يوم شاهدت اسمك على السبورة المعلقة بباب الثانوية ليلا، بعدما كنت تنتظرها منذ الساعات الأولى من يوم إعلان النتائج مترقبا، كنت طبعا سعيدا كجميع المتفوقين، وربما كنت قد ذرفت دموعا، لا اعرف إن كانت من شدة الفرحة أو من شدة الإحساس بتعقيدات المستقبل الذي لم تكن تعرف عنه شيئا حينها. حصلت على الباك، ولا تعرف أن كل ما حصلت عليه هو شهادة طرد، أو على الأقل شهادة إحباط، وطبعا لم تكن تدري أن تلك الشهادة البئيسة، التي لا اعرف أين وضعتها أنا نفسي، لم تكن سوى مفتاح الجهاد، أرسلوك بها إلى بنايات شبيهة بمعسكرات تدريب، إلى جامعات تعج بالآلاف من أمثالك، لا يجدون مقعدا لهم في قاعة كبيرة اسمها مدرج، لأنهم لم يكلفوا نفسهم عناء توسيع وبناء الجامعات. طبعا كنت قد أرسلت إسمس على حساب صديق لجميع أصدقائك حتى الراسبين منهم وعائلتك وهاتفت أباك : لقد نلت الشهادة لقد نلت الشهادة، شهادة ماذا؟ كل ما حصلت عليه، وثيقة اعتراف بأنك نلت تعليما هزيلا، لا يؤهلك سوى لأن تأكل نصيبك من هراوة من هو أقل منك تعليما أمام قبة برلمان مكتظة بالأميين. دخلت الجامعة، حائرا بين اختيار شعبة الآداب، أو الجغرافيا، أو الاقتصاد أو القانون أو الفلسفة، أو اللغات، كل ما يناسبك هنا غير موجود طبعا، لأن مستقبلك في جامعات أخرى مغلقة، ومدارس أخرى مغلقة، تستقبل فقط من كان يتنقل منذ الابتدائي إلى الثانوي بسيارات فاخرة، لم يعرف قط ما معنى أن يستيقظ صباحا على نغمات .الشجار.. والسبان والنكَير، ولم يعرف قط برد الصباح القارس وشمس الصيف الحارقة.. استكملت أوراق التسجيل بصعوبة، حائر بين أن توفر دريهمات قليلة لوجبة الغداء أو تشتري بها 4 "أظرفة متنبرة"، وصورا شمسية ونسخا من شهادة الولادة، كل ما هنالك أن أباك المسكين الذي ربما ذرف أيضا دموع الفرح بعد نيلك شهادة الباك، سيكرهك بعد يومين من سفرك إلى جامعة بعيدة، لأنه منحك كل ما وفره من مال و أعطاك قليلا من الزيت و السكر، وخبأ لك "مكينة الحسانة" في "الشاكوش"، لأنه أحس أنك أصبحت رجلا وعليك حلق لحيتك.. تهاتفه كل يوم بدون سلام مباشرة : "أبي أرسلي من فضلك شهادة الازدياد، وعقد الولادة، وشهادة الوفاة و شهادة العجز، وشهادة السكنى، ونسخا أخرى من بيانات النقط، وأرسل معها 200 درهم لأنهم يحتاجونها في أشياء لا نعرفها"، وتعرف جيدا أنك كنت فقط قد خدعته لكي توفر قليلا من الدريهمات الأخرى حتى تجالس طالبة سألتك أول الأمر عن شعبة سهلة تدرسها المسكينة، لأن همها الوحيد هو الهرب من مجتمع أثقلها بالأنوثة، و التهميش و الإهانة، من مجتمع كانت مهمتها الأولى و الأخيرة فيه هي غسل الصحون وتلبية مطالب الذكر... وأنت تجالس حبيبتك الأولى في ساحة الجامعة لأن كأس عصير لها "غادي إعيشك سيمانا" (لا تقلق إنها تعرف ذلك)، تتعبك بحكاية ظلم المجتمع لها وظلم ثقافة بئيسة لها...، اعتقد انك لن تفهمها أول الأمر لأنهم لم يعلموك أن المرأة يجب أن تتمتع بنفس إنسانيتك، ولأنك كنت ربما تمارس على أختك ووالدتك نفس الشيء أو أكثر، ولم تكن تدري أنك تقتل معنى الأنثى، و تجهض حقها في الإنسانية، تقول لك أنا هاربة حقا إلى المستقبل و الحرية، وتقول لها بصوت ذكوري فض لا تستعجلي فإن فنهايتك ستكون بين دراعي رجل، يدخل ليلا، يغازلك قليلا من أجل لذة مؤقتة، مربية بيت، غاسلة صحون، و"مشينة" ملابس، ومكنسة، ومربية اولاد في بيت رجل لا يعرف حتى معنى الرجولة... و أنت تنتظر المنحة الهزيلة التي لا ينالها ألاف الطلبة، وفي جيبك الفراغ، وتبحث أن "تتسلف" 10 دراهم لكي تهاتف والدك مجددا من أجل النقود، وربما لم تذق النعمة منذ يومين أو ثلاثة، تفكر طوال اليوم داخل قاعة الدرس، في وجبة الفطور ووجبة الغداء و العشاء وعصافير بطنك لم تعد تزقزق لأنها سئمت الصراخ وصراحة "عيات بزاف"، تبحث عن ضحية تشحت منها بعض السجائر إما لك أو لصديقك ليمن عليك ببيضة أو خبزة مثل السجناء، و كل ما يشغلك هو ماذا ستضيف بقليل من النقود أعطاها إياك والدك عن طريق الدولة بضرائب سددها منذ عشرات السنين( المنحة)، لكي يعينها المسكينة على الزمان. تجد نفسك أنك محتاج لمنحات كثيرة منحة الكراء، و الكتب، و الأكل و التنقل، ومنحة الملابس، والنسخ ، وأشياء أخرى لا تنتهي إن أحصيتها فهي لا متناهيات من الطلبات البسيطة ولامتناهيات من الأشياء المخصوصة... بعد ذلك..و في جميع الأحول ستجد نفسك قد اجتزت امتحانات في ظروف صعبة، وقد تجد نفسك أدخلت مواد وأخرى تنتظرك، هذا إن لم تنل شهادة طرد لطيفة من رئيس الجامعة، يخبرك أنك ستكون مشروع نادل في مقهى، أو ماسح أحذية، أو "عصفور طل من الشباك" (لا علاقة لها بالسياق)، لكن في آخر آخر الرحلة ستجد نفسك جالسا إلى جانب شهاداتك تتغزل بها وتطلب "الله يجيب الشتا" .. وستكتشف أن كل تلك الشهادات، وكل أحلامك و أوهامك، وكل مشاريعك الذهبية، التي أنفقت عليها الكثير من المال و الجهد، لن تجلب لك سوى التعاسة في ضل منظومة تعليمية بئيسة.. لماذا.؟؟ ليس لأنك كسول أو متكاسل بل لأن النظام التعليمي ببلادنا، حولك لمجرد كابوس.. و حولك لمجرد متعلم.. لا يعيش إلا مسرحية تعليمية خاضعة لإرادة أقلية مشئومة أرادت لك أن تبقى جاهلا... وتسن قوانين ومشاريع فاشلة وتقول لك بوجهها "الأحمر" نعم أردناك أن تبقى جاهلا... كم أنت كبير يا طالب العلم لأنك واجهت الجحيم..و أنصحك أن تحسن إلى والديك لأنك ستعود إلى منزلهما لتبقى على قيد الحياة...