رحيل فقدت الساحة الثقافية المغربية مساء الأحد 3 فبراير، واحدا من كبار مثقفيها ورواد الفكر والتحليل الإقتصادي الذي ينفذ إلى أعماق الأمور. إنه إدريس بنعلي، الصوت الجريء والمستقل والنزيه الذي اختار الإنحياز إلى قضايا الشعب، والإصطفاف إلى جانب الديمقراطيين والتحديثيين، ورفض اغراءات السلطة، وعارض الاستبداد وناهض الفساد. وفي مقاله التالي صرخة هي عبارة عن وصية ألقى بها الراحل في لجة البحر المغربي قبل أن يغادرنا إلى الأبد وعلى حين غرة... لا يعني لفظ «المثقفين» المفكرينَ والكتابَ الذين يستطيعون رفع مستوى المعرفة وتقليص مستوى الجهل واللامعرفة فقط، بل يفيد كذلك رجالا قادرين على المشاركة في النقاش المجتمعي والنضال من أجل نصرة القضايا العادلة ووضع سمعتهم وأفكارهم في خدمة المجتمع، وليس العمل من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية وحسب. باختصار، يلزم المثقفين أن يضعوا أنفسهم في خدمة المجتمع ويتعففوا عن الركض وراء المصالح الشخصية الضيقة. يعاني مجتمعنا من نقص حاد من هذه الفصيلة من الرجال. المثقفون لا يشاركون عمليا في مختلف النقاشات المفتوحة حول مستقبل البلاد؛ لقد تراجعوا إلى الوراء وأفسحوا المجال أمام الوصوليين وأصحاب الأقلام المأجورة وتجار الأوهام والديماغوجيين الشعبويين، رغم وجود قضايا كبيرة تستحق أن ينبري المثقفون للدفاع عنها؛ إذ بات حضور المفكرين الملتزمين ضرورة ملحة في زمن بلغت فيه الأنانيات مستويات غير مسبوقة، واختفت فيه الأشكال القديمة للتضامن، وتنامى فيه الظلم، وصارت فيه السلط المضادة ضعيفة، وكما قال فكتور هيغو: «حان الوقت ليأخذ الرجال العمليون أماكنهم وراء أصحاب الأفكار الواجب أن يكونوا في المقدمة». يواجه مثقفو المغرب ثلاث عراقيل أساسية: أولا، السلطة التي ترى فيهم أشخاصا خربتهم أفكارهم، وهو ما يعني أن التزامهم بقضايا معينة قد يعرض النسق برمته للخطر؛ ثانيا، التقنوقراطيون الذين يعتقدون أنهم الوحيدون القادرون على التفكير ويرفضون أي نقاش على مستوى الأفكار؛ ثالثا، الشعبويون الذين يرفضون الاحتكام إلى العقل ويعملون على التحكم في السكان عبر إعمال العواطف. ويبدو أن المجتمع المغربي لم يتقبل بعد المثقف باعتباره كيانا مستقلا بذاته يتمتع بإطار معترف به ومقدس من قبل الجميع. كما أن الحكام، وأحزاب المعارضة في بعض الأحيان، لا يعترفون باستقلالية المثقف. والمثير أن المثقف لا يتقبل من المثقف نفسه، بمعنى أنه لا يُعتبر مفكرا مستقلا مستعدا للتصدي لعيوب المجتمع وفضح الظلم وإدانة اللاعقلانية والانحرافات، ولا يُرى فيه سوى فرد عادي يغرد خارج السرب ويقدم الولاءات والتنازلات تقربا من أصحاب السلطة. بتعبير آخر، المثقف هو الكائن نفسه الذي يمنع الثقافة من فرض سلطتها على المجتمع. وفي هذا السياق، يمكن فهم لماذا يعتبر الطامعون في اجتثاث النفس النقدي وإنكار حق الآخرين في الاختلاف ومصادرة حرية التعبير تهديدا للنظام وخطرا عليه. ثمة عمل ينجز لدفع المثقف نحو «الحياد»، ليس لكونه مرشحا للسلطة، وإنما بالنظر إلى ما قد يمثله من نموذج يستحق الاقتداء به، إذ يفترض أن يحث المجتمع، عبر سلوكه، على نبذ الانقياد والانصياع واستثمار وجوده لتثمين حريته وممارسة ضغوط لفرض استقلاليته. وهذا ما يحول المثقف إلى كائن مخرب في عيون الذين لا يرون في السكان سوى مجموعة أفراد يسهل التحكم فيها والهيمنة عليها إلى الأبد. ويُبذل كذلك جهدٌ كبيرٌ من أجل إسكات المثقف، سواء بالحلول مكانه أو بالعمل على دفعه نحو اتخاذ سلوك محايد تجاه القضايا موضوع النقاش داخل المجتمع. صار هذا السلوك شائعا من قبل السلطة، وينبني في مرحلة أولى على استمالة المثقفين قبل الانتقال إلى قمعهم في مرحلة لاحقة. وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحات في العديد من الحالات، ذلك أن بعض المثقفين أبدوا حساسية مفرطة تجاه السلطة، كما أن عددا كبيرا منهم لم يصمد أمام «صفارات الإنذار»، ولذلك نجده اليوم مرتاحا في أركان السلطة بعد أن فضح، لمدة طويلة، مساوئها وتجاوزاتها وأضرارها. الحقيقة أن المثقفين المغاربة ليسوا في مأمن من الانتهازية، خصوصا أنهم أكثر فئات المجتمع قابلية للحصول على الامتيازات مقابل التعاون وتقديم تضحيات قد تكلفهم استقلاليتهم. ولعل هذا ما يفسر الاصطفاف إلى جانب الحكام. فهل يمكن اعتبار هذا الاصطفاف خيانة بالنظر إلى المهمة المنوطة بهذه الفئة الاجتماعية؟ لقد أسهمت عوامل عديدة في كسوف شمس المثقف المغربي. ويتعلق الأمر بالأساس بانبعاث الحركات الدينية والشعبوية التي تمارس إرهابا ثقافيا حقيقيا وتحصر النقاش في مجرد مواجهة إيديولوجية من العصر الوسيط؛ فقد تمكنت هذه الحركات، بسبب الفقر واللامساواة وارتفاع نسبة الأمية في صفوف فئات عريضة من المجتمع، من فرض هيمنتها على الحياة السياسية والقضاء على روح النقد والانتقاد وشلّ التفكير على نحو لا يسمح سوى بالعقائد والطقوس، ولا مكان في هذا الوضع للانفتاح أو الاعتراف بالتنوع والتعددية والحرية.. إنها ديكتاتورية الجماعة على الفرد والحرمان من حرية الاختيار، وهو ما يفضي إلى نصر التوافق والتقاليد. وفي هذا السياق، يصبح المثقف يتيما في المدينة.. لا يجد خطابه طريقه إلى المجتمع، وتُبخَّس قيمة أعماله. صحيح أن الربيع العربي منح الفرصة للقطع مع تهميشه والمبادرة إلى إسماع صوته، غير أنه يواجه صعوبات في استرداد الدور الذي لعبه في العقود الأولى من الاستقلال، لأن الميدان محتل في الوقت الراهن من قبل شعوبيين وظلاميين، كما أن التيار المحافظ واللاعقلاني يهيمن على جزء كبير من السكان. ومن هذا المنطلق، لم يعد المثقفون قادرين على إثارة الانتباه إليهم، بل إن جزءا كبيرا منهم صار يتيه وسط الجماهير ويقضي عليه النسيان. ما عاد المثقفون في الواجهة بعد أن نحاهم الإسلاميون والشعبويون.