عندما ينشر موقع "لكم" ترجمة عن صحيفة عبرية، فإن ذلك لا يدخل في سياق الهرولة نحو التطبيع الذي يشهده المغرب على أكثر من صعيد، وإنما لقيمة الشهادة التي تكشف عن الجانب الخفي في العلاقة السرية بين دولة إسرائيل والمغرب والتي لعبت الاستخبارات في البلدين دورا كبيرا في بلورتها. وهذا التقرير عن صحيفة عبرية بمثابة "شهد شاهد من أهلها"، تؤكد ما كان متداولا من تنسيق بين مخابرات البلدين في ملفات حساسة مثل اختطاف واغتيال الزعيم اليساري المهدي بنبركة، والتنصت على القمة العربية التي سهلت على إسرائيل هزيمة مصر عبد الناصر عام 1967، فيما بات يعرف ب "النكسة"، وتهريب اليهود من أصل مغربي الذين تم بيعهم للرأس الواحدة مقابل مبلغ إجمالي بلغ 50 مليون دولار، تم دفعه إلى حكام المغرب كرشاوى، كما يقول كاتب التقرير. وفيما يلي الترجمة العربية للتقرير. من أكياس الجثث إلى التنصت على مؤتمرات القمة، وتكفير عن خطايا فرانكو إلى مكافحة تمرد "البوليساريو".. هكذا بنى "الموساد" تاريخ العلاقات السرية بين المغرب وإسرائيل، وكاد يدمر أكثر العلاقات السرية ثباتاً بين الدولة العبرية وأي دولة عربية. على مدى عقود من العلاقات الاستخباراتية والعسكرية والسياسية والثقافية السرية بين إسرائيل والمغرب، والتي أضافت أخيراً ثماراً علنية مع الإعلان خلال الأسبوع الماضي عن تطبيع العلاقات بين البلدين. كل رؤساء الموساد المتعاقبين منذ الستينيات – أميت ، زامير، هوفي، أدموني، شافيت، ياتوم، هاليفي، داغان، باردو والرئيس الحالي يوسي كوهين – قاموا بزيارة الدولة الواقعة في شمال إفريقيا والتقوا بقادتها ورؤساء استخباراتها. ولكن على أي أساس تُبنى هذه العلاقة طويلة الأمد، والتي ربما تكون الأكثر ثباتًا بين إسرائيل وأي دولة في العالم العربي؟ في قلب هذا التحالف السري الطويل كان دائمًا الاعتراف البسيط المتبادل بأن التعاون مع بعضهما يخدم البلدين ومصالحهما الوطنية على أفضل وجه. على مر السنين عرفت هذه العلاقات بعض التقلبات وأخذت أشكالا مختلفة، وأحيانًا متناقضة، لكنها ظلت دائمًا صلبة في جوهرها. في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كان لإسرائيل اتصالات مع المغرب الخاضع للحكم الفرنسي، لكن العلاقات اكتسبت زخمًا حقًيقيا بعد حصول المغرب على الاستقلال من الاستعمار الفرنسي في مارس 1956. اليهودي المغربي ينتهي به الأمر مجندا يحارب العرب لقد سمح الفرنسيون لليهود المغاربة بالذهاب للعيش في إسرائيل (وغادر منهم فعلا 70000)، لكن الملك الجديد بعد الاستقلال محمد الخامس قيّد حق اليهود في السفر وحظر هجرتهم إلى إسرائيل و تم إعلان الصهيونية جريمة في عام 1959، كما اعتقد الملك مثل الحكام العرب الآخرين، أن أي شخص ينتقل إلى إسرائيل لن يقوم فقط بتعزيز الدولة اليهودية، ولكن كمجند، يمكن أن ينتهي به الأمر إلى عسكري يحارب العرب، وحتى إخوانه في المغرب. حاول الموساد إيجاد طريقة للالتفاف حول قرار الملك وحشد فريقا من الجواسيس الإسرائيليين (العديد منهم من اليهود المغاربة) وجميعهم من المتحدثين بالفرنسية والعربية، للبحث عن أفضل السبل لانتزاع ما تبقى من 150 ألف يهودي من المغرب. أطلق على الفريق اسم "ميسجيريت (Misgeret) " وكان مسؤولاً ليس فقط عن الهجرة غير الشرعية إلى إسرائيل ولكن أيضًا عن تنظيم وحدات للدفاع عن الطائفة اليهودية من التهديدات والمضايقات من قبل غالبية عربية مسلمة معادية بشكل متزايد. كانت وحدات الدفاع عن النفس مسلحة بالأسلحة وأشرف عليها شموئيل توليدانو ، أحد عملاء "الموساد" منذ فترة طويلة وهي العملية التي استمرت لمدة خمس سنوات. وقد رتبت عملية "ميسجيريت" استعمال سيارات الأجرة والشاحنات لإخراج اليهود من المغرب. وعند الاقتضاء، دفع رشاوى لجميع أفراد الشرطة أو الدرك الذين يرتدون الزي الرسمي على طول الطريق. كان الطريق المفضل للخروج هو المرور عبر طنجة وهي في ذلك الوقت مدينة دولية، ومن مينائها تستمر الرحلة على متن السفن إلى إسرائيل. في وقت لاحق تم استخدام مدينتين على الساحل المغربي بقيتا تحت السيطرة الإسبانية هما سبتة ومليلية كقاعدتين للمشروع، ومن أجل استخدام تلك النقط الإسبانية حصل الموساد على التعاون الكامل من حاكم إسبانيا الفاشي ، الجنرال فرانسيسكو فرانكو. يعتقد "الموساد" أن فرانكو تصرف بدافع الشعور بالذنب بسبب علاقاته بهتلر (والتي تضمنت تسليم قوائم مفصلة عن اليهود الإسبان) ، وحتى ، كما اعتقد البعض نوعا من التكفير عن خطيئة طرد إسبانيا ليهود الأندلس بعد عام 1492. كما اشترى "الموساد" معسكرًا سابقًا للجيش يقع في مستعمرة جبل طارق البريطانية ، على الساحل الجنوبي لإسبانيا وحول أرض المعسكر والثكنة إلى منشأة استقبال ونقل لليهود الخارجين من المغرب. بيع اليهود المغاربة مقابل 50 مليون دولار في 10 يناير 1961 ، انقلب قارب صيد اسمه "إيجوز" (برج الحوت)، كان مكتظًا بالهاربين اليهود سرا من المغرب، في عاصفة بين الساحل المغربي وجبل طارق وغرق 42 رجلاً وامرأة وطفلاً مع عامل راديو في "الموساد"، وأثارت الكارثة التعاطف في الخارج لكنها كشفت عملية "الموساد" السرية، وهو ما أثار غضب السلطات المغربية. أصبحت العملية بأكملها والمساهمون فيها في خطر ، لكن لحسن حظ إسرائيل، مات محمد الخامس في مارس 1961 وحل محله ابنه الملك الحسن الثاني. سعى الملك الجديد إلى تحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة، وقد أقنعته "لجنة التوزيع المشتركة اليهودية الأمريكية" و"الجمعية اليهودية لمساعدة المهاجرين"، وهما منظمتان إنسانيتان يهوديتان أمريكيتان رئيسيتان، بأنه سيربح سمعة جيدة إذا سمح ليهود مملكته بالمغادرة نحو إسرائيل. وفي المقابل، دفعت هذه المنظمات رشاوى للحاكمين الجدد في المغرب، وهي في الواقع عبارة عن مبلغ محدد عن كل رأس يهودي مسموح له بالسفر، وكان الدفع يتم على شكل "تعويض" للحكومة المغربية بزعم استثمار تلك المبالغ في التعليم اليهودي المحلي. وقد دفعت المجموعتان، بدعم من التبرعات اليهودية الأميركية، ما يقرب من 50 مليون دولار لترطيب الخواطر و تمكين ما يقرب من 60000 من يهود المغرب من المغادرة. وقد بدأت مرحلة جديدة من مشروع الهجرة، تسمى "ياخين" وهو اسم إحدى الركائز التي يقف عليها هيكل سليمان، ومرة أخرى كان يديرها ّ"الموساد"، وبهذه الطريقة استطاع 80000 يهودي آخر مغادرة المغرب نحو إسرائيل بين عامي 1961 و1967. ومنذ ذلك الحين، عملت الجالية اليهودية الصغيرة التي بقيت في المغرب كجسر للعلاقات الإسرائيلية المغربية، لا سيما خلال الأزمات. إن مشروع "ميسجيرت"، الذي جمع بين الهجرة والدفاع عن النفس الجماعي والرشاوى، كان نموذجا للعمليات التعاونية والسرية في المستقبل بين "الموساد" و"لجنة التوزيع المشتركة اليهودية الأمريكية"، نيابة عن الجاليات اليهودية الأخرى التي تعاني من التضييق في جميع أنحاء العالم، من الأرجنتين إلى العراق وأوروبا الغربية ثم اليمن وإثيوبيا. التصنت على القمة العربية عام 1965 مقابل رأس المهدي ويعتبر حكم الحسن الثاني الحقبة الذهبية للعلاقات السرية بين البلدين، وهي العلاقات التي يشرف عليها كل من الموساد ونظيره المغربي بقيادة اثنين من المسؤولين الاستخباراتيين والعسكريين: الجنرال محمد أوفقير والعقيد أحمد الدليمي. وسيُقتل الضابطان في وقت لاحق بأمر من الملك، الذي اتهمهما بالتآمر ضده. لقد سمح ثنائي الاستخبارات المغربي ل "الموساد" بفتح محطة في البلاد يوجد في فيلا في العاصمة الرباط، ويديرها عملاء من ذوي الخبرة، من بينهم يوسف بورات ودوف أشدوت. عندما استضاف المغرب القمة الثانية للجامعة العربية في عام 1965، قررت أجهزة الأمن المحلية أن ترتب التصنت السري على غرف الفنادق وقاعات المؤتمر لجميع القادة العرب، من الملوك ورؤساء ورؤساء الحكومة و رؤساء الأركان العسكرية. وعلى الرغم من أن هذه الممارسة قد تكون معتادة نسبياً لأي أجهزة أمنية في جميع أنحاء العالم، فإن تصرفات المغرب كانت تبرهن عن عدم ثقة المغرب في بعض أشقائه في جامعة الدول العربية، وحصلت المخابرات المغربية على التشجيع من طرف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية التي كانت على علاقة جيدة مع الملك الحسن. ولكن ما كان غير عادي حقاً هو مشاركة دولة معادية رسمياً في عملية التنصت: إنها إسرائيل. ووفقا لتقارير أجنبية، كان عملاء "الموساد" حاضرين أيضا ويساعدون نظرائهم المحليين في عملية التنصت وتبادل المعلومات. وفقاً لهذه التقارير، ساعد المغرب عملاء "الموساد" في بلدان عربية معادية مثل مصر، التي كانت آنذاك العدو اللدود لإسرائيل. لكن الموساد سرعان ما أدرك أنه في عالم التجسس، لا توجد خدمات مجانية. وتوقع المغاربة المقابل الذي اتخذ شكلا كاد أن يهدر عقوداً من العمل لبناء التحالف السري بين إسرائيل والمغرب. كان أوفقير والدليمي قد طلبا من رئيس الموساد مئير أميت في عام 1965 اغتيال المهدي بن بركة، زعيم المعارضة المغربية الكاريزمي وكبير معارضي الملك الحسن الثاني. وتشاور أميت مع رئيس الوزراء ليفي إشكولحول هذا الطلب الفريد من نوعه: أن تصبح "الموساد" مرتزقة المغرب في عملية قتل سياسية داخلية. رفض إشكول الطلب، لكنه سمح ل "الموساد" بمساعدة المغاربة في تحديد مكان وجود بن بركة، وقد أخبرني رافي إيتان ، رئيس عمليات الموساد في أوروبا ، منذ عدة سنوات (توفي إيتان في عام 2019): "لقد فوجئت بمدى سهولة ذلك". "أخبرنا المغاربة أن بن بركة في جنيف. سألت أحد مساعدينا ووجد العنوان في دفتر هاتف محلي". استدرج عملاء مغاربة ، بمساعدة من رجال الشرطة والأمن الفرنسيين السابقين الذين انتحلوا صفة طاقم إنتاج فيلم، بن بركة إلى مقهى "ليب" في باريس واختطفوه في وضح النهار. وكان أقرب شركاء "الموساد" في المغرب، أوفقير والدليمي، قد استجوباه شخصياً وعذباه حتى الموت. ولم يتضح ما إذا كانوا يعتزمون قتله. أصيب الدليمي بالذعر، وهرع ليطلب من إيتان خدمة أخرى: المساعدة في التخلص من الجثة. وذكرت تقارير أجنبية أن إيتان فتح خريطة أشارت إلى المنطقة المشجرة الخضراء فى "بوا دبولون" قرب باريس وطلب منهم شراء كيس من الاسيد ولف الجثة فيها ودفنه هناك . ولم يتم انتشال جثة بن بركة أبدا لكن عملية الاغتيال تسببت في عاصفة دبلوماسية وسياسية في فرنسا والمغرب وإسرائيل. وطلب الرئيس الفرنسي شارل ديغول تفسيرات من إسرائيل وهدد بإغلاق مكتب الموساد في باريس التي كانت آنذاك مركزها الرئيسي للعمليات الأوروبية. وفي إسرائيل، أُنشئت لجنة تحقيق للإجابة على السؤال الرئيسي: من الذي أعطى الأمر بالمشاركة في المؤامرة. وأوضح رئيس الموساد أميت ورئيس الوزراء إشكول أن إسرائيل متورطة بشكل غير مباشر فقط في عملية القتل، لكن روايتهما لم يثق بها أحد … هذا الطلب المغربي المشؤوم سوف يستمر كسابقة لكيفية رد "الموساد" عندما تطلب العديد من الأجهزة الأمنية الأخرى المساعدة للتخلص من خصومها السياسيين. منذ كارثة بن بركة بدأ الموساد يرفض دائما تلك الطلبات. وبعد عامين، حققت إسرائيل نصراً سريعاً في حرب الأيام الستة عام 1967، وكانت الهيبة الإسرائيلية في ازدياد، مما ساعد على رفع مستوى العلاقات مع المغرب. تم بيع فائض السلاح الإسرائيلي – الدبابات والمدفعية الفرنسية الصنع – للجيش المغربي. ومع ذلك، لم تمنع هذه العلاقات المتينة الملك الحسن الثاني من إرسال قواته للمساعدة في المجهود الحربي المصري السوري ضد إسرائيل في عام 1973. وردا على ذلك، أمر رئيس الموساد اسحق هوفي بوقف التعاون مع المغرب. الحسن الثاني وخطاب السادات أمام الكنيسيت لم يستمر الخلاف طويلا. في عام 1977 ، استضاف الملك الحسن لقاءات سرية بين الموساد ومصر مهدت الطريق لخطاب السادات التاريخي أمام الكنيست ومعاهدة السلام الموقعة بين القدس والقاهرة ، وهي الأولى من نوعها بين إسرائيل والحكومات العربية. ثم سرعان ما عادت العلاقات الإسرائيلية المغربية إلى مسارها الصحيح في جميع المجالات: المعدات العسكرية الإسرائيلية والمستشارون والخبراء الإسرائيليون يعلمون نظرائهم المغاربة تكتيكات مناهضة التمرد لمحاربة جبهة البوليساريو. بعد عملية السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية واتفاقات أوسلو ، وعلى خطى دول عربية وإسلامية أخرى ، افتتح المغرب بعثة دبلوماسية منخفضة المستوى في تل أبيب. بعد الانتفاضة الثانية، أمر الملك محمد السادس، الذي ورث العرش من والده الراحل حسن، بإغلاق البعثة في عام 2000. لكن العلاقات غير الرسمية ظلت دائمًا مستمرة وهو ما يسمح لمليون إسرائيلي الاعتزاز بأصولهم المغربية وقد سُمح لهم ولإسرائيليين آخرين بالسفر إلى المغرب والتجول فيه كما أن التبادل التجاري في ارتفاع مستمر و العلاقات الاستخباراتية والعسكرية بين البلدين أفضل من أي وقت مضى. إن إعلان التطبيع الأخير يضفي طابعاً رسمياً علنياً على ما كان علاقة سرية طويلة بين إسرائيل والمغرب، زرعها واعتني بها "الموساد". وهو مثال تقليدي على قيام "الموساد" بدور ذراع إسرائيل في السياسة الخارجية، ولن يكون مفاجئاً أن تخرج العلاقات مع دول أخرى مثل عُمان والمملكة العربية السعودية وإندونيسيا، حيث تولت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أيضاً زمام القيادة، إلى العلن أيضاً، مع إقامة علاقات دبلوماسية رسمية.