عندما يتحدث الإسلاميون وبعض الجماعات الدينية الإسلامية عن مفهوم الوسطية مع ما يصاحب ذلك من استحضار معجم ينهل من الثراث الديني الفقهي وبعض المسكوكات اللفظية الدينية المنبرية الموجهة للإستهلاك الجماهيري عن طريق توظيف تقنيات الإنتقاء الطريف، نتخيل للحظة بأنهم يستعدون لمراجعة مواقفهم المتطرفة الداعية إلى العنف والتكفير والحديث باسم الله ورسوله، وبأنهم يتخلصون من ذلك التعالي الفصامي الذي يستمدونه من الإقتناع التام وغير النسبي بامتلاك ناصية الحقيقة المطلقة واحتكارها. ولكننا نصطدم في ما بعد بمسألة الغياب الوجودي للمنطق وشيوع التناقض الذي يفتح مجالات واسعة لنفسه في خطاباتهم. ويعود سياق هذا الإستنتاج إلى البيان الذي نشرته حركة التوحد والإصلاح الإسلامية بمناسبة تأسيس منتدى الوسطية بإفريقيا. حيث تم من خلاله التأكيد على الوسطية باعتبارها سبيلا نحو ترشيد العمل الدعوي مع ما يتطلبه هذا الأمر الجلل من استحضار وسطية التعاليم الإسلامية وما يلي ذلك من ترسانات لفظية منمقة تبجل الإعتدال وقيم الوسطية. ولكننا نلاحظ بأن قيمة هذه الوسطية والإعتدال لم تنفذ إلى السلوك الفعلي لمؤسسي هذا المنتدى، ولكنها ظلت عالقة في حدود الشعار والإسم. فالتناقض الذي لم ينتبه إليه هؤلاء الدعاة، هو كونهم بالفعل أول من قام بتحطيمه بشكل غير مبرر عندما أكدوا على قيمة ترشيد العمل الدعوي وضرورته لدى المسلمين (أي إنطلاقا من ذواتهم)، وفي المقابل أنكروا على غيرهم من الأديان والملل والنحل حقهم التابث في ممارسة أنشطتهم الدعوية وترشيدها على النحو الذي يضمن الأمن والإستقرار والحرية وفق شروط الإنفتاح والإحترام المتبادل التي يتطلبها العيش بين أحضان الدولة العصرية، دولة حقوق الإنسان والمواطنة. وهذا ما يفسر موقفهم من "نوازع الغلو الديني" التي جعلوها جنبا إلى جنب مع "الحملات التنصيرية" و "حملات التشيع" و "انتشار القاديانية والبهائية والإنحراف الأخلاقي". ويعود سبب هذا التناقض المفضوح بالأساس إلى ما يلي: أولا: يعتبر المؤسسون أنفسهم مسلمين من الدرجة الأولى، فهم ينتمون إلى منطقة "الغرب الإسلامي" التي يجب أن تؤخذ خصوصياتها التي تتمثل في "الوحدة العقدية والمذهبية في إطار أهل السنة والمذهب المالكي" بعين الإعتبار. وهذا يتناقض بشكل كلي مع البادئ الراسخة لحقوق الإنسان الكونية والتي تؤكد على مبدأ الحرية العقدية: فالمواطنات والمواطنون يتمتعون على قدم المساواة التامة بكامل حقوقهم في اختيار الأديان والملل والنحل والمذاهب على اختلافها وتعددها وتناقضاتها، وليس من حق أي كان، على الإطلاق، أن يمنح لنفسه الحق في الحجر على الآخرين وجبرهم على اعتقاد واحد ومذهب واحد، وهذه بالطبع شيمة من شيم الإستبداد المقيت الذي ليس له مكان في السياقات الديموقراطية التي ننشدها في هذا الوطن. ثانيا: لا يفهم الكثير من الإسلاميين، وإن تشدقوا بمقولات الإعتدال والوسطية، بأن قيامهم بوظائف "الدعوة الإسلامية" لا يمنحهم الحق بتاتا في تجريم العقائد الأخرى أو التنقيص من قيمتها أو وصفها بأوصاف قدحية. لأن الديانات والعقائد والملل والنحل المختلفة لا يمكن بأي حال المفاضلة بينها في سياق الدولة العصرية المواطنة. فهي تقف جميعها على خط متساو. فأساس التعامل بينها جميعا هو أساس الحرية والإخاء والهدوء والإنسانية والإحترام المتبادل وقيم الديمقراطية و العيش المشترك الذي تنظمه القوانين الجاري بها العمل في العالم المتحضر. ولذلك فإن دعوة ذات التنظيم إلى الوسطية والإعتدال عن طريق مواجهة التنصير والتشيع والقاديانية والبهائية هي دعوة سكيزوفرينية ونرجسية غريبة ومتناقضة وغير مشرفة على الإطلاق. ثالثا: إن عزم ذات التنظيم على مواجهة الغلو في الدين هو ادعاء لا أساس له من الصحة، فكيف تستقيم هذه المواجهة إذن والداعون إلى الإعتدال والوسطية هم أنفسهم يجرمون دعوة النصارى والشيعة والقاديانية والبهائية ويربطونها بالإنحلال الأخلاقي ويدعون إلى محاربتها؟ هل هناك غلو أكبر من ذلك؟