2012-1955 إذا كانت التجربة الديمقراطية بالوطن العربي تتميز بحداثتها، من حيث بناء المؤسسات التمثيلية الحقيقية للشعب، رغم الركام النظري المحقق من قبل المفكرين العرب في هذا الميدان، فإن تجربة غرب الوطن العربي لا تشذ عن القاعدة. وهذا الغرب العربي تتمايز تجاربه وتختلف من بلد إلى آخر، إذا ما ، أخذنا بعين الاعتبار الطابع العام له. أما الحالة المغربية فقد اكتسبت التجربة الديمقراطية فيها منحى أساسياً: سياسة خطوة،تراجع، فخطوة في يوم 7 دجنبر من سنة 1955م، تم تشكيل أول حكومة مغربية ترأس مجلسها البكاي بن مبارك لهبيل وقد عدلت مرتين في ظرف سنتين إلى أن جاءت حكومة أحمد بلافريج التي لم تعمر سوى ستة أشهر، اثر ذلك، كلف عبد الله إبراهيم برئاسة الحكومة المغربية الخامسة حيث "استطاعت أن تلتقط أحلام المغاربة المتطلعين إلى أن يصبح الاستقلال واقعاً حقيقياً، فما كان منها إلا أن اتخذت قرارات حاسمة، خططها لها وشجع عليها عبد الله إبراهيم عبد الرحيم بوعبيد وزير الاقتصاد والمالية، فخرج المغرب من منطقة الفرنك، وسك عملته الخاصة، أي الدرهم رمز السيادة المغربية، ودخلت في مفاوضات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي كان يرأسها إيزنهاور آنذاك، وانتهت بإزالة القواعد الأمريكية من المغرب، وأحدثت الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي وأطلقت سياسة صناعية طموحة كبناء مصفاة تكرير البترول "سامير" ومعمل الصلب بالناضور، ووضعت أسس العديد من البنية التحتية، غير أن النقطة السوداء في سجل هذه الحكومة إصدارها قرارا لحظر الحزب الشيوعي المغربي. أقيلت هذه الحكومة في 16 ماي 1961م، فأخلف المغرب موعدا هاما مع التاريخ، ويعود عبد الله إبراهيم مناضلا في صفوف الجماهير داخل الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي أسسه بمعية المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، بعد الانشقاق عن حزب الإستقلال، مذكرا بالمبادئ الأولى للحركة الوطنية، كلما اشتد الخناق بين رفاق الدرب غير مستسلم لإغراءات الراديكالية، وحتى عندما انشق الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1974م" 1. في ظل هذه الأحداث اشتد التناقض الذي شكل صراعاً سياسياً "حول طبيعة وسلطة الحكم مما أتاح للجماهير أن تقتنع جازماً أنه يستحيل بصفة موضوعية متابعة سياسة هادئة في التحرر الوطني وإصلاح الأنظمة الاقتصادية داخل حكم عتيق فاقد لكل امتداد شعبي وفي نطاق إدارة متحجرة غير مسؤولة ومتعفنة. على خلفية فساد الحكم برز الاختيار الثوري للإتحاد الوطني لطلبة المغرب، وبالنظر لهذا المعطى عملت الدولة على تسهيل ولادة الاتحاد العام لطلبة المغرب الذي أسسه طلبة حزب الإستقلال بحجة القهر الذي مورس عليهم من طرف اليسار طلبة "الأوقش" وطلبة التحرر والاشتراكية في حين كانت غاية الدولة في كل هذا تشتيت الحركة الطلابية وضرب وحدتها، وبالنظر لعدم قدرة الإتحاد الوطني لطلبة المغرب تصريف خطاباته السياسية داخل الشارع العام وموازاة مع قناعته الإيديولوجية ستتحرك الآلة الحزبية لوضع الإطار الطلابي في فوه التوجهات والمواقف المتخذة لحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية تجاه السلطة الحاكمة في نفس الإتجاه تمت الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء على مشروع الدستور الممنوح من ملك البلاد سنة 1962م، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد عبر الخط الثوري "أنه لا سبيل إلى إصلاح النظام القائم وعلاجه وتزكيته، وأن الإتحاد الوطني للقوات الشعبية لا يرى دواء له إلا بزواله". وقد دعت نقابة الأوطم إلى الإطاحة بالنظام باعتباره "نظاما ضعيفا يستمد قوته من الإمبريالية" وهي في الحقيقة مواقف من الأوقش الذي عجز عن التغيير خارج أسوار الجامعة حيث صرح عبد الحميد برادة في المؤتمر الثامن لأوطم الذي انتخب فيه رئيسا بأن العقبة الوحيدة في إقرار الديمقراطية هي طبيعة السلطة الحاكمة وبالطبع في ظل هذا الصراع السياسي الملتهب حول طبيعة وسلطة الحكم وبحث قوى التحالف عن التوازن المفقود في ظل وضع اقتصادي واجتماعي متأزم ومتدهور، إزاء ذلك ستعمل الدولة على تشتيت الحركة الطلابية وضرب وحدتها بالإضافة إلى العديد من الاعتقالات التي طالت مناضلي "أوطم" وإرسال بعضهم للتجنيد الإجباري، أمام هذا الواقع الذي يثبت دوران المنظمة الطلابية في فلك حسابات سياسية صراعية بين فاعل حزبي عجز عن الارتباط بواقع الجماهير المغربية والتعبير عن مطامحها في قضايا التحرر اعتبارا لتوجهاته واختياراته المبكرة نحو الاشتراكية وأيضا لموقعها الاجتماعي البورجوازي المديني وبين نظام صاغته مفاوضات (إيكس ليبان) على التبعية والذيلية التامة"2. فعندما جاء دستور بداية الستينات، تم الاعتراف للحزب السياسي بدوره في تأطير المواطنين، (وهذا ما حافظت عليه كل الدساتير، بما فيها الدستور الحالي) تم الإعلان عن الإنتخابات التشريعية لسنة 1963، والتي جاءت بأول برلمان إلى المغرب. لكنه لم يعمر طويلا، إذ تم إلغاؤه بعد أحداث الدارالبيضاء (مارس 65) مباشرة، وإعلان حالة الاستثناء. في نفس السنة شهد العالم اختطاف واغتيال أحد منظري الاشتراكية المهدي بنبركة في العاصمة الفرنسية باريس وقد اعتبرت جريمة اختلفت عليها الروايات وساهمت في ازدياد شدة المعارضة داخل البلاد نظراً لقيمة بنبركة في المعسكر الشرقي. وستظل القضية غامضة بسبب تعقيد وتداخل الأحداث. بعد تعطيل البرلمان واغتيال المهدي بنبركة فإن ذلك أسس داخل الرأي العام فكرة قوامها أن مغرباً بدون مؤسسات لا يمكن أن يكون مغربا طبيعيا، بل هو مغرب استثنائي. وهذا ما جعل مجموعة من الأحزاب السياسية تواصل مطالبتها بالانتخابات من أجل إفراز مؤسسة تمثل السلطة التشريعية في البلاد. هذه المطالبة التي أثمرت انتخابات 1977م قبل هذه الفترة بخمس سنوات كان الملك الحسن الثاني قد تعرض لمحاولتين انقلابيتين أربكتا علاقات الدول المغاربية حسب تقرير الاستخبارات البريطانية FCO 39-884البريطانية التي حملها ملف رقم التي حملها ملف رقم في سياق هذه الأوضاع جاءت الانتخابات، فمن الناحية السياسية والاقتصادية كانت انتخابات 1977 جرت في مغرب قد تجاوز عهد ما بعد الإستقلال بكثير. وفي السياق ذاته، كان قد تم ترسيم الأحزاب السياسية داخل المجتمع، بل أصبحت أكثر تأطيرا في علاقتها بذاتها، وفي علاقتها بالمواطنين الناخبين. وبالتالي، بات في إمكان المتتبع أن يضع كلا في خانته، وبإمكانه أن يقول: هذا اشتراكي، هذا يميني...هذا أصولي ...إلخ. في هذه الفترة وقبلها بسنوات تميز في العمل الحزبي السري منظمةً "إلى الأمام" التي اعتبرت حزب العمال والفلاحين والفقراء والمثقفين الثوريين المبني على الإيديولوجيا الماركسية اللينينية المندمجة في الواقع الملموس للبلاد والثورة العربية بتنظيم المناضلين الثوريين الذين نجوا من قبضة البورجوازية المنافقة أو الذين يبرزون من خلال معارك البروليتاريا الصناعية والمنجمية ومعارك البروليتاريا للمدن والبوادي كأحسن المناضلين. :هذا، و استطرد البيان في سرد الحالة الاجتماعية المتردية للمواطنين و للسياسة العمومية في البلاد، حيث جاء كالتالي 1)- إعادة تكتل الأحزاب البرجوازية الوطنية (الاستقلال و الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) في إطار الكتلة الوطنية و ظهور البرجوازية على حقيقتها بعد أن سقطت أقنعتها، بمثابة سمسار يجتهد في تسخير الشعب لنيل مساهمة ضئيلة في الحكم، عملية جعلت حدا لكل المغالطات الناجمة عن انقساماتها السطحية، و مواجهة برلمانية الحكم الفردي المزيفة ببرلمانية برجوازية، مادة بذلك أحسن الضمانات للحكم الفردي، بيد أن كلتي البرلمانيتين لا تعتبر الشعب أكثر من حصان تمتطي صهوته. و لعل محاولة حزب التحرر و الاشتراكية الرامية إلى نيل نصف مقعد في حظيرة "الكتلة" على أساس نفس البرلمانية البرجوازية لتعبر عن نفس الروح الطبقية للبرجوازية التي يميزها نفس الاحتقار للجماهير و الخوف من نضالاتها. 2)- كما أن المواقف الغامضة و الملتوية التي عبر عنها جميع السياسيين البرجوازيين، في الوقت الذي كان واجب الوطنيين العرب هو تنظيم الجماهير و تعبئتها ضد مشروع "روجزر" تشكل خيانة شاملة من طرف تلك الشرذمة من محترفي السياسية و تجعل منهم صورا معلبة طبق الأصل لحسنين هيكل منظر الهزائم و الاستسلامات، و أن دموع التماسيح التي يذرفونها الآن حسرة على السفك و التقتيل الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني (و ثورته الجبارة)، لا يمكنها أن تنسينا الحملات التضليلية التي غمرنا بها بعضهم، و لا السكوت المتواطئ الذي التزمه البعض الآخر، إذ التحقوا جميعا في هذه المرحلة الحاسمة من الثورة العربية بمعسكر أعداء الثورة. كل هذا يفرض الحقيقة التالية: إن طريق المستقبل الوحيد بالنسبة للمغرب، الطريق الثوري، قد انفتح و واجب كل المناضلين المخلصين هو المساهمة في التوضيح الأيديولوجي حول هذا الطريق، و في هيكلة الأداة الحاسمة "الحزب الماركسي-اللينيني"، و هذا ما سيتناوله المشروع الأولي للأطروحة الثورية. هذا، و على إثر هذا البيان تم شن اعتقالات واسعة طالت منتسبي منظمة "إلى الأمام". إلى ذلك، حتى الأحزاب التي ظل الكثيرون مراهنين على إمكان انقراضها ازداد حضورها ووجودها السياسي رسوخا؛ كالحركة الشعبية التي قادها وزير البريد سابقا المحجوبي أحرضان، وغيرها من الأحزاب الصغيرة، التي استطاعت الحفاظ على بقائها. لكن كل هذه الأحزاب لم تتسع لكل من كانت لديهم الرغبة في الوصول الى المؤسسة التشريعية (البرلمان). وهكذا، كان من بين المرشحين من الذين فازوا بمقاعد مهمة، أعضاء غير منتمين، كانوا يسمون بالأحرار، وهم الذين سيشكلون "التجمع الوطني للأحرار". أما بخصوص الحالة الإقتصادية، فإن سياسة التقشف المنتهجة باسم سياسة التقويم الهيكلي فكان لها انعكاسا جليا على الطبقات الفقيرة والمتوسطة مما تزايدت معه تجليات السخط الشعبي. وهكذا كانت المغربة عنوان المرحلة، حيث كان يجري تحويل المؤسسات الاقتصادية، التي كانت متبقية في أيدي استعمارية، إلى الدولة المغربية. وهذا ما جعل المؤسسة التشريعية (البرلمان) تكتسب أهميتها الكبرى، حيث أصبح من واجبها السهر على ملفات ذات طابع حاسم. إذ أنها صارت تتحكم في دواليب البنيات الإقتصادية المغربية. إذا كان هناك من عنصر إضافي في رسم ملامح هذه التجربة، وما ميزها عن التجربة السابقة، فهو يتمثل أساساً في استمرارية المؤسسة التشريعية رغم الأحداث العاصفة التي شهدتها البلاد، كأحداث يونيو التي كانت البيضاء مسرحاً لها أولا. وثانياً، اكتسبت التعددية طابعها الجديد بميلاد حزب التجمع الوطني للاحرار سنة 1978م. إذ ساهم في تأطير فئات عريضة (ضمنها كل اللامنتمين في برلمان 1977م) والتي لم تجد لها من مكان في الأحزاب السياسية المرسم وجودها في مغرب ما بعد الاستقلال. سنة 1980م، تم تأسيس جماعة "العدل والإحسان" بواسطة مرشدها العام عبد السلام ياسين وكان ينتمي للزاوية البودشيشية ثم فارقها وصار مع الحركة الإسلامية وبدأ في السعي لجمع شتات الجماعات الإسلامية تحت مضلة واحدة ومن أبرز أهداف جماعته تطبيق المنهاج النبوي (أي ممارسات النبي) في الحكم والتدبير، غير أن ذلك سيلقى رفضا من الدولة وعموم العلمانيين المغاربة، حيث ستشدد السلطات الأمنية الحصار على عبد السلام ياسين ويتم التضييق على جماعته بالاعتقالات والمراقبة والاختراق خوفا من زحف الجماعة لإقامة الدولة الإسلامية، وتعتبر هذه الجماعة بمثابة إعادة إحياء للزاوية ومنطق الشيخ والمريد. و قد تبنت السلطة بدلا من سياسة الاحتواء، و منذ حوالي عقدين سياسة تقوم على الرفض الكامل للاعتراف بالإسلاميين، أو التعامل معهم، منتهجة سياسة "اللاتسامح" (Zero tolerence) مع أي محاولة منهم لاستئناف نشاطاتهم، حتى تلك الأنشطة التي تبدو ضمن العمل الخيري. في خضم ذلك، وبعد تمديد عمر البرلمان، وتحويله من أربع إلى ست سنوات، داهمته نهاية سنة 1983م، فأعلن تأجيل الانتخابات التشريعية إلى غاية 1984م. في شتاء 1984م، أصبحت الأوضاع التي تعيش عليها فئات عريضة من الشعب المغربي أوضاعاً مأسوياً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مستوى دخل تلك الفئات وأجورها مع مستوى المعيشة التي رفعت من زياداتها المواد الاستهلاكية. قرار اتخذته الحكومة يتعلق بإلغاء دعم الدولة للمواد الغذائية الأساسية، هذا الإلغاء أحدث ارتفاعا مهولا في أثمنة القمح اللين والزيت والسكر وغاز البوتان. الحكومة تستفز الشعب لتعيش مأزقاً خطيراً. وفي السياق ذاته، عرفت مدن: تطوان وفاس والدارالبيضاء والناضور والحسيمة ووجدة وطنجة ومراكش مظاهرات احتجاجية تحولت لانتفاضة شعبية تم إخمادها بعد قتل العشرات واعتقال المئات واختفاء من لم يظهر إلى اليوم. سنة 1984م. كذلك، كان المشهد السياسي المغربي قد تخصب بميلاد إطارات سياسية أخرى أبرزها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي (يسار) والاتحاد الدستوري (ليبرالي). وإذا كان أطر الحزب الأول قد انحدروا في أغلبهم من المنافي والمعتقلات بقيادة أمينهم العام محمد آيت يدر بنسعيد المحكوم سابقا بعقوبة الإعدام، فإن الحزب الثاني قد ضم رجال حكومة سابقين أو رجال أعمال أو ملاكين كبارا من درجة (المعطي بوعبيد رئيس حزب ووزير عدل سابق وزير أول سابق). إلى ذلك، في أكتوبر 1986م، انعقد المؤتمر الاستثنائي للحركة الشعبية الذي أقال المحجوبي أحرضان من منصبه ليصبح الكاتب العام للحركة الشعبية هو محند العنصر وليؤسس المحجوبي حزبا جديداً عام 1991م ولم يمر على هذا الحزب سوى أربع سنوات حتى انشقت عليه طائفة جديدة أسست الحركة الديمقراطية الاجتماعية بقيادة محمود عرشان. طابع هذه المرحلة وميزتها هي أنها كانت أطول تجربة برلمانية في المغرب (ثمان سنوات) بعد أن تم تمديدها باستفتاء شعبي، عندما أشرفت الست سنوات هذه على مشارف نهايتها. وتجربة الثمان سنوات هذه لم تخل من حيوية سياسية. كان أبرز ما حدث فيها تقديم أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان ملتمس رقابة (ملتمس حجب الثقة) يقر الدستور، إن صادق عليه البرلمان، أن يعاد تشكيل الحكومة. إلا أنه ورغم النقاشات الصاخبة، فقد تم رفض الملتمس المذكور، بعد رجة سياسية أجمع المراقبون على أهميتها وإيجابيتها. إذ انشغل المغاربة بالشأن السياسي من خلال متابعة ما كان يجري من نقاش تحت قبة البرلمان. كانوا يتابعون ذلك على شاشة التلفزة بشكل مباشر. عندما جاء موعد الانتخابات التشريعية الموالية سنة 1995م، كان المشهد السياسي المغربي قد تغير كثيرا. توحد حزب الاستقلال مع الاتحاد الاشتراكي في الحملة الانتخابية، وانضم إليهما حزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي) ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي لتشكيل رباعي ما سمي ب (الكتلة). أما حزب التجمع الوطني لأحرار فقد أظهر أمام الجميع أنه حزب متكامل مكتمل الذات، مصمم على البقاء داخل التربة السياسية المغربية، رغم أنه خالف آلية تشكيل الأحزاب في كثير من التجارب، حيث جاء قادته من السلطة إلى الشارع، ولم ينطلقوا من الشارع إلى السلطة، وأصبحوا يعلنون انتماءهم إلى الوسط. وعلى المستوى الدستوري تم إقرار أن تتشكل الحكومة من أغلبية. سيعيش المغرب بعدها تحولا مهما، هذا التحول تمثل في تجربة الانتقال الديمقراطي في مسلسل ما عرف بالتناوب التوافقي، فاهتم الرأي العام المغربي كثير اهتمام بحكومة" عبد الرحمان اليوسفي" اهتماما لم يوليه للحكومات السابقة، بحكم أنها الحكومات السابقة لم تكن تحمل عناصر الإثارة الكافية، ولم تكن تتشكل في سياق متغيرات واضحة. بينما جاء الإعلان عن حكومة عبد الرحمان اليوسفي مثيراً بحكم نقل المعارضة إلى سدة الحكم، داخل توافق جماعي للأحزاب من أجل تشكيل حكومة قوية تتماشى وأفق التغيير الذي يشهده العالم. علق الناس آمالا كثيرة على التناوب التوافقي، وانتظروا جديدا منه في مختلف المجالات، دون أن ينتبهوا إلى أنه تناوب ممنوح، وتوافق هجين بين فسيفساء حزبي متناقض المرجعيات متضارب المصالح. لكن هذا التناقض يصبح قابلا لأن يلتئم في حكومة واحدة إذا كان مجرد ائتلاف شكلي، حيث إن أعضاء الحكومة لم تكن لهم سلطة القرار الكافية. ولذلك، لا يمكن أن يظهر إلا التناقض، لأنه يكون بسبب تضارب في القرارات التي تتخذها الأطراف المشكلة للحكومة بحكم اختلاف مرجعياتها وتمثلاتها في تدبير القطاعات التي تشرف عليها وزارة هذا الحزب أو ذاك. فمع الإعلان عن الحكومة الجديدة، سنجد أنفسنا أمام معادلة صعبة الحل، إذا ما اعتبرنا المتراجحة الأكثر تعقيدا هي ما يجمع حزب الاستقلال، الذي طالما اعتبر نفسه وريث السلفية وأمينا على تحقيق العدالة الاجتماعية، والاتحاد الاشتراكي أقدم المعارضين المنادين بتطبيق الاشتراكية. هذا الحزب سيضحي بإطاره النقابي العتيد "الكونفدرالية الديمقراطية للشغل" ورجالاتها، ليعلن أصدقاء الأموي عن الانسحاب وتشكيل المؤتمر الوطني الاتحادي: حزب سيظل يشتغل بمنطق نقابي متحكم في تكوين أعضائه، وهو ما يفسر فشل مشاركته في انتخابات 2002م، بينما أصبح الإتحاد الاشتراكي في غنى عن القناة النقابية التي كانت صوته في زمن المعارضة. ولكن حزب الاتحاد الاشتراكي سيتخلى أيضا عن القاعدة الشبيبية المتمثلة في أصدقاء الساسي الذين عارضوا مقررات المؤتمر السادس، والقبول بالدستور الممنوح والتناوب الممنوح أيضاً. لكن اليوسفي أخبر الساسي بأن أرض الله واسعة، إذا ما أراد مغادرة الاتحاد، بينما هو يريد أن لا يمشي فوق الأرض، وإنما على زرابي القصر، مهما كانت التنازلات. ليقوم الساسي رفقة محمد حفيظ خلفه في رئاسة الشبيبة الاتحادية والسفياني وعدد كبير من المناضلين وخبراء الحزب الاقتصاديين بتأسيس "جمعية الوفاء للديمقراطية" التي خلفت الاتحاد الاشتراكي في موقع المعارضة داخل المشهد السياسي المغربي، ولكنها ستظل مرفوضة على مستوى الدولة، لأن شروط انتقال الحكم "العرش"بسلاسة في المغرب بات يفرض إخلاء الساحة السياسية من جبهة المعارضة والرفض، وعيا بأن الاتحاد الدستوري لم ولن يكون معارضة في السياسة. دون الانتباه إلى أن السياسة مثل الطبيعة تأبى الفراغ، ولابد من وجود حكومة ومن معارضة سيشغل حيزها الحضور والمد القوي لحزب العدالة والتنمية. ومع ذلك، سيظهر كيف أن المعارضة الحقيقية في المغرب لا تكمن في الأحزاب الممثلة داخل البرلمان، ولا في الطوائف الإسلامية المتمركزة سرا في الجامعات والمنازل، وإنما تتمثل في الاتجاهات المختلفة مع الأحزاب والجماعات الإسلامية، ومع الأحزاب التي انتقلت من المعارضة إلى الحكومة. في البدء كان يختزل هذا النموذج حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، الذي خرج مبكراً عن منهجية الاتحاد الاشتراكي، والآن باتت تمثله الطليعة والوفاء والمؤتمر الوطني الاتحادي والنهج الديمقراطي واليسار الموحد، في إطار كبير، يصبو لأن يكون أكبر من حجمه الحالي، (حزب اشتراكي كبير). وإذا كان هذا الحزب، ولم يستطع إلا إنتاج خطاب نظري عقلاني، فإنه لن يقدم إضافة جديدة ونوعية في المشهد السياسي المغربي، ما لم ينزل إلى أرض الواقع، ببرنامج عملي ميداني، عقلاني أيضاً. وليس بمجرد خطاب يظل مفارقا للواقع. بعد انتهاء ولاية حكومة اليوسفي التي قادت أول مراحل الإصلاح أفرزت صناديق الاقتراع أغلبية برلمانية جديدة للإتحاد الاشتراكي غير أن إرادة القصر جاءت بإدريس جطو من أبرز التقنوقراط المغاربة وزيرا أولا ليشكل حكومة ائتلافية إذ أغلبيتها كانت بإدماج حزب الحركة الشعبية (اليميني) "ليتمكن جطو من جعل ورقة التكتل الحركي ورقة في الظل لإبقاء حكومته وإنجاح الضغط على الحليف المشاكس (الاتحاد الاشتراكي) لعزل المركب من داخل الحكومة من دون أي تعديل حكومي لصالحه، ودون أن يوجهه إلى معارضته" ففي ظل هذه الحكومة التي أهملت الملف الاجتماعي عرف المغرب حدث 16 ماي والذي تجسد في استهداف مواقع أجنبية بالدارالبيضاء، هذا الحدث تفاعلاته مازالت جارية وأبعاده غير متناهية أفرزت أجنحة أمنية متشددة ومتصارعة فيما بينها عملت على تضييق هامش الحرية المتاح للصحافيين المغاربة جراء نضالات عتيدة. ويذكر أن حكومة جطو اقترحت مشروعا لقانون مدونة الأسرة الذي تضمن إقرارا جزئياً بحقوق المرأة حيث كان ذلك من أولويات المطالب المسطرة في برامج الحركات الحقوقية النسائية بالمغرب. سنة 2007م، شهدت البلاد انتخابات برلمانية تميزت بعزوف جماهيري فيما يتعلق بنسبة المشاركة فيها، وقد منحت نتائجها حزب الاستقلال أغلبية من المقاعد داخل البرلمان إذ سيتمكن أمينه العام عباس الفاسي من تشكيل حكومة بعد تكليفه بذلك من طرف الملك محمد السادس في 19 شتنبر 2007م وستواجه سياسة هذه الحكومة باحتجاجات عدة دعت إليها المركزيات النقابية نتيجة لتردي أوضاع الشغيلة المغربية وما خلص إليه الحوار الاجتماعي من نتائج أسفت لها أغلبية من الشعب. من جانب آخر، برز حدث اعتقال سياسيين ترتب عليه حل حزب البديل الحضاري وحزب الأمة على خلفية ضبط شبكة بلعيريج المتهمة بالتخطيط لعمليات إرهابية داخل المغرب حسب تصريحات وزير الداخلية شكيب بنموسى، وفي وسط حراك إعلامي عنوانه العريض خلية بلعيريج، سلطت الأضواء على السجال الذي دخلت فيه أحزاب تقليدية مع "حركة لكل الديمقراطيين" في وقت سابق،"أدرك مراقبون كُثر أنها سوف تكون مسألة وقت قبل أن يحول نائب وزير الداخلية السابق والنائب المنتخب فؤاد علي الهمة هذه الحركة حزباً سياسياً سيسمى"الأصالة والمعاصرة"، وسجل أن حلت أحزاب نفسها واندمجت في هذا الإطار الجديد، هي الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب العهد، وحزب البيئة، وحزب رابطة الحريات، وحزب مبادرة المواطنة والتنمية. "وفي إطار الجهود التي يبذلها عالي الهمة لحشد الدعم لحزب الأصالة والمعاصرة، يأتي باستمرار على ذكر الحداثة في خطبه؛ إلا أنه يلجأ مرة تلو الأخرى إلى ممارسة المحسوبية التي تتعارض مع هذه اللغة. ويبرر حسان بن عدي الذي عين سابقا أميناً عاماً للحزب، تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة بالقول بأنه يمنح المغاربة خيارين بالنسبة إلى مستقبل بلادهم: الخيار الأول هو "مغرب ديمقراطي متجذر في المعاصرة" والثاني هو "عودة إلى العصر الذهبي للخلافة"، وهو ما يسعى إليه الإسلاميون. من سخرية القدر بلا شك أن حزب العدالة والتنمية وهذا ما تجمع عليه مختلف التعريفات التي تعطى له هو الحزب السياسي الأكثر حداثة في المغرب.إنه الحزب الذي يتمتع بأكبر قدر من الديمقراطية الداخلية، وهو الحزب الوحيد الذي يملك برنامجاً للعلاقات مع الناخبين، والوحيد الذي يستقطب الأصوات انطلاقا من رسالته وليس من أسماء عائلات المرشحين. وفي حين يتعامل معظم النواب مع البرلمان وكأنه نادٍ للصبية يجددون فيه روابطهم الشخصية، وضع حزب العدالة والتنمية مدونة سلوك نيابية لفرض الانضباط على نوابه. وتقتضي هذه المدونة منهم وضع مسودات تعديلات واقتراح تشريعات جديدة وطرح أسئلة شفوية. وبينما لا يزعج نواب كُثر من الأحزاب الأخرى أنفسهم بحضور الجلسات في أغلب الأحيان، يفرض حزب العدالة والتنمية على نوابه حضور الجلسات البرلمانية واجتماعات اللجان. يأمل حزب الأصالة والمعاصرة من خلال وصفه لحزب العدالة والتنمية بأنه رجعي وينتمي إلى الماضي، أن يشجع المغاربة على السعي إلى مستقبل بديل ودعم خطابه عن الحداثة والتقدم. لكن جل ما يفعله من خلال اعتماده على قربه من البلاط الملكي، وعلى الأعيان المحليين، ودور الشخص، وعلاقات المحسوبية لبناء قاعدته، هو ترسيخ الممارسات التقليدية المتجذرة في الثقافة السياسية المغربية".4 من جانب آخر، وفي إطار إضعاف قوة الخريطة السياسية الحقيقية في المغرب، أصبح عدد الأحزاب ثلاثيين حزبا منها ما يوصف بالتقليدية والصغيرة والضعيفة. وتلعب برمجة تقطيع الدوائر الانتخابية دوراً نسبياً في التأثير على نتائج الانتخابات منذ عهد وزير الداخلية السابق إدريس البصري إلى اليوم. كما أن نظام الإقتراع باللائحة يقر ديموقراطية نسبية غير مطلقة، مما جعل بعض الأحزاب تواصل مطالبتها بإصلاحات دستورية تتعلق بتعديل بعض فصوله. غير أن موجة الربيع العربي الأولى، التي انبثقت عنها حركة 20 فبراير ، و التي تتبني انتظارات المواطنيين الحقيقية . تطالب بتغييرات جذرية لم تستجب لها الطبقة المشكلة للنظام السياسي بالبلاد. مما يجعل الرهانات مفتوحة حول أفق التغيير الجذري في البلاد موازاة مع ذلك، إن التجربة الديمقراطية في المغرب بناء على قوانين الحريات العامة من 1958م، إلى 2009م، فيما يتعلق بتأسيس الجمعيات وبحرية الصحافة وبالتجمعات السياسية، تظهر فيها بعض أوجه النقص في الضمانات القانونية المتعلقة بممارسة هذه الحريات "كما اتضحت الممارسة التعسفية للسلطات العمومية وكذا تدخلها في سير العدالة".5 لذلك يمكن تبين أن مشكلة المغرب الحقيقية وملفاته العالقة تكمن في سياسة نخب تسعى جاهدة لحماية مصالحها مما يؤثر سلبا على مفاهيم عامة .للديمقراطية في ظل صراع مفتوح عنوانه الرئيس الملكية والأحزاب والحكم ، و مطالب الطبقات الشعبية، وخيارات السياسات العمومية للبلاد