لا فرق بين تشكل إسرائيل وأمريكا. لقد قامتا معا على أساس الهجرة والنزوح من أوروبا إلى الغرب الأمريكي، ومن أي مكان يوجد به يهود إلى الشرق في فلسطين. لم يكن الهدف استعماريا ولكن استيطانيا. ولا يعني الاستيطان سوى إبادة السكان الأصليين، وتهجيرهم قسرا خارج بلدانهم. وكان ذلك بأقصى وأقسى درجات التنكيل والعنف والعسف. وتم استقدام الزنوج من أفريقيا ليكونوا عبيدا في خدمة السيد الأمريكي، تماما كما منح الاعتراف بيهودية بعض أفارقة إثيوبيا ليكملوا الصورة الأمريكية في إسرائيل: شتات من أصول متعددة، لتشكيل هوية مجتمع على حساب شعوب أصلية. وستأخذ الصورة المشتركة في التشكل صورة التطور نفسها مع فارق جوهري هو أن تتحول إسرائيل لضمان استمرارها وبقائها لأن تصبح ولاية أمريكية في الشرق الأوسط. كانت تقف وراء تأسيس إسرائيل بريطانيا في خضم الحرب العالمية الأولى (1917) ثم فرنسا والغرب كله بعد الحرب الثانية (1948). كان وراء التأسيس توزيع تركة الرجل المريض كما كانوا يسمونه على النحو الذي يعطي لليهود وطنا قوميا. كما كان الدعم بعد الحرب الثانية بذريعة التعويض عما لحق باليهود من النازية. تباينت مواقف الدول العربية من القضية الفلسطينية في مرحلة تشكل فكرة الدولة الصهيونية بسبب حداثة تشكل بعضها خلال الانتداب البريطاني، أو خضوع بعضها الآخر للاستعمار الفرنسي والإسباني والإيطالي. لكن التطور الذي حصل في الخمسينيات والستينيات بعد النكبة (1948) والنكسة (1967) والتي صاحبتها على المستوى العالمي الحرب الباردة بين النظامين الرأسمالي بقيادة أمريكا، والاشتراكي تحت إمرة الاتحاد السوفييتي، جعل الدول العربية تتوزع بين هذين القطبين تحت مسمى الدول الرجعية والتقدمية. وبما أن التوجه العام على المستوى الشعبي العربي كان يميل نحو الانعتاق من آثار الاستعمار ومخلفاته، صارت القضية الفلسطينية رأس حربة المواجهة مع الأنظمة الرجعية والهيمنة الأمريكية الغربية. فكان الحماس الشعبي العربي قويا للانتصار للقضية الفلسطينية. وما كان على الفلسطينيين سوى السير في اتجاه التيار فكان ما يجري في الدول العربية منعكسا على القضية سلبا وإيجابا، من خلال الانحياز إلى طرف دون آخر، والاصطفاف إلى جعل تحرير فلسطين جزءا من تحرير الإنسان العربي، واعتبار النضال من أجل تحرير الإنسان جزءا من تحرير الأرض المغتصبة. وفي هذه الحقبة برزت أمريكا قوة تريد بسط هيمنتها على العالم من خلال مواجهتها للاتحاد السوفييتي، فكان دعمها اللامشروط واللانهائي لإسرائيل تعبيرا عن التصدي لأي رغبة في جعل المنطقة تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي الذي كانت مختلف الحركات السياسية العربية من القوميين إلى اليساريين تسانده في حربه ضد الإمبريالية الأمريكية. إذا كانت إسرائيل مدعومة، وبلا شروط، من الغرب وأمريكا بصورة مطلقة. كانت فلسطين موزعة بين أهواء الدول العربية والفصائل الفلسطينية والخلافات القائمة بينها، وفق شروط خاصة تمليها هذه الدول أو تلك. وحدت حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 العرب جميعا حكومات وشعوبا، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي احتلت فيها القضية الفلسطينية موقعا مهما في نطاق الصراع العربي الإسرائيلي وتجلى ذلك بصورة واضحة على المستوى العالمي أيضا. وجاءت سنة 1977 لتكون منطلقا جديدا لإبراز التناقض العربي حول القضية، حين قرر أنور السادات التوجه إلى إسرائيل. فقامت جبهة الصمود والتصدي بإعلان النفير ضد هذا التوجه، وكانت اتفاقية كامب ديفيد (1978) تشخيصا للصراع العربي العربي الكامن، وتأكيدا للتفاوت في رؤية الصراع مع إسرائيل، ومن يقف وراءها، وكان الفلسطينيون فيما بينهم جزءا من هذا الصراع. انهار جدار برلين (1989) معلنا نهاية الحرب الباردة، وبدأت القضية الفلسطينية تأخذ مسارا جديدا، وخاصة مع اتفاق أوسلو (1993) حيث بدأ الحماس الذي كان مهيمنا في الستينيات والسبعينيات يتراجع باطراد، وليس للقضية الفلسطينية سوى الدعم الشعبي العربي الذي ظل يتعامل معها باعتبارها قضيته الخاصة. عملنا في هذه الصيرورة على إبراز التباين بين إسرائيل وفلسطين من جهة العامل المساعد والمعيق. كان العامل المساعد لإسرائيل يستند إلى قوة الفعل، بينما العامل المساعد لفلسطين يكتفي بقوة الخطاب. كانت قوة الفعل تحقق واقعا جديدا على الأرض، وتراكم المنجزات حتى ضد القوانين الدولية التي كانت إسرائيل نفسها تعترف بها. أما قوة الخطاب فكانت تكتفي بإعلان الموت لأمريكا وإسرائيل؟ ترتهن قوة الفعل إلى وحدة في الرؤية للصراع العربي الإسرائيلي لدى مختلف المكونات السياسية والحكومات المتعاقبة التي تعمل على تحقيق أحلام المستوطنين في إقامة إسرائيل الكبرى (الدعوى النصية الصهيونية) وكان ذلك يتم من خلال صناديق الاقتراع التي يتحدد من خلالها صوت الناخب الإسرائيلي (خرافة الديمقراطية الإسرائيلية؟). لذلك كان التنافس الانتخابي على أشده بين من يحقق الأكثر من الإنجازات لفائدة إسرائيل. وكان اللوبي الصهيوني العالمي وراء مراكمة الإنجازات التي تخدم التطلعات الصهيونية، وكان الدعم الأمريكي بلا حدود. بالمقابل نجد قوة الخطاب ترفع شعارات الصمود والتصدي والممانعة والموت لإسرائيل وأمريكا وهلم شعارات، أو تكتفي ببيانات التنديد، والمظاهرات، وجمع التوقيعات، أو شجب بعض الممارسات المشينة التي ترتكبها ميليشيات المستوطنين بتوجيهات من الدولة الصهيونية. مع أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر ستصبح مقولة الإرهاب تختزل كل التناقضات بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والعالم، بقيادة أمريكا. وستصبح القضية الفلسطينية على الرف، ومهمشة على المستويات كافة. وجاءت أحداث الربيع العربي لتقول: كفى من تاريخ لم تتولد عنه سوى النكبات والنكسات، والخلافات، فصار الصراع موجها داخل البيت العربي، ولم يستفد من ذلك إلا من فرضوا أنفسهم ليكونوا جيرانا مزعجين! تستغل إسرائيل هذه التطورات لتحقيق المزيد من المنجزات، وعلى رأسها توسيع دائرة المستوطنات، وتأتي صفقة القرن لتؤكد قوة الفعل الذي تلعب فيه أمريكا الدور الأكبر في فرض إسرائيل على المنطقة، بعد انشغال العرب بواقع جديد لا يخدم القضية الوطنية لأي بلد عربي، بله أن يفكر في القضية الفلسطينية. هناك مسافة ضوئية بين قوة الخطاب، وقوة الفعل. لذلك لا عجب أن نجد قوة الخطاب تتحول إلى ضعف في الفعل، وقوة الفعل تتحول إلى قوة في الخطاب. عندما كان نتنياهو يتبجح خِطابيا وخَطابيا بأنه يطبّع مع العرب بناء على القوة كان في الحقيقة لا يعبر إلا عن ضعف الواقع العربي، وليس عن قوة إسرائيل. إن قوة إسرائيل بدون قوة أمريكا لا وجود لها. وهاتان القوتان مبنيتان معا على قوة أخرى لا تتحقق إلا من خلال صناديق الاقتراع، أي أصوات الناخبين الذين يعتبرون مواطنين. أما قوة الخطاب فلا علاقة لها بالمواطن، ولا بصناديق الاقتراع لأنها تتصل بهوى النظام، لذلك فهو يستقوي بقوة الفعل الخارجية ليستمر في الوجود. لا عجب إذن مرة أخرى أن تتراكم الصراعات العربية على السلطة، وتكثر الصراعات بينها، وعلى الانحياز إلى من يملك قوة الفعل، أو وهو يعمل على ابتزاز العرب انتصارا لقضيته . لكن الأيام دول والدهر قلب، وأمريكا اليوم ليست هي أمريكا الأمس القريب، ولن تحتكر قوة الفعل أبد الدهر. ومتى تقلص نفوذ أمريكا، فتلك نهاية إسرائيل. لا يمكن للربيع العربي إلا أن يستمر، وإن كان يتوقف، فهو قابل للاستئناف. القضية الفلسطينية الآن في يد الفلسطينيين دون غيرهم. فماذا استفادوا من تاريخ القوة والخطاب؟