في الانتخابات الأخيرة ل 2011، صوتت لفائدة حزب العدالة والتنمية، فئات متنورة جديدة لا تشاطر الحزب قناعاته الإيديولوجية. هذه الفئات اليوم بدأت تبدي قلقها بخصوص مآل تجربة بنكيران، وتشك في قدرته على الوفاء بالتزاماته، وتحقيق الآمال التي عُلقت عليه، وإتيان ما كان منتظرًا منه. هذه الفئات تعتقد ربما أن بنكيران كان بإمكانه أن يفعل أكثر مما فعل، وأن بيده أوراقًا لم يوظفها، وأسلحة لم يستعملها، وإمكانات لم يشغلها بعد. فرغم الصعوبات المتمثلة في رسوخ تقاليد عتيقة، وطبيعة التركيبة الحكومية، والإرث الثقيل، وقلة خبرة الوافدين الجدد على الحقل الحكومي، فإن شرائح واسعة من المجتمع اعتبرت أن بإمكان بنكيران أن يصنع الكثير.. يمكنه أن يبني سلطة حكومية قادرة على فتح بوابة الانتقال وامتلاك قدرة التدخل كسلطة تنفيذية مسؤولة عن تطبيق برنامجها؛ ويمكنه أن يضع مخططا متكاملاً ومحكما لمحاربة الفساد؛ ويمكنه أن يتخذ إجراءات فعالة لتحسين الأحوال المعيشية لأوسع الجماهير؛ ويمكنه ضخ هواء جديد للحرية، وتقويم علاقة المواطن بأجهزة الدولة، والتخلص من مظاهر القهر والسلطوية والتحكم التي تطبع سلوك هذه الأجهزة. إلا أن ما تحقق حتى الآن على الأرض، لا يدعو إلى الارتياح، وقد يدفع بعض المتعاطفين الجدد مع التجربة البنكيرانية إلى بداية الشعور بخيبة الأمل، وأسباب ذلك متعددة ومتنوعة: الخطاب الذي أنتجته التجربة عن نفسها في بدايتها لم يكن واقعيًا بالمرة، واتسم بطابع وردي، وكان يبدو أنه يتجاهل طبيعة التركيبة الحكومية. لقد أخطأ بنكيران حين قدم نفسه للناس، بعد تعيينه، كما لو كان قد أخذ تفويضًا مطلقًا من الجميع لكي يفعل ما يشاء، ويصنع ما يحلو له بدون معقب، وتجاهل القدر من الاستمرارية الذي تخضع له هذه الحكومة مادامت تضم في أغلبيتها مكونات كانت تشارك في الحكومات السابقة وساهمت في محاربة حزب العدالة والتنمية؛ حمل الخطاب الأولي للحكومة تناقضًا وارتباكًا بارزين في الأرقام المعروضة. وشكَّل بيان وزارة العدل والحريات بخصوص قضية أمينة الفيلالي، وحديث وزير العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني عن "جمعيات مرتزقة"، نوعًا من التسرع غير المقبول من مسؤول حكومي، وخلَّف الانتقال من خطاب معارضة مشروع القطار فائق السرعة إلى خطاب الدفاع عنه صدمة لدى الرأي العام، وذكَّره بمنطق تغير المواقف بتغير المواقع؛ المرافعة ضد تطبيق محضر 20 يوليوز 2011، ظهر من خلالها بنكيران كمجرد سلطة إدارية وليس سلطة سياسية. هذه الأخيرة لا تتذرع بخضوعها للقانون العادي من أجل التخلص من المسؤولية، بل تبدع، من موقعها السياسي، كل ما يلزم، قانونيًا وإداريًا وتنظيميًا وماليًا، لحل المشكل من أساسه. ثم انهدم أساس المرافعة بتشغيل مواطنين صحراويين بطريقة مباشرة؛ معالجة ملف الفساد بطريقة لا علاقة لها البتة بالتزامات حزب العدالة والتنمية خلال الحملة الانتخابية، فقد تم التصريح بالعفو عن الفاسدين، ثم وقع اللجوء إلى "تصحيح" ذلك التصريح، ولكن مع التذرع بأن من لديه معلومات وإثباتات مدققة فعليه أن يبلغ بها الحكومة، بمعنى تعليق محاربة الفساد على شرط "خارجي"، وفي نفس الوقت السماح بمعاقبة موظفي وزارة المالية المتهمين بتسريب معلومات عن وقائع اعتبرت في خطاب ح.ع.ت فسادًا!؟ وأخيرًا، شُرع في الإيحاء بأن المهم هو أن حكوميي العدالة والتنمية لن يسمحوا لأنفسهم بإتيان ممارسات فاسدة، أي أن الممارسة الحكومية حتى الآن تظهر غياب خطة شاملة وحازمة لمحاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة، واكتفاء بعض الوزراء ب "فضح" بعض أوجه الاختلالات في التدبير التي ارتكبها سابقوهم والتي "اكتشفها" اللاحقون، بدون رعاية مسلسل حقيقي وشامل للمساءلة، الأمر الذي يحول صنيع أولئك الوزراء إلى ما يشبه معارضة الحكومات السابقة أو المعارضة بأثر رجعي ! عدم إبداع أية حلول جذرية جديدة في مقاربة الشأن الاقتصادي والاجتماعي، واستطابة الحلول التقليدية كالزيادة في المحروقات، وقبول تمديد العمل بالإعفاء الضريبي الخاص بالقطاع الفلاحي، ورفض إقرار الضريبة على الثروات الكبرى.. إلخ؛ استساغة مسلسل القمع ومصادرة الحريات، والتعامل معه كمعطى عادي لا يستحق وقفة للتأمل والمحاسبة، وكأعراض جانبية ضرورية لتدبير شؤون الدولة في بلد كبلدنا. هل يدرك بنكيران أنه سيُحَاسب غدًا على محاكمة وسجن فنانين، واعتقال عدد من نشطاء 20 فبراير، وضرب المعطلين، ومنع الصحف الأجنبية، وسحب اعتماد بعض الصحفيين، والتنكيل بالمتظاهرين والنقابيين؛ بل إن وزارة العدل والحريات وفَّرت الغطاء السياسي لهذه الانتهاكات بحديثها عن ضرورة احترام "هيبة الدولة"، وانتهجت مذهبا مغرقاً في المحافظة بتصريحها أن تظاهر القضاة لا يليق بمركزهم الاجتماعي؛ اعتماد تعيين لائحة للعمال والولاة تمثل شكلاً من الترقية الداخلية وامتداداً لخط السير العام للوزارة، المُنْتَقَدِ على أكثر من صعيد. صرح بنكيران بأنه لم يعترض إلا على اسم واحد، وبعض رفاقه في الحزب وجهوا انتقادات لاذعة للأسماء الواردة باللائحة؛ التأخر في وتيرة إعداد مشاريع القوانين التنظيمية، وإحالة مهمة إعداد بعضها على الديوان الملكي، والاعتماد فيها على قراءة محافظة للنص الدستوري؛ فبصدد إشكالية التعيين في المناصب العليا، يتعين –مثلاً- أن يكون الأصل هو إسناد التعيين إلى الحكومة ورئيسها، وجعل التعيين الذي يتولاه الملك استثناء يمارس في أضيق الحدود بالنسبة لثلاث أو أربع مؤسسات "استراتيجية"؛ عدم سن مسطرة للتداول اللاحق مثلا -في إطار مجلس الحكومة – في قائمة السفراء المعينين في فترة وجود رئيس حكومة معين، وانتهاج أسلوب المجاملة إزاء تعيين مستشارين ليست لهم علاقة ودية باللون السياسي لرئاسة الحكومة؛ تحضير دفاتر التحملات الخاصة بالقطب العمومي السمعي البصري بطريقة معيبة، وإعطاء الأهمية للجانب الإيديولوجي أكثر من جانب الحكامة، ثم استخراج ورقة هذا الجانب بعد اتقاد الصراع، مما قد يوحي بأن هذا الاستخراج أملته اعتبارات تاكتيكية؛ عدم الانتباه إلى أن خطاب التلويح ضمنياً بأن الحزب قد يُراجع علاقته بحركة الشارع، يتناقض مع الخطاب الأصلي الذي يقول إن الامتناع عن المشاركة في تظاهرات 20 فبراير أملاه واجب المحافظة على الملكية، إذ تتضمن فكرة المراجعة قبول تعريض الملكية للخطر، بينما لحزب العدالة والتنمية موقف مبدئي قائم على أولوية حماية الملكية؛ كثرة الاعتذارات والتراجعات والتصحيحات والتصويبات التي تصدر عن رئيس الحكومة ووزرائها، وتتعلق بتصريحات سابقة لهم (قضية مجانية التعليم العالي مثلاً)، تضعف مصداقية الخطاب الحكومي عموماً؛ اعتبار الأجر الذي يُصرف لمدرب المنتخب الوطني لكرة القدم سراً من أسرار الدولة، في زمن الحديث الدستوري عن الشفافية (الفصل 154)، بينما يُفترض أن كل شرط في العقد يتناقض مع النظام العام يُعتبر باطلاً ولا يُعتد به؛ تحديد عبد الإله بنكيران لوظيفة حكومته في مساعدة الملك يمثل تخلياً صريحاً عن طموح الشراكة الذي رُفع كشعار في المؤتمر الأخير لحزب العدالة والتنمية، ويفسر سلسلة التنازلات التي أقدم عليها رئيس الحكومة، ويتناقض مع "التأويل الديمقراطي" للدستور. ولا شك أن جمع الاعتذار إلى الملك والاعتذار إلى المستشارين في نص واحد، يعني توصل بنكيران إلى أن ما يمس بالمستشارين يمس بالملك، ومن ثمة يتحول منطق تجنب الصراع مع الملك إلى تجنب للصراع مع المستشارين. وهذا يتناقض مع الأطروحة الرئيسية التي انبنى عليها خطاب بنكيران السابق، والقائلة بأن المشكلة هي مع بعض المحيطين بالملك، وأن رجال ونساء العدالة والتنمية أفيد للملكية من بعض هؤلاء المحيطين؛ تحديد الخصوم في مصطلحات مثل العفاريت والتماسيح والشياطين ليس دائماً مجديا من الناحية السياسية، إذ قد يزرع الخلط في أذهان الناس أحياناً، ويصبح شماعة لتعليق الأخطاء وتفادي المحاسبة. عموما، يلاحظ أن بنكيران قَبِلَ الانتقال ربما من فكرة حكومة تحكم، إلى فكرة حكومة تحكم مع الملك، ثم أخيراً إلى فكرة حكومة تحكم قليلاً مع الملك؛ وهذا في نظر الرجل أحسن في جميع الأحوال للمغاربة من أن يظل حزب العدالة والتنمية في المعارضة. هذا التدحرج جعل بنكيران يقبل بتلقي الضربات وابتلاع المواقف المرة، ولكن الحزب ظل حاضراً، يلقي صرخات الألم. ومع ذلك فالتجربة لم تفقد نَفَسَهَا حتى الآن، ولا زالت، لدى الكثيرين، تستفيد من فترة سماح. والمباراة لم تنته بعد، ولا نعرف الاتجاه الذي قد يأخذه مسار الأحداث المقبلة.