يأبى المفسدون ببلادنا إلا معاكسة تطلعاتنا والإصرار على سرقة أجمل لحظات الفرح من قلوبنا، والعبث بأرواح المواطنين الأبرياء في المعامل "السرية". إذ لم نكد نسعد بإحراز اللقب الثاني على التوالي ببطولة كأس أمم إفريقيا للمحلين في كرة القدمة، التي جرت أطوارها في الكاميرون ما بين 16 يناير و7 فبراير 2021، وننسى كارثة مدينة الدارالبيضاء التي أغرقتها أمطار الخير في مطلع شهر يناير وما خلفته من خسائر فادحة بسبب ضعف البنية التحتية وسوء التدبير، حتى باغتنا خبر فاجعة أخرى بمدينة طنجة صباح يوم الاثنين 8 فبراير 2021، قضى خلالها 28 عاملا وعاملة غرقا بعدما حاصرتهم مياه المطر المتسربة إلى وحدة صناعية للنسيج بالطابق الأرضي لإحدى البنايات السكنية في حي الإناس. وهي المأساة الإنسانية التي هزت الرأي العام الوطني، وأثارت زوبعة قوية من ردود الفعل الحانقة، حيث أنه فضلا عن تناقل المواطنين مقطع فيديو يوثق لصراخ العمال المحاصرين وهم يطلبون النجدة، لم يتأخر البرلمانيون بمجلسي النواب والمستشارين في قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء وتوجيه الاتهام مباشرة إلى الحكومة، باعتبارها المسؤولة الأولى على أرواح العمال. وقد دخلت على الخط الجمعية المغربية لحقوق الإنسان محملة والي جهة طنجة- تطوان- الحسيمة قسطا من المسؤولية والمطالبة بإقالته الفورية انطلاقا من مقتضيات الفصل 145 من الدستور، وبناء على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة… ومما زاد من تأجيج نيران الغضب وتعالي أصوات التنديد والاستنكار، خروج السلطات كعادتها في محاولة التمويه والتملص من مسؤولياتها مدعية أن الوحدة الصناعية "سرية"، بينما هي تندرج في القطاع غير المهيكل المنتشر تحت عيونها وبتواطؤ مع بعض المسؤولين. وهو ما لم يستسغه الكثيرون وتناسلت على إثره العديد من الأسئلة، إذ كيف غاب عن العيون التي لا تنام والآذان التي لا يفوتها دبيب "الإرهابيين"، أن تغفل عن وجود مصنع يشغل أكثر من 150 عاملا وعاملة منذ أزيد ثلاث سنوات، فضلا عما تحدثه آلات النسيج ومحركات الشاحنات التي تأتي بالمواد الأولية وتنقل السلع؟ وبعيدا عما إذا كانت السلطات قامت فعلا بفتح تحقيق عاجل تحت إشراف النيابة العامة، للكشف عن ظروف وملابسات الحادث الأليم وتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات، الذي أعاد إلى الأذهان فواجع سابقة ذهب ضحيتها مئات العمال جراء عدم التزام أرباب العمل بمعايير السلامة والصحة في عدد من "المعامل" وعدم توفرها على الترخيص بمزاولة أنشطتها، ولعل أبرز هذه الفواجع اندلاع حريق مساء يوم 26 أبريل 2008 بمعمل "روزامور" المختص في صناعة الأفرشة بالحي الصناعي ليساسفة في مدينة الدارالبيضاء، بعد انتشار النيران سريعا بحكم طبيعة المواد الإسفنجية والكيماوية المستعملة، مخلفة 56 قتيلا وعددا آخر من المصابين بجروح متفاوتة الخطورة… فمن الخزي والعار ان يتواصل مسلسل الاستهتار بالمسؤوليات في بلاد يريد لها قائدها الملك محمد السادس اللحاق بالدول الصاعدة، وأن تستمر السلطات المحلية مركزة كل اهتماماتها على إحصاء حركات وسكنات بعض البسطاء، إذ بمجرد أن يأتي مواطن بمعدات بناء لإصلاح نافذة أو مرحاض حتى يحاصره عون السلطة ورئيس الدائرة، فيما يتم التغاضي عن تجار السموم من خمور ومخدرات، وعن تناسل البنايات العشوائية والكثير من الوحدات الصناعية، التي لا يجيد أربابها عدا استغلال بؤس الفقراء، استنزاف طاقاتهم وصناعة الموت خلف الأبواب الموصدة بالسلاسل والأقفال. ذلك أن فاجعة مدينة طنجة وغيرها من المآسي الكبرى التي عرفتها بعض مدننا، ما كان لها أن تقع وتخلف وراءها أسرا مكلومة، لو كانت هناك مراقبة صارمة وعدم التساهل في تسليم التراخيص بمزاولة أي نشاط صناعي أو تجاري خارج الضوابط القانونية ودون احترام معايير السلامة. فأين وزارة الشغل والإدماج المهني في ما يحدث من فوضى عارمة، وهي التي يفترض فيها السهر على حفظ صحة وسلامة الأجراء وصون كرامتهم الإنسانية، وحرص مفتشيها على تطبيق مقتضيات مدونة الشغل؟ فهل يا ترى قدر الفقراء أن يعيشوا حالة اختناق دائم في بيوتهم وفي وسائل النقل وفي مقرات عملهم ويموتون مختنقين بالدخان أو بمياه المطر في الأقبية المظلمة؟ إن فاجعة طنجة تسائل الضمير الوطني، لأنها أكبر من أن يستوعبها العقل البشري، حيث أن 28 أسرة أصبحت اليوم بدون معيل جراء رعونة المفسدين وفي غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة . ووحده الله يعلم كم هو عدد معامل قطاع النسيج التي تعمل خارج القانون في أقبية الفيلات والبنايات السكنية المعرضة إلى الغرق أو التماس الكهربائي، ليس فقط في مدينة طنجة وحدها، بل في كافة المدن المغربية الكبرى، ويعلم أيضا كم هو عدد الكوارث التي تنتظرنا مستقبلا، إذا ما بقي الحال على ما هو عليه دون حسيب ولا رقيب. إننا لا نريد لهذه الواقعة المؤلمة أن تتحول إلى مجرد رقم في سجل الفواجع، وأن ينتهي التحقيق إلى تقديم كبش فداء للمحاكمة وطي ملف القضية في انتظار مأساة أخرى، بل نريد أن تتم محاسبة جميع المتورطين والمتواطئين في هذه الفاجعة من أصغر الموظفين إلى أكبرهم، التصدي بكل صرامة وحزم لكل المقاولات الصغرى التي تشتغل خارج الضوابط القانونية وتعرض مستخدميها لأسوأ أشكال الاستغلال، والتعجيل بضبطها ووضع برنامج خاص بتأهيلها. وليرحم الله شهداء لقمة العيش المرة، ويلهم ذويهم الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.