إن المتأمل في الواقع السياسي والفكري المترهل، الراهن في بلادنا يدعو إلى القول بان ما يسمى بالنخبة المثقفة في المغرب، لا زالت تتوزع حول كيانين آزلين اثنين، كيان يحتمي بأسوار السلطة، يمارس من داخل رحمها -عمليته الفكرية- التي تنتعش بها السلطة الحامية، وكيان يمارس معارضته الفكرية للواقع ولتمظهرات السلطة والتسلط باستقلالية ولكن بمعاناة، إننا أمام صورتين اتنثين:مفكري السلطة الذين تم احتوائهم، وسلطة المفكرين الأحرار أو بالأحرى المتحررين. فالفئة الأولى هي فئة منتجي الفكر، أو هي إن صح التعبير هي التي تمارس سلطة الفكر:( المهدي بن بركة – عبد الله العروي- محمد عزيز لحبابي- عابد الجابري- المهدي المنجرة وغيرهم..)هذه الفئة لم يحتويها المخزن رغم عرض عدة مناصب عليها في جهاز الدولة، وصلت إلى منصب الوزير الأول( المهدي بن بركة والمهدي المنجرة..ودعوة عابد الجابري للالتحاق بأكاديمية المملكة، وإغراءات شتى للعديد من المفكرين كلها باءت بالفشل.) إظافة إلى أن هذه الفئة لم تتورط في الاعتقال السياسي إثر الحملة التي استهدفت مثقفي ومنظري اليسار في الستينيات والسبعينيات...باستثناء المهدي بن بركة الذي اغتيل في فرنسا في ظروف يعرفها الجميع، حيث عرفت هذه الأسماء الوازنة والمعروفة في الحقل التنظيري بالمغرب والوطن العربي كيف تراوغ الحكم وتتفادى الصدام معه، لقد مارست سلطتها الفكرية بتحرر حيث امتاحت من مرجعيات إيديولوجية إبان فترتها..لكن ظلت صبغة الأكاديمية تظلل مسارها، واقع جعلها تصل إلى الشهرة بفضل تنظيراتها دون أن تغرق في التشدد الاديولوجي، الذي قد يمليه الانتساب إلى الحزب. شهرتها التنظيرية أكسبتها مناعة قوية جعلت المخزن يتحاشى الصدام معها، بل حاول أن يجرها كما أسلفنا إلى محيطه. أما الفئة الثانية أي فئة مفكري السلطة، أو الفئة المستهلكة للفكر المنتج من طرف الفئة الأولى و من أدبيات الفكر السائد في المرحلة.. فقد تراوحت إيديولوجياتهم ( منذ الاستقلال إلى يومنا هذا..) بين أحزاب وتنظيمات يمينية ويسارية وإسلامية..فاليمين المحافظ المتمثل في حزب الاستقلال، كان هو القريب من محيط السلطة مكرسا بذلك سيرورة تاريخية للمخزن، منها يستمد شرعيته، فلا عجب أن نجد علماء الدين ( الذين ادمجوا الوطنية النضالية من اجل تحرير البلاد ضمن الوطنية الدينية، حيث نجد أن أكثر هؤلاء العلماء فتحوا مدارس ومعاهد حرة، ليمرروا خطاباتهم وخصوصا خطاب حزب الاستقلال) يزاوجون بين مهامهم في المجالس العلمية أو حتى الوزارات وبين نشاطاتهم السياسية ولكم أن تراجعوا لائحة أول برلمان ما بعد الاستقلال في تاريخ المغرب، وأيضا مختلف المهام المقربة جدا من القصر لتكتشفوا ذلك. و في هذا الإطار فإن تحميل المفكرين (علماء الدين) في تلك الفترة مسؤولية عدم بناء فكر ديمقراطي ديني يؤدي إلى بناء فكر ديموقراطي سياسي هو أمر موجود وواقعي، لأن بعد الاستقلال برزت هوة بين هؤلاء العلماء وبين السياسي، مما سهل الطريق أمام السلطة القائمة حينها بناء ديموقراطية على مقاسها، مقابل امتيازات سياسية واقتصادية.. لقد دخل المغرب مرحلة تحول مفصلي إثر الأحداث، التي عرفتها الساحة الوطنية منذ مطلع السبعينات، تقلصت هيمنة حزب الاستقلال، ولجأ المخزن إلى احتياط فارغ أسسه من أحزاب وهمية، كرسها لإيجاد شرعية من داخل برلمان، لا يقل فراغا عن الأحزاب المتواجدة داخل قبته.. لقد اختط المخزن في هذه الفترة لنفسه مسارا يجري فيه لوحده ضدا على الفاعلين في المرحلة، وهذا ما يذهب إليه عبد الله حمودي في كتابه الشيخ والمريد في الفصل السادس في باب أنظمة سلطوية حين قال: " أننا شهدنا خلال هذه الحقبة ( 1960 و 1970) بنيات تسلطية متينة تنتشر وتتوطد في المجتمعات العربية. وكانت تتركز في نمطين أساسيين: جمهوريات يسيطر عليها زعماء مَهيبون تدعمهم المؤسسة العسكرية والأحزاب الوحيدة المسخرة، أو ملَكيات تسيطر على التعدد الاجتماعي بفضل القوة المسلحة، ويرتكز نشاطها على ائتلافات أحزاب سياسية مضعفة أو تحالفات بين تجمعات أو طوائف، وفي الحالتين معا، تدير بيروقراطيات جبارة بدون ارتباطات حزبية البرامج الاقتصادية. لقد شكلت قضية الصحراء منعطفا حاسما أفرز نخبة مضطهدة حاربها المخزن بشتى الأشكال، هاته الفئة بتنظيماتها السياسية اليسارية ومن أبرزهما تنظيمي 23 مارس و إلى الأمام، وهم من مستهلكي الفكر الماركسي اللينيني، ( والذي كان حاملوه جيلا كان متأثرا بالهزائم السياسية التي لحقت الأمة، وكذا الهزائم التي لحقته من لدن المخزن، نتيجة أخطاء قاتلة في التخطيطات و الاستراتيجيات التنظيمية، وكذا البطء في استقطاب شعبي كبير أو حتى التعاطف معهم في تلك الفترة) وهذه النخبة كانوا آخر من احتواهم القصر( إدريس بن زكري وأصحابه...) فحين وجدت حالات اسثتنائية وصفت بالتيار الراديكالي داخل هذين التنظيمين وداخل أحزاب محسوبة على اليسار، بحيث رفض هذا التيار المساومة أو حتى النقاش حول المهادنة مع السلطة القائمة، مبررين ذلك بغياب الضمانات الحقيقية والأسس الضامنة للانتقال الديمقراطي، واصفين الراحل بن زكري وأصحابه ( بالخونة)، وهذا ما وضحته الشعارات التي رفعت أثناء الجلسات العمومية التي نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، للاستماع لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب، التي حملت شعار شهادات بدون قيود من أجل الحقيقة، وهي بمثابة رد فعلي على الجلسات العمومية التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة التي ترأسها إدريس بن زكري. معطى واقعي، يقر أن (مفكري السلطة) الآن هم من أغلب المعتقلين السياسيين السابقين ( بن زكري، صلاح الوديع،أحمد حرزني،محمد الصبار وإدريس اليزمي وغيرهم...)، وهنا الفارق الرئيسي والكبير في قبولهم للمهادنة والدخول في اللعبة السياسية، وشغل مناصب عليا في الجهاز المؤسساتي للدولة، (مناصب تعتبر عند رفاقهم الراديكاليين بالمناصب الملغومة). القبول بالهدنة والدخول في اللعبة السياسية، لما يُنعتون الآن (بمفكري السلطة)، جاءت على اعتبار أن الظرف الحالي هو غير الظرف السابق.. فالمعسكر الشيوعي( الاتحاد السوفيتي سابقا) انهار عن أخره، وثديه التي كانت تصب لبنا معدنيا من دون حسيب أو رقيب قد استنفذت بعد سقوطه، وكان لابد لمستهلكي الأفكار الماركسية اللينينية بالأمس، وهم من مفكري السلطة اليوم، أن يغيروا الأفكار الثورية و الاستراتيجيات التنظيمية، التي كان الهدف منها هو الوصول إلى السلطة، ولاسيما أنهم قد أدوا ضريبة الاعتقال السياسي من اجل أفكارهم. كل هذا التغييرات المرحلية، جاءت عن طريق اجثثات الفكر الثوري، وهذا يعني أن هناك أزمة يعانيها المثقف العربي بصفة عامة، كما أدى ذلك إلى استبداله بالممارسة الفعلية من داخل دهاليز أجهزة السلطة، وبشروطها القائمة على قبول اللعبة بقواعدها و غير ذلك فهو مرفوض، كما أن الاستناد على مبررات ظروف الانتقال الديموقراطي، وكذلك اعتبار أنه لا يمكن قضاء سنوات العمر الباقية في نهج سياسة راديكالية عنيدة، اتجاه الواقع المعيشي لظروف المواطن المغربي، وللحالات المزرية التي يعيش فيها المعتقلون السياسيون بعد خروجهم من السجن، هذا الواقع المفروض التي تتحكم فيه لوبيات مخزنية ضخمة، يجب تغييره من موقع السلطة وليس من خارجها، كما ينبغي إعادة تشكيل النخب المغربية عن طريق استلام السلط والمناصب. هذا المبرر لا يستند على قناعة تامة لدى رفاق الأمس، مادام أن الجسم المغربي مصاب بشلل اقتصادي واضح، وعليه فإن الأمر لا يعدو أن يكون أمرا استعجالي لإنقاذ البلد من انهيار تام يؤدي إلى صراع طبقي وحتمي، وهذا ما أعلنه الراحل الملك الحسن الثاني على أن المغرب قريب من السكتة القلبية.. إعلانه جاء وليد سياسات متعاقبة فاشلة، أدخلت البلد في متاهات، أوصلته إلى الإفلاس، وهو أمر لم يدركه أحد أكثر منه، وهذا ما عجل بتشكيل حكومة التناوب الأولى برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، التي اصطدمت بجدار من اللوبيات المخزنية، امتزجت بين لوبي يلبس لباس السياسة، ولوبي يلبس لباس الاقتصاد، ولوبي يلبس لباس العسكر، ولوبي يلبس لباس الثقافة، ولوبي آخر يختبئ في محيط السلطة القائمة.. وهذا ما كشفته ملفات الفساد التي حركتها حكومة التناوب الأولى، حيث كانت صورة الفساد تتشابه وتتواصل من مؤسسة إلى أخرى، كما أن أسماء المفسدين تداخلت وتشابكت والتقت في مصب وحيد وواحد: المركز النافد في السلطة. وجه الخلاف بين (مفكري السلطة) وسلطة المفكرين هو: محاكمة الفكر، أي بمعنى آخر، مراجعة الإيديولوجيات الممارسة سابقا.. ومن هنا يمكن أن نفهم الصراع السياسي الذي عرفه تاريخ المغرب، بادراك عمق التحولات البنيوية للأجهزة السياسية التي تعيشها البلاد، وكذا يمكننا أن نفهم هذا الصراع الفكري بوجود ظروف سياسية داخلية وخارجية، وظروف اقتصادية واجتماعية التي كانت وراء الصراع على السلطة. فمن تخدم النخبة المثقفة المغربية بفكرها..؟ هل تخدم الشعب أم السلطة أم نفسها..؟و إذا كان الفئة الأولى لا زالت تنتج الفكر والمعلومة، فهل لا زال بالمقابل مفكري السلطة يقتاتون على ما تنتجه..؟ أما سلطة المفكرين، فقد ظلت نظيفة وبعيدة عن كل لبس أو احتواء، أنتجت أفكارا استهلكها مفكري السلطة الحاليين للوصول إلى الحكم، كما أن التاريخ الطويل و متغيراته السياسية، هو الذي ضمن ولوج هذه النخبة المثقفة المستهلكة للفكر إلى القصر، والتي يمكن أن ننعتها ب - زمرة الحكم الشبابي – معتبرة نفسها فئة تحس أن حقها غُبن في فترة الاعتقالات التي عاشتها، بعد أن دافعت عن هذا الفكر، متأثرة بمفكري الستينيات والسبعينيات، وهم الذين يمثلون الآن سلطة الفكر، وهي فئة يقدرها ويحترمها القصر أكثر من هذه الزمرة الجديدة للحكم الشبابي، التي يعتبرها مجموعة ولجت اللعبة السياسية للاستفادة لاغير، ويجب اللعب بها في هذه المرحلة من السياسة الداخلية للمغرب، لتهدئة بعض الأطراف الخارجية والداخلية، وهذا ما أدى إلى الصيغة الحالية للحكم.. هي وصفة ظلمت ملايين المغاربة بفعل هذا الانقلاب الفكري، حيث يكون الجواب على سؤالنا السالف، هو الخلاصة بإقرار اتفاقية الكواليس بين الممارسين للفكر وبين منتجي الفكر وبين السلطة القائمة التي تحسن العوم بين هؤلاء وبين أولئك، وكذلك وجوب وجود طبقة معينة مثقفة تدافع عن مصالحه، استنادا على ما قاله غرامش أن فئة المثقفين تمثل مصالح طبقية، وان لكل طبقة مثقفيها.. إن مسألة سلطة الفكر في تقويض سياسة فكر السلطة، يحتم على المفكر أن يعي أن الأمر لا يعدو أن يكون صراعا بين ثنائية السلطة والمثقف، بل هو انخراط في سيرورة جدلية الاحتواء والاستقلالية، وبين النزعة المحافظتية والنزعة التقدمية، كما يجب على أصحاب سلطة الفكر أن يفرضوا عملية الدمقرطة في اختيار سياسة فكر السلطة، الذي يبدو إلى حد الآن المسيطر على طريقة تسيير البلاد ومفكريها، وكذا هو القادر على تفعيل وتجميد سلطة المفكرين كيفما شاء، وتحقيق سياسته الفكرية كما ينبغي وكما سطر لها هو. ومن ثم يتأكد أن فكر السلطة أقصى مفهوم سلطة الفكر بطريقة كليانية مرة، و بطريقة الاحتواء مرة أخرى، كما لايمكن مناقشة مسألة التغيير والديموقراطية، بدون مناقشة فكر السلطة بعقلية سلطة الفكر المتحرر والمستقل، يتناول الأمور بنوع من سياسة فكرية نقدية، مادام أن السلطة لها حصة في البؤس الفكري للإنسان، وما دام أن البلاد لا تقوم على بناء الفكر للفكر بالاستفهام، وإنما تنهض على تقويم الفكر بنقد الاستفهام في إطار الوضوح وبدون دعارة فكرية، وكذلك في إطار سؤال ماذا نريد.. مادام أن العالم تحركه إرادة القوة أي السلطة وليست إرادة الفضيلة المجسدة في المثقفين والمفكرين كما قال نيتشه..؟