مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو نقابة حداثية قوية جماهيرية ديمقراطية وتقدمية*
نشر في لكم يوم 26 - 02 - 2013

أعدت قراءة نصوص هذا الكتاب، مرات ومرات، وفي كل مرة، كانت أسئلتي تتزايد وتتناسل في محاولة مني للإمساك بكل الفروق بين ما كانت عليه الحركة النقابية في الماضي وبين ما هي عليه اليوم. وفي الأخير، أدركت أن الخوض في الإجابة عن كل تلك الأسئلة التي طرحتها على نفسي، سيحتاج مني إلى جهد تنقيبي كبير من جهة، وإلى مساحة تحليلية أوسع من جهة ثانية. وكلاهما سيدفعان بي وبالضرورة إلى ما هو أبعد وأكبر من مجرد تقديم لنص مكتوب في ظرفيته الزمنية الخاصة.
وهكذا، تخليت عن هذا الطموح، وارتأيت العودة إلى جادة الممكن والمطلوب في آن واحد. ثم وجدت في التصدير الذي استهل به الكاتب نصوصه ما يعفيني في هذا التقديم من التطرق للبيئة الزمنية السياسية والاجتماعية لهذه المواد، وللأهداف التي توخاها الكاتب منها في حينها، وغير ذلك من التوضيحات التي تكشف للقارئ عن ماهية وأهداف ما سيتناوله من مواد صارت بين يديه. ولذلك كله، ما بقي لي إلا أن أكتفي ببعض الملاحظات الشخصية، أحسب أنها مواتية وفي مكانها، متمنيا أن تكون مفيدة لقارئ هذه النصوص/الذاكرة.
* * *
أول ما يسترعي الانتباه في هذه النصوص، أنها، كما يشير لذلك الكاتب نفسه، ليست بحوثا أكاديمية صرفة، تتناول موضوعاتها وفق قواعد منهجية صارمة وبحيادية أكاديمية "مطلقة". فهذا النوع من الكتابات الخاص بأحوال الطبقة العاملة والحركة النقابية موجود، ولو على قلته. أما في غير هذه الوجهة، فإن النصوص التي بين أيدينا، هي كتابة من موقع الممارسة النضالية وفي خضمها، أسئلتها ميدانية مباشرة، وأجوبتها مطروحة هي الأخرى للتنفيذ العملي، وصاحبها هو أيضا واحد من الفاعلين الجماعيين والمخاطبين من قبله، يشاطرهم المصير ويشاركهم المسؤولية. هنا إذن، بين الذات والموضوع روابط "وجودية" قد لا تكون لدى الباحث الأكاديمي. وهنا زاوية النظر محكومة أو ممزوجة بالفاعلية الذاتية من جهة وبالفاعلية الجماعية الممكنة من جهة ثانية. فلا فصل لدى الكاتب بين الموضوعية والفاعلية. فهو لا يفسر ويحلل وحسب، بل هو يغير أيضا. وهذا مكمن الاختلاف بين الكتابتين في نظري.
عندما سألني الأخ عبد الهادي الزوهري، هل من المفيد نشر مثل هذه الكتابات؟ أجبت بلا تردد، نعم وألف نعم! ليس فقط لأنها تعطي صورة صادقة وعميقة عن تناقضات ومعاناة الواقع النقابي في بلدنا في مرحلة من مراحله، وهي هنا مرحلة ذات خصوبة "استثنائية"، وإنما أيضا، لأننا نشكو بوجه عام من فقر مزمن في "الذاكرة الجماعية" أكانت نقابية أو حزبية أو ثقافية أو وطنية شاملة.
كم من بين القادة والمفكرين ورجال الدولة كتب عن تجربته الخاصة (؟!) إنهم أقلية معدودة على رؤوس الأصابع، ناهيك عن نوعية بعض ما كتب وعن مدى الحرص فيه على "الموضوعية" والتواضع الفكري. وقس على ذلك الهيئات والتنظيمات ذات الارتباط بالشأن العام.
يحضرني في هذا المضمار اجتماع بين "هيئة الحقيقة والإنصاف" وقيادة "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" آنذاك، وخلاله ركزت بوجه خاص على ضعف وهشاشة ذاكرتنا الوطنية الجماعية، وبدون علم مني مسبق بما كانت تعانيه الهيئة وهي تعمل على تقصي الحقائق في أحداث كبرى مؤلمة، لما فوجئت به من شبه انعدام لأرشيف الدولة ولتوثيقها لهذه الأحداث. إنه إذن أكبر تجل لدولة التعليمات الشفهية بحيث ينعدم الأثر وتغيب الوثيقة وتضيع المسؤولية. فضلا عن كل الأضرار الأخرى المترتبة عن هكذا دولة بدون ذاكرة. إنها بالأحرى الدالة الكبرى عن دولة اللامؤسسات وإحدى بلايا عجزها في أن تكون دولة ديمقراطية.
وعلى نفس المنوال، كم كان مؤلما المشهد الذي يرويه لنا هذا الكتاب، وقد جاء فيه بالحرف: » أما عن دوافع كتابة هذه المقالات، فقد تولدت داخلي – منذ عقود- لما بدأت قدماي تطأ مقر (ك.د.ش)، حيث أمر بجانب غرفة خلع بابها، مهجورة، ومليئة من الأرض إلى السقف بوثائق وتقارير نقابية، وكأنها سلة مهملات كبيرة، تقوم بوظيفة التخلص من كل وثيقة نقابية انتهت "مدة صلاحياتها". ولم يكن هذا الأمر المحزن ليثير في المناضلين – وخاصة المسؤولين منهم – أي غضاضة أو حث على طرح تساؤلات مستفزة حول هذا ''العقل النقابي المعلوماتي'' المندفن برضى وإرادة جماعيين في غرفة ''المهملات النقابية''. وقد شعرت بهذا الخطب الجلل كما شعر به بعض المناضلين أثناء الإعداد للمؤتمر المحلي حين وجدنا أنفسنا (...) أمام فراغ مهول في التوثيق الضروري...»، هذا المشهد المحلي هو في الحقيقة مشهد وطني عام تكرر لمرات هنا وهناك.
قد لا نستسيغ مرد هذه الظاهرة الشاملة إلى تقديس مزعوم للشفوي لدى المغاربة أو لتأهبهم من المكتوب، بقدر ما هو مؤكد أن انتشار الأمية في المجتمع عامل فاعل في ذلك، وبقدر ما هو واضح أيضا في أن لطبيعة التعليم في مدارسنا دورا كبيرا في ضعف القدرة التعبيرية حتى لدى الشطر الأكبر ممن لهم مؤهلات ثقافية... أما الجانب الآخر في هذا الضعف المزمن للذاكرة الوطنية الجمعية فمرده بلا شك إلى الطبيعة المشخصنة للسلطة في كل المراحل السابقة، والتي أممت الذاكرة الوطنية لصالحها باحتكارها المطلق للمجال الزماني والمكاني وللتاريخ في ماضيه وحاضره ومستقبله وحيث لا فاعل سوى السلطة المشخصنة.
من هذه الزاوية أرى أن هذا الكتاب دعوة بصوت عال إلى العناية بالذاكرة الوطنية عامة، وإلى ترميم شروخها وإصلاح ما أفسده الدهر السياسي في تماسك بنيانها. وما دمنا في المجال النقابي، فإن تأسيس مركز من هذا القبيل يصون الذاكرة النقابية الجماعية ويشجع البحوث والكتابات الأدبية في مضمارها، سيكون لا محالة ضرورة لابد منها.
***
وثاني ما يلفت النظر في هذه النصوص ذلك الصدق الأخلاقي الرفيع والمكنون بين سطورها. شحنة هذا الصدق وحرارته المتدفقة تسري وتتغلغل في مشاعرك وأنت تقرأ، بل وتستبطن هموم ومشاغل الكاتب. وقد يراودك السؤال مثلي: أما يزال في هذا الزمن مثل هؤلاء المثقفين المناضلين، ألم يقلّ عددهم وخفتت أصواتهم في أحسن الأحوال؟
والحق، أننا أمام ''مثقف عضوي'' بكل ما في الكلمة من معنى، ومن معانيها الأجل الصدق الأخلاقي في السلوك والتفكير والمعاناة الوجدانية الخالصة. وعندها فقط، يغدو السؤال والهم والانشغال والمعاناة جميعها يصب في هدف واحد: كيف الارتقاء بالممارسة النضالية الجماعية للجماهير العاملة لتكون ممارسة ثقافية تقدمية في آن واحد، أو قل، لتكون ممارسة نظرية واعية لذاتها؟
في التراث الاشتراكي زخم أدبي كبير من الكتابات والاجتهادات المتنوعة للإجابة عن هذا السؤال الإشكالي. وجلها تناول بهذه الطريقة أو تلك دور المثقف في قلب تناقضات الدينامية الاجتماعية وبالأخص منها لجانب الطبقة العاملة. وبعد الانكسارات والتراجعات التي عرفتها الحركة الاشتراكية، وبعد الخفوت الذي أصاب إيديولوجيتها الاشتراكية، تكاثرت الأدلجات الانعزالية النخبوية التي استهدفت فك الارتباط بين المثقفين والحركة الاجتماعية عموما، والثورية خصوصا، وبما يجعل الثقافة في نهاية التحليل مجرد عمليات ''مخبرية'' أو مناجاة ذاتية جوانية للمثقف، معيار صدقيتها يرتبط به وحده وبفردانيته المطلقة.
لست في معرض البحث في خصوصية هذه الإشكالية المستجدة. لكنه من الواضح لدي على الأقل، أن ما أصاب تطورنا الديمقراطي من بطء وإعاقات مختلفة، يعود في أحد وجوهه إلى التفكك العام الذي طال الكتلة التاريخية الجامعة لقوى التقدم، ومن بينها هذه الظاهرة الانعزالية التي اتسعت وعمت سواد المثقفين إلى أن صارت هي الإيديولوجيا السائدة داخل هذه الفئة الاجتماعية التي من المفترض موضوعيا أن لها الدور المضاعف في مجتمع متأخر، كمجتمعنا.
ولكي لا نغالي في الحكم ويُساء فهم القصد، ينبغي أن نؤكد على بديهيات أولية؛ فالمثقفون ليسوا على قامة واحدة، ولا ينقرون على وتر واحد ونغم واحد، ولن يجتمعوا أبدا في موقع واحد. فذاك سُنّة من سنن الحياة والصراع الاجتماعي. وإنما القصد التنبيه إلى طبيعة الميل الإيديولوجي والسياسي العام الذي يجيز لنا الحكم على نوعية تموقع فئة المثقفين في الصراع الاجتماعي وفي مرحلة من مراحله. وإذا جاز لنا استعمال لغة رياضية لقلنا، هناك نسبة صحية ضرورية ودالة على سوية المجتمع وعلى إمكان نجاحه في تشكيل الكتلة التاريخية البديلة لإنجاز التقدم والحداثة.
ووفق هذا المنظور، يبدو لي أن دور ''المثقف العضوي'' (وهنا المثقف التقليدي أيضا) حاجة موضوعية ضرورية ما دامت المجتمعات الإنسانية خاضعة لتقسيم العمل وللصراع الاجتماعي. فدور المثقف العضوي إذن، قبل أن يكون مادة أو حدثا نظريا، هو أولا وأساسا واقعة عملية وظاهرة اجتماعية لازمة لزوم الصراع الاجتماعي نفسه. ولذلك، كل التنظيرات الانعزالية المغلقة التي تجنح إلى إسقاط هذا الدور عن المثقف إسقاطا كليا، وإبطال هذه الحاجة بشتى الدواعي والتبريرات هي أدلجة تامة السلبية، أي هي تزييف وهمي للواقع يراد به إضفاء الشرعية على وضعية اجتماعية ما.
ولقد أعطانا القرن التاسع عشر والعشرون، وعلى المستوى العالمي، قادة سياسيين اشتراكيين من المثقفين العضويين، كانوا من النخبة الفكرية العالية الطراز والأحجام وفي كل ميادين المعرفة. وإن شهد العالم تراجعا ملحوظا على هذا المستوى وبهذا التصنيف بالذات، ولتحولات نوعية جرت في كافة الميادين، ومنها الهيمنة الشبه مطلقة للإيديولوجيا الرأسمالية، فلا مراء في أن أساسيات الصراع ضد هذه الهيمنة مازالت قائمة ومستمرة، ومن صميم سيرورتها وصيرورتها تجدد أدوار المثقفين العضويين الحاملين للمشروع المجتمعي الإنساني الأقل استلابا والأكثر عدلا وديمقراطية.
بدأت في منطلق تلك التعليقات السريعة السالفة بتشديدي على الصدق الأخلاقي الرفيع والذي بدونه تنتفي صفة المثقف العضوي عن الفاعل في أي حقل كان. وسأترك لقارئ مقالات هذا الكتاب أن يستشعر بنفسه الشحنة الأخلاقية العالية التوتر والكامنة بين السطور. وسأترك له بعد ذلك أن يقارن بين وضعية المثقف الفاعل بالأمس ووضعيته اليوم من حيث مدى انشداده إلى ''حرفته'' و''صنعته''، أي من حيث قدرته على إنتاج الأفكار في حميمية تامة مع انشغالات الكادحين وممارساتهم اليومية والعامة. ولعل القارئ بعدها سيوافقني الرأي، أن أزمتنا هي أيضا أزمة أخلاقية.
***
وأخيراً، عند المقارنة بين كل التطلعات الكبرى التي حملها هذا الكتاب صوب ممارسة نقابية بديلة في مستوى التصور المجتمعي الاشتراكي والديمقراطي، وبين ما آلت إليه الحركة النقابية وأوضاع الطبقة العاملة عامة، لم أتردد في القول، إن تلك التطلعات لم تتزحزح كثيرا بعد، ولم تذهب بعد بعيدا، بل لعل أوضاعها الملموسة زادت التباسا ووعورة، إن لم نقل إنها أعادت الكرة إلى ''المربع الأول'' من جديد، وفي وضعية عالمية موضوعية أشد إعاقة من الماضي.
لمّحت في ما سبق إلى أن مقالات هذا الكتاب تتناول مرحلة نقابية خصبة وتكاد تكون ''استثنائية''. والخصوبة التي أعنيها، أن أكبر المعارك الاجتماعية ذات النفس السياسي الديمقراطي جرت في إبانها، وكان يحدوها في نفس الوقت حلم كبير وآمال عظام في أن تسترجع الطبقة العاملة مكانتها وأدوارها الطليعية في المجتمع. أما ''الاستثناء'' الذي أعنيه، فإنه يعود إلى أن العالم وقتها لم يشهد بعد هذا النكوص الكبير للإيديولوجيا الاشتراكية، وهي التي كانت تمد الطبقة العاملة ومثقفيها العضويين بمنظومة نظرية شاملة وجاذبة ومستقطبة، منظومة تنضح بروح إنسانية جذرية وَثَّابة ومناضلة ومتفائلة بالنصر الأكيد.
لم يعد الأمر إذن كما كان بنفس المحفزات النظرية وعلى نفس الوضوح والثقة الحالمة والواثقة من المستقبل. فلقد أحدثت العولمة ومقتضياتها التكنولوجية في ظل الهيمنة الشاملة والمستجدة للإيديولوجيا الرأسمالية خلخلة كبيرة طالت بنية الطبقة العاملة ذاتها وكل المنظومات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا، بات صوت الطبقة العاملة العالمي على المستوى الإيديولوجي والسياسي خافتا وباهتا ونغلا، ويفتقر إلى الرؤية الشمولية الكونية التي من شأنها أن تواكب زمن العولمة المتسارع، كما انحشرت نضالاتها على المستوى النقابي في زوايا دفاعية مخنوقة لم تفلح في أن تحول دون أن يكون الأُجَرَاء هم وحدهم من يدفع أثمان الأزمات المتواصلة التي يتخبط فيها النظام الرأسمالي العالمي بعد فترة وأخرى، وعلى حسابهم دوما.
وبداهة، أنه ليس كل ما جرى ويجري من تحولات مجتمعية كيفية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، يحدث بنفس الوتيرة والكيفيات والنتائج في المجتمعات المتأخرة، كمجتمعنا. فطبقتنا العاملة على سبيل المثال مازالت في معظمها تحتفظ بنفس الخصائص ''التقليدية'' التي كانت عليها، وإن ارتفعت نسبيا الشرائح المتعلمة منها وتوالى باطراد نموها في القطاع الخاص والقطاع الخدماتي، إلا أن الانخراط المتزايد في نظام العولمة وفي خضم الشروط العالمية التي أوضحناها، لابد وأن يترك بصماته عليها وأساسا على المسار العام لحركيتها الاجتماعية.
ولا يفوتني أن أسجل في هذا السياق حالات التذرر الطبقي التي شملت المجتمع المغربي قاطبة، لتضافر عدة عوامل، ومنها التحولات القيمية الفردوية والمصلحية الناجمة عن العولمة وعن استفحال نظام الزبونية والمحسوبية والريع والارتشاء في مجتمع لم يكن أصلا يمتلك بنية طبقية ناضجة وصلبة . وبعبارة أخرى جامعة، إن إشكاليات المجتمع المتأخر مازالت هي نفسها قائمة بالرغم من كل مظاهر التحديث الجارية.
وإذا عدنا الآن إلى تلك التطلعات الكبرى التي شكلت أنشودة البديل النقابي التاريخي في المرحلة السابقة، فليس من العسير أن يتبين لنا كيف أنها لم تذهب بعيدا في مراميها، بل وبالكاد ما زالت تراوح مكانها:
فالتمزق النقابي بلغ ذروته إلى أن أصبحنا أمام ظهور جديد لميولات نقابوية انقسامية شللية ما دون المركزيات الوطنية.
وجدلية النقابي والسياسي في سيرورة تقدمية، تحولت في معظم النقابات إلى مجرد خطاب فوقي فارغ المحتوى الجماهيري، في حين أن الواقع يشهد على انفصام تام بينهما وعلى انحطاط سياسي لدى الجماهير النقابية المنضوية ومع تقلص في نسبة التنقيب ذاتها. وفي مثل هذا المناخ من المتعذر الحديث عن حرث ثقافي تحديثي للأداة النقابية في تربتها الجماهيرية.
ومازال إعمال الديمقراطية والحرص على مبادئها في كل المستويات التنظيمية استعصاءً قائما لتخلف التربية التنظيمية الجماعية من جهة، ولبروز الميولات الفردية الانتفاعية والتحكمية من جهة ثانية، ولهشاشة العلاقات المؤسساتية وتقلباتها وعفويتها من جهة ثالثة. لقد برهنت التجربة المريرة بما يكفي على أن لا التوافق الدائم ولا الرهان على المواقف النضالية وحسب (وعلى أهميتهما) يضمنان ويراكمان في مدى ما الانتقال إلى العلاقات الديمقراطية المؤسسية، ما لم يتم في المنطلق احترام القواعد الديمقراطية أولا وأخيرا.
لتلك الاستنتاجات السابقة صوابيتها في عموميتها الراهنة، إلا أنه سيكون من غير المنطقي أن نرى الوضع النقابي في صورته الستاتيكية فقط، ولا نراه أيضا في تطوره الدينامي. لقد غفلنا عمدا عن العديد من مؤشرات التجديد والتطور، لأنها في حسباننا ستظل قاصرة ما لم تتغير نوعيا تلك الثوابت السابقة، باعتبارها أسّ الأسس في إنجاز خريطة نقابية تلبي شعار اليوم، نحو نقابة حداثية قوية جماهيرية ديمقراطية وتقدمية.
إن التطور التاريخي الذي يشهده الوطن العربي اليوم، وبوادر النهوض المجتمعي في بلدنا، كلاهما يتيحان للحركة النقابية التقدمية فرصا نادرة لكي تستعيد أدوارها في هذا النهوض المجتمعي الوارد لا محالة. وفكرتي في هذا السبيل، أن تقوم قيادات الحركة النقابية التقدمية بدور ريادي في تشكيل جبهة أو تكتل مدني عريض يضم إليه أوسع ممثلي المنظمات المدنية من جمعيات ونقابات ومنظمات مهنية ونسائية ومثقفين وشبيبات وشخصيات وطنية، وفق ما يدعو له البرنامج المرحلي الذي أضحى الإجماع عليه شبه قائم في محاوره الرئيسة وخاصة في: التطبيق الأمثل للدستور الجديد ومحاربة الفساد في كل المؤسسات والميادين وتحقيق شروط العدالة الاجتماعية.
هذه الفكرة بصيغتها العامة والمبدئية تنطلق من أن إمكانات النهوض المجتمعي قد غدت واردة، وأن مكونات المجتمع المدني وعلى غير ما مضى باتت ميّالة للربط بين انشغالاتها الخاصة والقضايا الوطنية العامة، وأن الحركة النقابية التقدمية هي المؤهلة أكثر من غيرها لأخذ زمام المبادرة في هذا التحالف المدني العريض إذا ما توفرت الإرادة الحازمة وبُعد النظر.
الرباط في 20 مارس2012
*هذه المادة عبارة عن نص تقديمي لكتاب "نقد الممارسة النقابية المغربية" لعبد الهادي الزوهري الصادر عن المطبعة السريعة بالقنيطرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.