وجَّه حزب الاستقلال، المشارك في الحكومة، مذكرة إلى ذ. عبد الإله بنكيران بوصف هذا الأخير رئيسًا للتحالف (يناير 2013). ليست هذه المذكرة هي الأولى من نوعها التي يوجهها الحزب إلى طرف يتولى رئاسة الحكومة، فقد سبق أن تلقى ذ. عبد الرحمان اليوسفي مذكرة مماثلة خلال ولاية "حكومة التناوب" من حزب الاستقلال المشارك في ذات الحكومة (أكتوبر 1999)؛ فهل يتعلق الأمر بتقليد يريد حزب الاستقلال ترسيخه في الحياة السياسية، ينتقد فيه علنًا عمل حكومة يشارك فيها، ويتقدم فيه باقتراحات ومطالب لتأكيد حضوره السياسي ورفض تحمل المسؤولية عن بعض ما يصدر عن الحكومة أو تتخذه من قرارات. هناك قواسم مشتركة بين كل من المذكرة الاستقلالية الموجهة إلى اليوسفي والمذكرة الاستقلالية الموجهة إلى بنكيران، فالمذكرتان معًا تحملان توقيع الأمين العام للحزب في زمن يوجد فيه شخص هذا الأمين العام خارج التركيبة الحكومية؛ والمذكرتان معا صدرتا بعد مرور سنة من ولاية الحكومة؛ والمذكرتان معا تقدمان تقييما إجماليا نقديًا لسير أداء الحكومة وتؤاخذانها على بطء إيقاعه؛ والمذكرتان معًا تتقدمان بحزمة مقترحات لتصحيح وتطوير العمل الحكومي؛ والمذكرتان معا تؤكدان على ضرورة احترام العمل المشترك لأطراف التحالف الحكومي وإحيائه؛ والمذكرتان معاً تترجمان رغبة غير مستترة في تحقيق نوع من رد الاعتبار لحزب الاستقلال. لكن هناك أيضًا بعض أوجه التباين بين المذكرتين : فهناك اختلاف بارز في الظروف السياسية التي جرى في ظلها تحرير كل من المذكرتين. المذكرة الجديدة، مثلاً، جاءت بعد وقت قصير على عقد مؤتمر وطني لحزب الاستقلال وانتخاب أمين عام جديد، أي أنها جاءت في سياق تناوب داخلي "ثوري" ومثير، وفي زمن التحولات السياسية العميقة بالمنطقة المغاربية والعربية وظهور دستور جديد، وَوُجّهت إلى طرف لم يسبق أن دخل معه حزب الاستقلال، قبل الانتخابات، في تكتل شبيه بالكتلة الديمقراطية التي كانت تجمع الحزب بالاتحاد الاشتراكي؛ كما أن المذكرة الاستقلالية ل 2013 حظيت بتزكية برلمان الحزب الذي صادق عليها، واستعرضت الاختلالات التي تسم العمل الحكومي بقدر من التفصيل، وتناولت قضية الهندسة الحكومية مطالبة صراحة بإجراء تعديل حكومي، ووجهت سهام نقدها إلى شخص رئيس الحكومة مباشرة، وحضر فيها التاريخ بشكل لافت، وفرضت على المتتبعين طرح أسئلة عن الأهداف الخفية التي قد تكون ثاوية وراء مبادرة إصدارها وإعلانها، وعما إذا كان ذلك مرتبطًا بخطة تستهدف إضعاف التجربة الحكومية الجديدة واستنزافها في حروب تشغلها عن مهمة تطبيق برنامجها، وعن مدى وجود صلة لها ب "التماسيح والعفاريت" التي تريد إجهاض التناوب السياسي الجديد بالمغرب والعودة إلى الوراء ومنع أية صيغة للشراكة في الحكم ومواصلة تقليد "الحكومات المحكومة". أما مذكرة 1999 فإنها أتت في ظرفية انتقال حزب الاستقلال من المعارضة إلى الحكومة مع الحليف الاتحادي، وفي لحظة اتقاد النقاش الاستقلالي حول جدوى وآفاق هذا الانتقال وبروز تيار جذري داخل كل من البيتين الاستقلالي والاتحادي يدعو إلى تأسيس علاقة جديدة مع القصر وتغيير قواعد اللعب السياسي بالبلاد، وتحديث البنية الحزبية؛ كما أن المذكرة الاستقلالية ل 1999 جاءت بعد أسابيع على انتقال العرش إلى الملك محمد السادس. حرصت مذكرة 1999 على التذكير بحدث الانتقال المشار إليه أعلاه، واعتبرت أن هناك حاجة ماسة إلى إعطاء إشارات قوية للشعب ورفع وتيرة الأداء الحكومي، وأكدت تشبت حزب الاستقلال ببرنامج حكومة التناوب، ونبهت إلى وجود إحساس لدى فئات من الشعب المغربي بالخيبة أمام ضعف الأداء الحكومي. بسطت المذكرة الموجهة إلى اليوسفي العديد من الإجراءات التي قَدّرت أنها واجبة التطبيق بكل استعجال، وذلك ضمن ثلاثة محاور : محور تخليق الحياة السياسية، وتضمن، مثلاً، إنهاء نظام الامتيازات والرخص القائم على سلطة تقديرية واسعة للإدارة، وإخضاع تقاعد الوزراء للقانون، ومنع الجمع بين مُرَتَّبَيْنِ، وتغيير القانون المتعلق بالتصريح بالممتلكات ضمانا للمزيد من فعاليته، والحد من ظاهرة الموظفين الأشباح، والكشف عن الافتحاصات التي خضع لها عدد من المؤسسات العمومية والإدارات، ووقف مختلف أشكال الاحتكار، وإصلاح الإدارة، ومحاربة التبذير..إلخ؛ محور البرنامج الاجتماعي الاستعجالي، وتضمن، مثلاً، الدعوة إلى خوض تعبئة شاملة لمحاربة الأمية بشراكة مع المجتمع المدني، ولفك العزلة عن العالم القروي وحماية البيئة، وتوظيف أموال الشغيلة المودعة لدى صندوق الإيداع والتدبير في مشاريع لصالح تلك الشغيلة، وإنجاز أوراش كبرى في قطاعات السكنى والسياحة والصناعة من شأنها خلق فرص وافرة للشغل، واستعمال الدولة لرصيدها العقاري في استثمارات تنموية بالكثير من الأقاليم؛ محور تعزيز المؤسسات الدستورية وتعميق الاختيار الديمقراطي، وتضمن، مثلا، الدعوة إلى إصدار قوانين تنظيمية جديدة كقانون المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتعزيز سلطة القضاء، وتسريع عملية مراجعة قوانين الحريات العامة وملاءمتها مع التزامات المغرب المتعلقة بحقوق الإنسان، وتعميم البطاقة الوطنية تحضيرًا للانتخابات، ومحاربة الفساد الانتخابي، وتعديل الميثاق الجماعي، ومراجعة أدوار وزارة الداخلية، وإصلاح الإعلام..إلخ. واعتبرت المذكرة أن مثل هذه الإجراءات سَتُحَفِّزُ الاستثمارات وتخلق لدى عموم المواطنين أملاً في المستقبل، وأنها ستجد السند الملكي المطلوب، ودعت المذكرة إلى إحياء روح العمل الجماعي المشترك التي طبعت العلاقة بين الأطراف المنضوية في إطار الكتلة الديمقراطية خلال مرحلة ما قبل التناوب. أما المذكرة الاستقلالية ليناير 2013، فقد اعتبرت نفسها تنطلق من كون الدستور الجديد يمنح الحكومة ورئيسها اختصاصات تسمح بتنفيذ العديد من الأفكار والبرامج، وذكرَّت بالكفاح الطويل لحزب الاستقلال من أجل الديمقراطية وبالتراث النضالي المشرق للزعيم علال الفاسي، وأكدت أن الحزب يشارك في حكومة بنكيران انسجاما مع المكانة التي منحها إياه الناخبون ومع وجود حلفاء تجمعه وإياهم قواسم مشتركة؛ وبمعنى آخر، يريد حزب الاستقلال الإشارة إلى أن مشاركته في الحكومة لم يتكرم عليه بها أحد. ويستعمل الحزب في مذكرته ذات التحذير الذي طالما صدر عن بنكيران، والقائم على إمكان السقوط في ما سقطت فيه بلدان الجوار إذا لم تتغير وتيرة الإصلاح، فكأننا هنا إزاء سلاح يتسع مجال توظيفه في الخطاب السياسي، مع الإشارة إلى أن التوظيف الاستقلالي لهذا السلاح يظل محتشما حتى الآن. ولم يفت المذكرة الجديدة التنويه بالحصيلة الإيجابية لحكومة بنكيران، وخاصة في ما يتعلق بتوسيع نظام التغطية الصحية (راميد) وبرنامج (تيسير)، والزيادة في منح الطلبة، ومواصلة الأوراش الكبرى. إلا أن المذكرة طالبت بتحديد طبيعة الحكومة الحالية، هل هي استمرارية أم قطيعة؟ وذلك كتعبير عن رفض الخطاب البنكيراني الذي يعتبر هذه الحكومة قطيعة مع الماضي، وبالتالي فإن المذكرة هنا تريد الحفاظ على الاعتبار الواجب لأحزاب التحالف الأخرى التي شاركت كلها في حكومات سابقة. وتؤكد المذكرة أن مجلس رئاسة تحالف الأغلبية هو الإطار الوحيد الذي يجب أن تُرسم فيه التوجهات السياسية للحكومة، حتى لا يصبح طرف لوحده هو الناطق باسم حكومة هي في الأصل ائتلافية. هذه ملاحظة وجيهة، ولكن بنكيران يفضل الاستباق بالإعلان الانفرادي عن خطط ونوايا حتى يفرض الأمر الواقع، خوفًا من أن تقيد الأطراف الأخرى حركته وتمنعه من تحقيق الأثر الذي يريد أن تخلفه هذه الحكومة في شعور الناس. لكن إلى متى ستستمر هذه اللعبة؟ إذ يظل المطلب الاستقلالي بإخضاع القرارات للتشاور بين أطراف التحالف منطقيًا من الناحية النظرية. وبالإضافة إلى تسجيل تعطل التشاور بين أطراف الأغلبية، تؤاخذ المذكرة الأداء الحكومي على البطء في الإيقاع والقرارات الانفرادية : كالزيادة في ثمن المحروقات، والشكل الذي تم به إعداد دفاتر التحملات، والمقاربة المعلنة بخصوص صندوق المقاصة، ومعالجة قضية اقتصاد الريع بمنطق التشهير والغموض، والتحلل من تنفيذ محضر 20 يوليوز، والتعامل مع الاقتصاد بأسلوب الاستقالة، وإهمال العالم القروي، واستهداف الطبقة المتوسطة، وإعلان الاقتطاع من أجور المضربين، وعدم التعاطي الجدي مع مجموعة من القوانين التنظيمية الأساسية، والخضوع لرؤية محاسباتية ضيقة للمالية العامة. وهكذا نلاحظ أن حزب الاستقلال، من خلال مذكرته الجديدة، يستل شعرة مسؤوليته من عجين القرارات اللاشعبية المتخذة ويدبج واحدًا من أقوى النصوص في باب معارضة الحكومة. وتصل المذكرة إلى حد تشبيه بنكيران بالرئيس المصري محمد مرسي والتنديد ب"الاشتغال بمنطق رئاسي في بيئة برلمانية"، والتنديد بالتماهي مع الذات الحزبية لأهداف انتخابية. وتخلص المذكرة إلى ضرورة مراجعة الهندسة الحكومية على قاعدتي النسبية والتوزيع المتوازن للقطاعات بين أطراف التحالف وتدارك "الغبن" الذي أصاب حزب الاستقلال ومعالجة قضية الوزراء الذين لم يقدموا ما كان منتظرًا منهم. وتقترح المذكرة تحيين ومراجعة ميثاق الأغلبية، وإعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية، واعتماد طريقة أخرى لتحقيق التوازن الماكرو اقتصادي، وتقييم برامج التشغيل، واستكمال برنامج راميد وبرنامج مدن بدون صفيح، وإصدار قوانين تنظيمية وعلى رأسها النص الخاص بالأمازيغية، واستكمال البناء المؤسساتي، وإجراء تعديل حكومي يمنح النساء %20 وتُمَثَّلُ فيه الأقاليم الجنوبية ويُعمد فيه إلى تقليص الحقائب الوزارية وعدم تقسيم الوزارة الواحدة..إلخ. وعلى العموم، نتساءل : هل كان مطلب التعديل الحكومي هو المضمر في مذكرة 1999، فوقع التعديل؟ وهل المضمر اليوم في اقتراح التعديل الوارد بمذكرة 2013 هو إدخال رئيس الحزب إلى الحكومة، كما وقع بعد المذكرة الأولى، فحزب الاستقلال هو الحزب الوحيد من بين أحزاب التحالف الحكومي، الذي ليس ممثلاَ برئيسه في التشكيلة الحكومية الحالية؟ وسواء كانت المذكرة الأخيرة تعبيرًا عن حسابات القيادة الجديدة لحزب الاستقلال وطريقتها في تدبير مشاكل الحياة الداخلية للحزب، أم لم تكن، وسواء كانت المذكرة تعبيرًا عن لعبة يكون فيها حزب الاستقلال متحالفًا مع حزب العدالة والتنمية في الظاهر ومتحالفًا ضده في الخفاء -وهي لعبة خطيرة لأن جزءًا من أعداء العدالة والتنمية هم في نفس الوقت أعداء الحزبية المستقلة بكل بساطة أيا كانت المرجعية- أم لم تكن، فإن هناك ما هو في حكم الثابت الاستقلالي : لا يكون حزب الاستقلال بصورة مطلقة وكلية في المعارضة، حتى وهو رسميًا في المعارضة، ولا يكون حزب الاستقلال –إذا لم يكن في رئاسة الحكومة- بصورة مطلقة وكلية في الحكومة، حتى وهو رسميًا في الحكومة ! ملاحظة : الصيغة التي وردت بها الفقرة الأخيرة من المقال، في جريدة "المساء"، أُدخل عليها هنا تعديل طفيف لم نتمكن، خلال عملية الرقن، من تضمينه في النص الذي أُرسل إلى الجريدة .