صدرت الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب عام 1979. وإن صدرت الترجمة الفرنسية لبعض المقالات، فإن النص الكامل لم يصدر إلا مؤخرا عن دار سندباد للنشر التابعة لمنشورات آكت سود. منذ صدور الطبعة الأصلية، شهد الشرق الأوسط أحداثا في غاية الخطورة، أهمها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، اندلاع الانتفاضة في شهر دجنبر 1987، أزمة الخليج سنة 1990 و1991، انعقاد مؤتمر دولي من أجل السلام في الشرق الأوسط في بداية 1991 وإن أضفنا إلى سلسلة الأحداث هذه التحولات التي وقعت في أوربا الشرقية، تفتت الاتحاد السوفييتي، تحرير نيلسون مانديلا، استقلال ناميبيا، نهاية الحرب في أفغانستان، وعلى المستوى الإقليمي اندلاع الثورة الإيرانية، نلاحظ أننا دخلنا عالما جديدا لا يقل خطورة وتعقيدا عن العالم القديم. غير أن القضية الفلسطينية بقيت وللأسف معلقة بالكامل. خاصية إدوارد سعيد الثقافية، وذلك على خلفية موقع الحسم العلمي الذي يميزه، هي انتماؤه وانصهاره في تاريخ لفه عن قصد مسلسل محو النسيان السياسي للذات الفلسطينية ولتاريخ وطن اسمه فلسطين. ويبقى، بهذا المعنى، صلب مشروعه الثقافي والسياسي والمجتمعي، إعادة قراءة في طيات هذا النسيان مع مناهضة كل محاولات الطمس العنيف للهوية الفلسطينية. ومن موقع سلطة القرار السياسي العالمي، أي الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث قلب تجدر اللوبي الصهيوني في نسيج هذا المجتمع، أسس إدوار سعيد مشروعا تفكيكيا امتد إلى مجموع الغرب الذي تبقى صورة الفلسطيني العالقة في ذهنه هي حد الإرهابي، «المتطرف الإسلامي» إلخ... ويبقى إنتاج إدوارد سعيد في مجمله يحمل بصمات الشتات مع رغبة الحفاظ على مقومات الذات الفلسطينية وتاريخها الخصيب. في هذا الكتاب، كان طموح إدوارد سعيد التوجه إلى القارئ الغربي لتصحيح تصوره عن الفلسطيني ولنزع غشاوة الدعاية الصهيونية عن فكره، وذلك فيما يخص الفلسطيني، تاريخه، مواجهته للآلة الصهيونية والتمويه الذي يعتبر وقودها الذي لا ينضب. حتى وإن حملت بعض النصوص توقيع زمنها، فإن رؤية إدوارد سعيد لم تخطئ، على الأقل فيما يخص فشل المفاوضات، أسطورة السلام، واستمرار إسرائيل في سياسة نكران مقومات كل ما هو فلسطيني. صدرت الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب عام 1979. وإن صدرت الترجمة الفرنسية لبعض المقالات، فإن النص الكامل لم يصدر إلا مؤخرا عن دار سندباد للنشر التابعة لمنشورات آكت سود. منذ صدور الطبعة الأصلية، شهد الشرق الأوسط أحداثا في غاية الخطورة، أهمها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، اندلاع الانتفاضة في شهر دجنبر 1987، أزمة الخليج سنة 1990 و1991، انعقاد مؤتمر دولي من أجل السلام في الشرق الأوسط في بداية 1991 وإن أضفنا إلى سلسلة الأحداث هذه التحولات التي وقعت في أوربا الشرقية، تفتت الاتحاد السوفييتي، تحرير نيلسون مانديلا، استقلال ناميبيا، نهاية الحرب في أفغانستان، وعلى المستوى الإقليمي اندلاع الثورة الإيرانية، نلاحظ أننا دخلنا عالما جديدا لا يقل خطورة وتعقيدا عن العالم القديم. غير أن القضية الفلسطينية بقيت وللأسف معلقة بالكامل. مقاومة الفلسطينيين لجميع الويلات بعد عقدين على مذبحة شتنبر الأسود، فإن أهم ما يميز الحياة الفلسطينية هو السلب، المنفى، الشتات، التبعية ( للاحتلال الإسرائيلي)، ومقاومة عامة وعنيدة لجميع هذه الويلات. على الرغم من آلاف الضحايا والجرحى لم تخب عزيمة الحركة الوطنية التي، بالرغم من العديد من الانتصارات على مستوى كسب المشروعية والدعم، لم تجد منهجا لاحتواء المحاولات المتكررة لإسرائيل لقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وكذلك أراض عربية أخرى. وتبقى اليوم مفارقة التفاوت بين الانتصارات السياسية، المعنوية والثقافية واجترار خيبة فقدان الأرض في قلب الحيرة الفلسطينية. في الوقت الذي شددت فيه الدول العربية على قداسة القضية الفلسطينية لإيجاد حل عادل، فإنها عاملت الفلسطينيين معاملات شنيعة، حيث مارست ضدهم الاضطهاد، الحبس، الملاحقة، مثل ما حدث في الكويت. هكذا، فالمشكل الفلسطيني الذي تم اعتباره مشكلا مركزيا في الخطاب العربي الرسمي، ناقضته العلاقات مع الفلسطينيين كشعب وكمجموعة سياسية. يحيلنا هذا التناقض إلى عام 1967، لأن انبثاق الحركة الفلسطينية غداة حرب أكتوبر قام على الرغبة في تعويض الهزيمة التي عرفتها الجيوش العربية. وعليه فإن العلاقة النقدية الكائنة بين النشاط الفلسطيني ونظام الدول العربية تبقى علاقة بنيوية وليست ظرفية. بتطور حركة التحرير الفلسطينية عند نهاية الستينيات انبثقت لأول مرة في الخطاب السياسي العربي، ظاهرة الكوسمبولية مع بروز أسماء مثل فرانتز فانون، ماو تسي تونغ، تشي غيفارا الخ... انبثقت حركة سياسية قادرة على إنجازات أهم بكثير مما قامت به الدول العربية. وعلى الرغم من المجابهات التي تمت بين الفلسطينيين والعديد من الحكومات العربية، ( سوريا، الأردن، لبنان، الكويت، العربية السعودية)، فإن ثمة بعدا أساسيا لا بد من الإشارة إليه، ألا وهو أن جميع الفلسطينيين يعرفون بأن هويتهم الرئيسية هوية عربية وبأن صراعهم وكفاحهم يتم في مجال عربي وإسلامي. هذا دون الحديث عن الأواصر الوثيقة بين القضية الفلسطينية والقضية العربية والطريقة التي أصبحت فلسطين تمثل فيها ما هو حي ومتكامل في القضية العربية، أي التضامن والشجاعة. الفلسطينيون في الخطاب الغربي يشير إدوارد سعيد إلى أن وعي الغرب بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني بدأ يتغير مع تأسيس منظمة التحرير كممثل شرعي. ويذكر بما كتبه الصحفي الأمريكي توماس ل فريدمان في تعليقه بصحيفة نيويورك تايمز حين أشار إلى أن الفلسطينيين تحركوا بحزم لتغيير أوضاعهم وبسبب رد فعل اليهود الإسرائيليين. لأول مرة نظر الإعلام الغربي إلى الفلسطينيين بمعزل عن «المجموعة» العربية، سواء خلال أحداث عمان أو أثناء أحداث بيروت. وقد شكلت مجازر صبرا وشاتيلا قمة هذا الحدث. عامل آخر لوقع قوي هو حمل القضية الفلسطينية من طرف أطراف عربية أو دولية، سواء كانت دولا أو مؤسسات، مثل الجامعة العربية، اليونسكو، إرلندا، النامسا، الدول السكاندينافية، منظمة الوحدة الإفريقية، الفاتيكان... دون الحديث عن المنظمات غير الحكومية. وتبقى النقطة السوداء هي الحيطة التي سلكتها أمريكا تجاه القضية الفلسطينية وذلك بسبب شرطة فكر اللوبي الإسرائيلي. ومن بين الحقائق العينية أن بعض منتجي التليفزيون الأمريكي يستشيرون القنصل الإسرائيلي في موضوع إشراك الفلسطينيين في برامجهم. فاللوبي الإسرائيلي يخرج إلى الشارع في مظاهرات عندما يعبر الفلسطينيون عن آرائهم، كما ينشرون قوائم سوداء لأعداء إسرائيل. كما أن العديد من الجرائد ترفض نشر كل ما له صلة بنقد إسرائيل. إن الخطاب الأمريكي عن القضية الفلسطينية لا زال متأخرا عن نظيره الأوربي أو عن الخطاب العالم-ثالثي. النكران هو ما يميز هذا التصور الذي يفرض الرقابة على العروض المسرحية، على الكتب، وذلك للإبقاء على صورة الفلسطيني ك«وريث للنازية المعادية للسامية»! غير أن القضية الفلسطينية كسبت من الوضوح درجة وطنية جعلتها تندرج أخيرا في الخطاب الأمريكي الذي كانت مغيبة عنه ولمدة طويلة. ويشدد إدوارد سعيد القول في نقطة أساسية أخرى: «الإرهاب الذي كان في الولاياتالمتحدة شعارا ترتب عنه الكثير من الخلط بين عمليات إرهابية فردية ومجموع الحركة الوطنية الفلسطينية. شيطنت إسرائيل ومعها قسم كبير من العالم الغربي الفلسطينيين الذين تم تعليبهم وبشكل شمولي ك«إرهابيين بالسليقة». ومن بين المفارقات وسخرية الأقدار العجيبة أن ضحايا المحرقة بالأمس أصبحوا اليوم مضطهدي شعب آخر أصبح ضحية الضحايا. لا مجال للمقارنة بين اعتداءات الفلسطينيين على الإسرائيليين واعتداءات هؤلاء على الفلسطينيين. اكتسى هذا الاعتداء صورا قصوى من العنف شحذت له وبشكل جماعي طاقات يهود الدياسبورا ويهود إسرائيل. وكان آخر اليهود الذين شاركوا في مسلسلات العنف هم اليهود الوافدون من روسيا، إثيوبيا. واليوم يهب ريح قياموي ( يطابق مجيء المخلص) على إسرائيل، أصبحت بموجبه كيانا لاهوتيا يقوم على الصفاء والصفوة. كفلسطيني، سعى إدوارد سعيد دائما إلى إدراك ضعف وهفوات شعبه. «في نواح عديدة، لربما نحن شعب استثنائي»، يقول سعيد، «تاريخنا الوطني يوفر لنا البرهان على خوضنا لمنافسة تعيسة مع إيديولوجية وممارسة طموحة من أصل أوربي. لم نقدر على إثارة اهتمام الغرب بأحقية قضيتنا. غير أننا بدأنا ببناء هويتنا الوطنية وإرادتنا السياسية... ونجحنا في خلق نهضة وطنية، الشيء الذي ترجمه اعتراف من طرف العالم الثالث بقضيتنا. إن الفكرة الفلسطينية هي اللحمة التي مكنت الشعب الفلسطيني، على الرغم من البعد الجغرافي والشتات، من الحفاظ على التلاحم الفلسطيني». غير أن إدوارد سعيد لا يقتصر على ترسيم صورة وردية للشعب الفلسطيني وتقديمه في ثوب الملاك-الضحية، بل انصبت انتقاداته على تفكيك الميكانيزمات الداخلية للحركة الوطنية، أساليب اشتغالها السياسي، خطابها، أساليب الزعامة التي تحكمها. كمثقف، لا يكتفي إدوارد سعيد بالدعاية لشعبه، بل يراهن فكريا على سبق الأحداث تجنبا للهفوات. ويذكر بأن إحدى مميزات الشعوب الصغيرة اللأوربية هي عدم توفرها على وثائق، كما أنها ليست محط دراسات، سير ذاتية أو حوليات. وينطبق الأمر أيضا على الفلسطينيين، الشيء الذي يفسر غياب نص مرجعي في الموضوع. حاول إدوارد سعيد تبيان أن الحالة الفلسطينية عينية ضمن التاريخ العام، حالة تجاهلها بسخاء الصهاينة، الأوربيون والأمريكيون الذين حاروا في معالجتها. فيما كانت إسرائيل وتاريخها محط احتفالات دائمة، لم يعترف إلا مؤخرا بالواقع الفلسطيني: كيفية عيش الفلسطينيين، حكاياتهم الصغيرة، أحلامهم... فجأة أصبحت القضية الفلسطينية تتطلب حلا سياسيا. غير أن حظوظ تنظيم حوار معقول تبقى ضئيلة،على اعتبار أن التصور السائد لا زال ينظر للفلسطينيين إما كلاجئين، أو «متطرفين إرهابيين». ثمة عدد هائل من «أخصائيي» الشرق الأوسط يستحوذون على النقاش لإخفاء جهلهم تحت لغط العلوم الاجتماعية والكليشيهات الأيديولوجية. ويشير إدوارد سعيد إلى أن ثمة موقفا ثقافيا متجذرا، تجاه الفلسطينيين هو سليل الآراء المسبقة الغربية الاستشراقية التي كانت سائدة حول الإسلام، حول العرب والشرق. نهلت الصهيونية من التصور الاستشراقي لنزع الإنسانية عن الفلسطيني ووضعه في مصاف ما هو وخيم وخطير. لربما كان من باب التعميم القول بأن أغلب الدراسات السياسية الجامعية عن الشرق الأوسط والفلسطينيين إن هي إلا استمرار لهذا التقليد. ولم تساعد هذه الأبحاث على مقاربة وفهم الوضع في الشرق الأوسط. «الشرق» كوهم لدى الأوربيين منذ قرابة الثلاثين عاما الأخيرة من القرن التاسع عشر، كل ما يوجد شرق خط متوهم يمر ما بين اليونان وتركيا، إلا وكان يعرف بالشرق وهي تسمية ابتكرت في أوربا. منذ عدة قرون، يحيل «الشرق» إلى عقلية خاصة. ولمدة طويلة، بقيت فلسطين أحد مكونات هذا الشرق «الاستيهامي»، إلى أن أصبحت اليوم محط نقاش وسجال، إلى درجة أن ذكر كلمة فلسطيني يعتبر اليوم فعلا سياسيا هاما وإيجابيا وذلك بالنظر إلى النكران الذي رافق الفلسطيني وكلمة فلسطين. في إسرائيل، جرت العادة الرسمية على إطلاق تعبير «ما يسمون بالفلسطينيين» وهي عبارة ملطفة مقارنة بالعبارة التي أطلقتها غولدا مايير عام 1969 والقائلة بأنه «لا وجود للفلسطينيين». المشكل اليوم هو أن فلسطين غير موجودة اللهم إلا كذكرى أو كفكرة، كتجربة سياسية وإنسانية وكإرادة شعبية. بالنسبة للغالبية العظمى من الناس الذين يقرؤون الصحافة، يشاهدون التلفيزيون، ويستمعون إلى الراديو...، فإن الشرق الأوسط لا يعدو كونه صراعا إسرائيليا-عربيا لا غير. غير أن ما هو أساسي أننا لا زلنا نجهل ونتجاهل وجود 4 ملايين عربي مسيحي ومسلم يعرفون بأنفسهم كفلسطينيين. وبأنه إن لم يكن في أي مكان بلد اسمه فلسطين، فهذا لا يعني عدم وجود هذا البلد. فلسطين موجودة وأثبت وجوها هذا الكتاب الذي حلل من الداخل منطق المسح والتشويه الذي مارسته ولا تزال تمارسه إسرائيل والصهيونية. يوفر هذا الكتاب للقارئ الغربي تصورا متكاملا عن الوضع الفلسطيني، بما هو وضع بقي ويبقى خارج إدراكه. تابع إدوارد سعيد التجربة الفلسطينية، مع وصول الموجة الأولى من الاستعماريين والمعمرين الصهاينة إلى شطآن فلسطين عند مستهل سنة 1880. وقد أخذ التاريخ الفلسطيني مسارا مختلف عن المسار الذي سلكه التاريخ العربي. وبالكاد نجد نقاطا تزاوج بين التاريخين، بيد أن الخاصية التي تميز التاريخ الفلسطيني هي لقاؤه بل احتكاكه التراجيدي والصادم مع الصهيونية في المنطقة. هذا الكتاب دراسة سياسية سعت إلى تقديم القضية الفلسطينية بصفتها قضية تتطلب التفكير والمعالجة السياسية. بقي الفلسطينيون ولوقت طويل خارج التاريخ وبالكاد خارج النقاش. بطريقته المتواضعة، يسعى هذا الكتاب، إذن، إلى أن يجعل من قضية فلسطين موضوعا للنقاش والفهم السياسي. لا يتعلق الأمر هنا برأي «خبير»، كما أنه ليس شهادة شخصية، بل هو محصلة وقائع تستند على تصور خاص لحقوق الإنسان وعلى تناقضات تجربة اجتماعية. من بين الفرضيات الرئيسية التي توجه هذا البحث: - لم ينقرض الشعب العربي الفلسطيني، بل على العكس لا زال يحيا على الرغم من رغبة خصومه في محوه. - لفهم المأزق الذي تعيشه الصهيونية والعالم العربي، من الضروري فهم وضعية الشعب الفلسطيني. - سعت إسرائيل وأنصارها إلى محو الفلسطيني قولا وفعلا. على اعتبار أن الدولة اليهودية قامت على نكران فلسطين والفلسطينيين. المثير هو أن مجرد الإشارة إلى فلسطين والفلسطينيين أمام صهيوني هو من قبيل تسمية اللامسمى، ولأنه اتهام لإسرائيل. - الفرضية الأخيرة، وهي أنه من باب الأخلاق يتوفر الأفراد على الحقوق الأساسية لتقرير المصير. السؤال المحوري الذي يطرحه إدوارد سعيد هو التالي: ما هي إسرائيل؟ ما هي أمريكا؟ وما الذي سيقوم به العرب تجاه الفلسطينيين. إن الحلول ليست بيد الولاياتالمتحدة ولا بيد إسرائيل أو الدول العربية، بل ثمة أياد فلسطينية تلعب اليوم دورا حاسما في تحديد الأهداف الفلسطينية والصراعات السياسية، في النجاحات وأيضا في الإخفاقات.