لو فرضنا جدلا أن هذا التفسير صحيح، فلماذا لم يعاقب الناخب المغربي إلا الحزب الذي يرأس الحكومة، ولم يعاقب الأحزاب المشاركة له بحقائب وزارية وازنة، مثل حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي جاء في الرتبة الأولى؟؟ أما عن الأسباب الخارجية: يمكن إجمالها في السياق الإقليمي والدولي، فمنذ إجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي التي حملت التيار الإسلامي إلى الحكم في عدد من الدول العربية، ابتداء من مصر إلى تونس، كان الهدف هو إبعاد الإسلاميين عن السلطة، وكان هذا الهدف بإيعاز وتشجيع القوى الغربية، وتمويل وتخطيط بعض الأنظمة العربية، التي كانت تخشى من انتقال موجات الربيع الديمقراطي إلى بلدانها. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار ما حصل في 8 شتنبر الجاري، ما هو إلا حلقة في مسلسل الإقصاء الممنهج للإسلاميين، وإبعادهم عن شؤون الحكم، وتحجيم دورهم بشكل قسري في الحياة السياسية، لإعادتهم إلى الوضع الذي كانوا عليه قبل اندلاع ما عرف بثورات الربيع العربي، ولسوء حظ الإسلاميين، أن المناخ الدولي لا يصب في صالحهم، وأن الدول الغربية الكبرى، التي كانت تتبنى الدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبحت غير معنية بذلك، بل إنها لم تعد تخفي دعمها للأنظمة الاستبدادية والسلطوية. * فيما يخص الأسباب الذاتية: فهذه الأسباب تتجلى أساسا في تصدع حزب العدالة والتنمية، بعد تفجر الخلافات التنظيمية والسياسية داخله، ما أدى إلى بروز تياران، أولا ما سمي بتيار الاستوزار التابع للأمين العام الحالي سعد الدين العثماني، وتيار "الزعيم" عبد الإله ابن كيران، الذي استُبعد من إدارة الحزب والحكومة، بعد نجاح الأمين العام لحزب التجمع الوطني، في إحداث "بلوكاج" أثناء مشاورات تشكيل الحكومة، امتد إلى حوالي 6 أشهر، عقب انتخابات 2016، التي تصدّر نتائجها حزب المصباح، وللخروج من هذه الأزمة، تم إعفاء ابن كيران من مهمة تشكيل الحكومة، في مارس 2017، وكان لهذا التحول في علاقة السلطة بالحزب، أثر كبير في إحداث شرخ داخله، وإن لم يصل إلى مستوى القطيعة أو الانشقاق، لكنه أضعف الحزب، وجعله غير قادر على التماسك والثبات على مواقفه ومبادئه، والوفاء بالتزاماته أمام قاعدته الجماهيرية، ودخل المعركة الانتخابية، وهو منقسم تنظيميا وضعيف سياسيا، وهذا ما أكده ذ. بلال التليدي، في حديث صحفي، قائلا: "العوامل الداخلية للحزب، في مقدمة الأسباب التي أدت إلى خسارته.." مضيفا: " الحزب دخل مفككا إلى المعركة الانتخابية، حيث هناك شرخ قيادي كبير بين العثماني وابن كيران..". ومن تداعيات هذا التصدع الذي أصاب تماسك الحزب، تنظيميا وفكريا وسياسيا، امتناع الأمين العام السابق عبد الإله ابن كيران عن الدعوة إلى التصويت على الحزب، خلال الحملة الانتخابية، وكان واضحا أنه غير راض عن أداء الحزب خلال الولاية الحالية، حتى وهو يهاجم وينتقد غريمه المرشح فوق العادة، في خرجة إعلامية يتيمة، كانت مجرد صيحة في واد سحيق، ولذلك إذا نظرنا إلى الجزء الفارغ من الكأس في تلك الخرجة، فهو أنها أعطت إشارة ضمنية لأنصار "الزعيم"، بالامتناع عن التصويت على الحزب، وليس مستبعدا أن يكون عدد غير قليل من أعضاء حركة التوحيد والإصلاح، قد صوت ضد الحزب أو على الأقل لم يصوت له، وأيضا مقاطعة بعض من الفصائل الإسلامية الأخرى التي كانت تصوّت للحزب (وإن كانت لا تعلن عن ذلك)، وعلى رأسها جماعة العدل والإحسان وجزء من التيار السلفي. دون أن ننسى الحاضنة الشعبية والكتلة الناخبة التي كانت تصوّت للحزب، أصيبت بخيبة أمل بسبب المواقف المثيرة للجدل التي اتخذها، والمناقضة لمرجعية الحزب، من أهمها القبول بفرنسة التعليم(قانون الإطار)، وتقنين استخدام مخدر الشيرا والتطبيع.. وهذا ما يفسر، أنه بمجرد إعلان النتائج الكارثية التي حصل عليها الحزب في الانتخابات، مطالبة ابن كيران الأمين العام الحالي سعد الدين العثماني، بالاستقالة باعتباره المسؤول المباشر عن التراجع غير المسبوق في مكانة الحزب داخل الخريطة السياسية، وخروج عدد من الأعضاء الموالين لتيار "الزعيم"، ينادون بعودة ابن كيران إلى قيادة الحزب، ودعوة المجلس الوطني إلى عقد اجتماع استثنائي، يوم 18 شتنبر الجاري، من جهة، ومن جهة أخرى، دعوة الأمانة العامة للحزب إلى التعجيل بعقد مؤتمر وطني استثنائي، من أجل " تقييم شامل للاستحقاقات الانتخابية، واتخاذ القرارات المناسبة". وبدون شك فإن المؤتمر القادم سيكون حاسما فيما سيتخذه من قرارات، وتقديم إجابات واضحة على الأسئلة التي فرضها التراجع الكبير للحزب، ومناقشة أسباب وتداعيات ذلك، على مستقبل الحزب، لكن يبقى السؤال المحوري هو: هل سيعيد المؤتمر المقبل انتخاب ابن كيران أمينا عاما مرة أخرى؟ وفي حالة وقوع ذلك، هل سيتمكن ابن كيران فعلا من إعادة الحزب إلى قوته التنظيمية ومركزه السياسي وحاضنته الشعبية؟ أظن أنه من السابق لأوانه التكهن بمستقبل الحزب، ومعرفة ما سيرشح عن المؤتمر القادم، وكذلك حجم التداعيات التي ستحدثها نتائج الانتخابات في صفوفه، لكن بالتأكيد أن الحزب في يحتاج بالضرورة إلى قيادة موحِّدة وموحدَة وجديدة، تكون قادرة على إخراجه من أزمته الداخلية، واستعادة تماسكه التنظيمي، وحضوره في المشهدين الحزبي والسياسي، وإيجاد أجوبة مقنعة عن الإخفاقات والتراجعات التي عرفها الحزب خلال الفترة الأخيرة، وبلورة خط سياسي ومرجعية فكرية مستقلين ومنفصلين عن الهيئات الموازية، وبكل تأكيد فإن القيادات التاريخية أو المؤسِّسة، لا يمكنها أن تقوم بهذا الدور، لأنها من جهة منقسمة على نفسها، ومن جهة ثانية، أصبحت غير مؤهلة سياسيا لقيادة الحزب في المرحلة القادمة، إضافة إلى تآكل رصيدها السياسي، وتدني شعبيتها، ونهاية "الصلاحية الزمنية" لدى صناع القرار. ولعل هذا ما حمل القيادي في الحزب د. عبد العالي حامي الدين، على الدعوة الصريحة إلى تجاوز القيادات المؤسِّسة، في مقالة اعتبر فيها: "إن استدعاء شخصية من الجيل المؤسِّس قصد الجواب على نكسة 8 شتنبر، هو جواب عاطفي محكوم بذكريات انتصارات 2015 و2016، وهو جواب قاصر عن فهم السياق السياسي الداخلي والخارجي، الذي وفّر البيئة المناسبة لنكسة 8 شتنبر"، كما أشار في حديثه عن مستقبل الحزب، إلى ضرورة الفصل بين العمل الدعوي والسياسي، أي بين الحزب والهيئات المدنية الموازية. فهل ستلقى هذه الدعوة صدى لها وسط قيادة الحزب؟ وإلى أي حدّ يمكن أن تمثل هذه الأطروحة أفق سياسيا مقنعا لمناضليه؟