في الحاجة إلى مزيد من إشراك الاعلام في كتابة المذكرات القيادي الاتحادي السابق محمد الحبابي استطاع أن يضفي على مذكراته التي تنشرها "المساء" طابعا خاصا، ويجعل منها نصا تاريخيا مهما، عندما رفع الستار عن المستور، وأخرج إلى العلن، بدهاء، تلك الشبهات التي تحوم حول وفاة الملك محمد الخامس، والمرض الذي ألم الحسن الثاني أواسط التسعينات، وكواليس مرحلة التناوب المغشوش.. ولعله برهن للاجيال الحاضرة والقادمة على الشجاعة التي تسلح بها وهو يلقي شهادته على حقبة حساسة من تاريخ المغرب، في زمن الانتهازية والذل والخنوع، عندما دعا الملك محمد السادس الى التبرع للشعب نصف ثروته! من الطبيعي أن تلقى شهادته تجاوبا كبيرا من قبل الرأي العام الرقمي، والمهتمين بالشأن الإتحادي على وجه التحديد. قبل ان نسترسل لنتفاعل بدورنا مع محطة أو محطتين من شهادة الحبابي، قد يسال سائل لماذا كل هذا الاهتمام بالمذكرات، التي تبقى في آخر المطاف رواية، من بين روايات أخرى، تعبر في الغالب عن وجهة نظر صاحبها في الاحداث التي عاشها، وكان فاعلا فيها (الذاتية والموضوعية في الكتابات التاريخية).. مع أن هناك معاهد اكاديمية متخصصة بدراسة التاريخ بعيدا عن المؤسسة الرسمية.. الخطوط الحمراء في كتابة التاريخ عندما يستفيض الأستاذ المهدي المنجرة شافاه الله في تشخيص الأمراض التي تنخر جسد الدولة المغربية منذ عهود، وطغيان الطابع البوليسي الأمني عليها، وانعدام التخطيط الإستراتيجي بعيد المدى، والخيانة التي تمارسها النخبة بحق شعبها، وإيمانا منه بأن التاريخ هو العنصر الأساسي لفهم الحاضر وتغييره وتغيير المستقبل، يطلق النار على المؤرخين، يآخذهم على الرضوخ لإملاءَات السلطة والانكباب على العصور القديمة والوسطى، والهروب من دروب التاريخ المعاصر الصعبة الملغمة بالأشواك ! وعندما تزيد به الحرقة يضع اليد على الجرح ويسوق مثالا على تلك الاشواك فيقول بلغته المعهودة "إنهم لا يريدون لنا ان نعرف كيف استعمر المغرب، ولماذا استعمر، وكيف خرج المعمر، وكيف لا نزال مستعمرين ! ". ما العمل إذن أمام تحفظ المؤرخين المغاربة، أو بالأحرى تواطؤهم، والخنق الممنهج وغير الممنهج للصحف، والحصار المشدد على منابع المعلومة؟ تبقى الدراسات التاريخية الأجنبية القليلة التي تعاطت مع تاريخ المغرب المعاصر غير كافية لكي تروي ظمأ القارئ الساعي وراء الحقيقة، ليجد نفسه أمام المذكرات السياسية علها تكشف النقاب عن قضايا لم تكن مطروحة من قبل، أو معلومات من شأنها إماطة اللثام عن الأحداث المثيرة للجدل التي تزخر بها العقود الماضية. وبعبارة اخرى، في غياب المؤرخ وآلياته ، يلعب كل واحد منا دور "المؤرخ الهاوي"، او "الصحفي المواطن المحقق"؛ يتقصى، يحلل، ويفسر، ليخلص إلى نتائج.. المذكرات بين الكتب ووسائل الإعلام اليوم نعيش في زمن آخر، زمن التغيير، فأصبحنا أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى مراجعة التاريخ لفهم الحاضر وبناء المستقبل، ما أحوجنا إلى توسيع دائرة انتشار "التأريخ الهاوي"، ومن أبرز التحديات هي الأشكال التي تتخذها المذكرات السياسية، وتتضارب الآراء بهذا الخصوص؛ عندما انتهت محطة الجزيرة من بث الحلقات التي خصصتها لمذكرات المناضل أحمد المرزوقي شافاه الله هو الآخر اندهش الاخير بالكم الغزير من المراسلات التي تلقاها بعد شهادته تلك وعلق على ذلك قائلا " اليوم تأكدت فعلا ان الأمية لا تزال تضرب أطنابها في مجتمعنا ! كل ما أوردته في شهادتي على العصر، سبق أن دونته قبل سنوات، في كتابي، مثلما فعل غيري، لكني أتفاجأ اليوم أن الناس لم يطلعوا عليها !". قد تجد من الناس من يستلذ التشفي والشتيمة ويلقي باللوم على الفئة الامية ويحملها المسؤولية عن أميتها، لكن التفسير الشافي لملاحظة صديقنا المرزوقي، يجده الباحث المهدي المنجرة بين أشواك التاريخ المعاصر إذ يرى أن " المسؤول عن ارتفاع نسبة الأمية في المغرب هو (الحسن الثاني) الذي رفض الإنخراط في أكبر برنامج لمحاربة الامية أطلقته اليونسكو سنة 1967". أكيد ان تفشي الأمية يقدم تفسيرا لانتشار المذكرات التي تبث على وسائل الإعلام السمعية البصرية، على حساب تلك التي تدون في الكتب، لكننا هاهنا أمام مشكل أكبر يتمثل في غياب ثقافة المطالعة (الأمية الثقافية) في مجتمعنا، وكلنا يذكر أن أحمد بوزفور رفض تسلم الجائزة الكبرى للكتاب سنة 2001 بسبب تدني أرقام مبيعات الكتب في بلادنا. ويظل الاعلام المكتوب، الالكتروني والورقي، منزلة متوسطة بين المنزلتين التفاعلية نقطة قوة الاعلام إن ما يمز المذكرات التي تنشر أو تبث على وسائل الاعلام أمران: الاول: أنها تتخذ شكل حوارات. وهنا يدخل عنصر آخر، علاوة على مدى إدراك المحاوَر للمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، وثقل الامانة امام الاجيال الحاضرة والقادمة، يستطيع الصحفي بفضل كفاءته ومهنيته واطلاعه الشامل على المعطيات التي تخص الموضوع، أن يغوص إلى أقصى مدى في ذاكرة وصدر الشاهد الثاني: التفاعلية، حق الرد يجعل من الشهادة في بعض أطوارها محط جدل بين الشاهد وردود الفعل والاطراف الاخرى التي تربطها علاقة مباشرة او غير مباشرة بالمحطات التي يتحدث عنها. وهكذا تستطيع التفاعلية أن تختصر الطريق أمام القارئ الساعي وراء الحقيقة (المؤرخ الهاوي)، وتنتصر للحوارات الصحفية ليس فقط على حساب الكتب بل أيضا على الافلام الوثائقية التاريخية رغم اهمية العمل الذي يقوم به المنتج بهدف تقصي الحقائق، ومطابقة الشهادات، من خلال التركيز على التعددية والتنوع عند اختيار الضيوف، وكرونولوجية المقابلات. ويمكن ان نرصد هاتين الميزتين في المثال الذي بين ايدينا، اي شهادة الحبابي: رغم ان الحوار اتخذ في معظمه شكل سرد احادي، وهذا مفهوم لأن الضيف لم يكتب في حقه الشيء الكثير، وخاض في امور لم تكن معروفة من قبل، فان الزميل سليمان الريسوني استطاع غير ما مرة ان يضع الحبابي بطريقة أو بأخرى أمام ثقل المسؤولية كشف القيادي الاتحادي عن العديد من الاختلالات التي تورط اسماء بارزة في قيادة الاتحاد، ولم نسمع منها نفيا او اي ردة فعل، منها ادريس لشكر، عبد الرحمان اليوسفي، عبد الهادي خيرات.. وآخرين يمكن للقاريء الكريم ان يعود إليها في ارشيف المساء. عدا نجل الحليمي ربما هو الوحيد الذي اصدر نفيا في مسالة الفيلا، وقد شفع السن للحبابي حسب زعم الحليمي من الملاحقة قضائية.. ورغم ذلك فانه لم يثن الحبابي وعاد إلى اتهام الوالد لحليمي بالتواطؤ مع لادجيد.. مما غاب عن مذكرات الحبابي غاب المهندس الإتحادي يوسف أزواوي، وملابسات وفاته/اغتياله. وكان رئيسا لاتحاد المهندسين المغاربة قبل أن يلقي حتفه سنة 1986 في حادثة سير تعتبرها قيادة الإتحاد مشبوهة "تدخل في سياق الصراع بين الحسن الثاني والحزب" (كلمة اليازغي في الذكرى 21 لوفاة ازواوي). وغابت ملابسات المحاولة الإنقلابية التي اجهضت سنة 1973 بعد أن عثرت عناصر الدرك على كميات كبيرة من السلاح على ظهر شاحنة في حاجز بين أزرو وميدلت، وتورطت فيها اسماء اتحادية، احدهم لم يكن سوى مرزوق لحسن رحمه الله الذي خصصت له مجلة "النشرة" صفحات كاملة، روى فيها شهادته عقب ظهوره سنة 1987 بعد اختفاء دام 14 سنة في سرداب في بيت والده في نواحي الرشيدية. وقد صدر في حقه حكم غيابي بالاعدام سنة 1973 مع آخرين، وعفو ملكي "غير مفهوم" سنة 1984. مرض الحسن الثاني بين رواية ادريس البصري ومحمد الحبابي المرض الذي ألم الحسن الثاني، والذي كان سبب وفاته، حسب رواية وزير الداخلية السابق ادريس البصري في منفاه الباريسي لكاتب السطور، هو سرطان المستقيم، آخر اقسام الجهاز الهضمي وليس الرئة. وقد اكتشف ذلك فعلا خلال زيارته المعروفة الى الولاياتالمتحدة سنة 1995، واقترح عليه الاطباء فيما بعد حلا تمثل في زرع مخرج اصطناعي، الا انه رفض بسبب الروائح الكريهة جدا التي تنبعث من المخرج الإصطناعي إذ تحول المرء إلى مرحاض متنقل، وفضل مواصلة العلاج الكميائي.. وقد ضربت السرية التامة على نوعية المرض، وهناك من ذهب إلى الجزم ان مرض الملوك سر من اسرار الدولة العلوية، ونتفق مع هذا الطرح، لأنها، أي السرية، وظفت استراتيجيا لتدجين المعارضة. ووفاة الحسن الثاني لم تكن يوم الجمعة 23 يوليوز كما أشيع. بل يوم الخميس 22 يوليوز، اي يوما قبلها. وينقل الراحل البصري تفاصيل الدور الذي لعبه الجنرال حميدو لعنيكري خلال ذلك اليوم (يمكن ان نعود الى التفاصيل في مناسبة اخرى). ولعل أبرز ما يؤكد هذه الرواية هو كون العنيكري انتقل فجأة من كولونيل مغمور في لادجيد الى جنرال لا يشق له غبار. ورغم الملفات الشائكة التي ثبت تورطها فيها بعدها فان القصر لم يعفه او يحله على التقاعد بل عينه في منصب القوات المساعدة كما هو معروف.. وحتى لا ننسى.. بما ان عامل "السِّن" يشكل حصانة قانونية في أدبيات آل الحليمي، نتمنى ان نسمع من أحد "المسنين" ماذا ومن وراء المحاكمة التي نجا منها إبن الرجل الذي فهمنا فقط اليوم كيف كان يوصف بالرجل القوي في حكومة اليوسفي، وراح ضحيتها عبد الاله ايزو مدير امن القصور الملكية السابق، المعتقل حاليا في سجن عكاشة، ويكشف لنا عن لائحة الأسماء النافذة التي تورطت في القضية وتم غض الطرف عنها! على سبل الختم إن الأنظمة الإستبدادية التي تعول كثيرا على تزوير ومحو التاريخ للإحكام قبضتها على الشعوب باتت متجاوزة في زمن الثورة الإتصالاتية التي مكنتنا من تحدي الرقابة وتوثيق الأحداث بالصوت والصورة، ليراها العالم في حينها وتظل شاهدة امام الأجيال القادمة التي بنقرة فأرة تستطيع أن تعرف الصالح من الطالح، والصادق من المنافق، والخائن من الوفي، والسفاح ومن الشهيد.. فلم لا إذن حوارات تحفر التاريخ خصوصا ان تكلفتها المادية لا تتطلب الشيء الكثير ( كاميرا وميكروفون)، وتبث على المواقع الاخبارية عبر حلقات، علها تخفف علينا سلطة هذا الغول المسمى "تاريخ المغرب المعاصر". دون أن نغفل رموز المقاومة في الارياف واعالي الجبال، وضحايا القصف المسلح الذي تعرضت له منطقة الريف أواسط القرن الماضي. أكيد أن عددا ممن يحتكرون وصف جيل الحركة كانوا مقربين من صانع القرار، والتاريخ في حاجة الى شهاداتهم، ومن المؤكد أيضا ان نسبة مهمة منهم نريد أن نراها في اقفاص العدالة قبل ان تكتب مذكراتها، ونسبة اخرى، مهمة ايضا، لا نريد ان نسمع شهادتها حتى وإن صارت من أهل القبور.