منذ أن طرح الصراع السياسي في بداية الستينات بشكل واضح ، عرف المغرب العديد من المشروعات العامة التي حاول بعضها ان يكون امتدادا لمشروع الدولة( مشروع جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ) ، وبعضها حاول الالتفاف على المؤسسة الملكية مستمدا الدعم من خلال المشاريع العربية الجاهزة التي وظفت العروبة في تثبيت فكرها وخدمة مشروعها( المشروع البرجوازي الصغير ) ، وبعضها حاول أن يطرح نفسه كبديل عن المشروع الرسمي بعد أن حكم بفشله وانه أضحى ضد الطبيعة ( المشروع الماركسي اللينيني والمشروع الاسلاموي )، بل انه طرح نفسه كبديل عن المشروعات العامة التي جربت وكانت النتيجة الإفلاس والفشل ، ليس فقط بسبب الكولسة التي كانت سببا في ظهور اليسار الجديد خاصة بعد مظاهرات 1965 والشبيبة الإسلامية في سنة 1967، بل استنفاد البرجوازية العربية التي قادت حرب فلسطين كل مقومات وجودها غداة الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية في حرب الستة أيام في سنة 1967 ، حيث اعتبرت الهزيمة ليست هزيمة للشعوب العربية التي ظلت تتفرج من بعيد وملجمة من قبل الأنظمة التي تاجرت بالقضية الفلسطينية ، بل كانت هزيمة للطبقة ( البرجوازية ) التي خاضت الحرب التي أفقدت أكثر من ثمانين ألف كلم مربع من الأراضي العربية في ستة أيام .هذا دون ان ننسى مشروع ضباط الجيش في إقامة نظام جمهوري رئاسي على شاكلة الأنظمة السياسية العربية التي تولى فيها الجيش مقاليد الحكم بانقلابات عسكرية سرعان ما تحولت الى نقمة على الأمة وعلى الشعب الذي باسمه سوقت الشعارات التي قادت الى الانقلاب . "" كان أول مشروع إيديولوجي معارض فرض نفسه كبديل عن المشروع الرسمي ، المشروع البرجوازي الصغير الذي تأثر بتجربة الحكم في البلاد العربية خاصة الأنظمة الرئاسية التي وظفت القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في لجم الجماهير وقمعها خدمة لأهداف سلطوية تخدم الحاكم المغتصب للسلطة باسم شعارات براقة أبانت عن فشلها في تحقيق التكافؤ مع العدو وتقريب الهوة معه . ان هذا المشروع الذي تأثر بأنظمة الحكم البعثية والناصرية والجزائرية مثله عندنا في المغرب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يطرح السلطة من موقع ثوري لا إصلاحي . أي ان أصل الصراع السياسي كان الحكم وليس ما أضحى يطلق عليه بعد المؤتمر الاستثنائي بالمنهجية الديمقراطية التي طلقت مع ارث الحركة الاتحادي الراديكالي ، أي الإصلاح من الداخل ( داخل الحكم ) وليس من خارجه . وقد أدى الإحباط الذي عانته الحركة الاتحادية خاصة بعد فشل جميع المحاولات التي كانت تهدف رأس النظام ، ومن أهمها أحداث 16 يوليو 1963 التي قادتها منظمتان مسلحتان إحداها كانت تتبع الفقيه محمد البصري ، و الثانية تابعة لأحمد اجوليز الملقب بشيخ العرب حيث كان الشخص الذي يتولى التنسيق بينهما هو المهدي بن بركة ،ثم أحداث 3 مارس 1973 التي اشرف عليها ثانية الفقيه محمد البصري رغم انه تنكر لها لاحقا ، ومشاركة أفقير انقلاب الطائرة في سنة 1971 ..لخ وهي الأحداث التي تمثل قمة ما وصل إليه أصحاب هذا المشروع البرجوازي الصغير... أن انتهى بأصحابه إلى القطع مع التجربة بكل سلبياتها وايجابياتها في مؤتمر عقد خصيصا لهذه القطيعة باسم الوضوح الإيديولوجي في المؤتمر الاستثنائي في سنة 1975، وما تبقى منهم قطع مع التجربة حين حلت حركة الاختيار الثوري نفسها لتعيد الانتماء إلى حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ،ونفس الشيء قامت به رابطة العمل الثوري بالمغرب لما انضمت من جديد الى الحزب المذكور الذي هندس قياديوه القرارات ( الإيديولوجي والسياسي ) للمؤتمر الوطني الاستثنائي في سنة 1975 . . المشروع الثاني الذي جاء على أنقاض المشروع البرجوازي الصغير بعد ان حكم بإفلاسه وفشله ، كان المشروع الماركسي اللينيني، او ما يسمى في الأدبيات الماركسية باليسار الجديد السبعيني الذي طلق مع النضال الإصلاحي للطبقة السياسية المغربية التي استنفدت كل مقومات وجودها خلال مرحلة النضال ضد النظام الكلونيالي الغاشم لبلادنا ، كما عجزها في حسم مسالة الحكم بالطرق الثورية، وتحول تلك التنظيمات إلى أجهزة للجم المناضلين الذين كانوا قد تأثروا بالفكر الثوري الذي غزا أوربة منذ منتصف ستينات القرن الماضي ، إضافة إلى الاستشهاد ببعض التجارب الأممية مثل التجربة الماوية في الصين، وتجربة الحزب الشيوعي الفيتنامي غداة التحرير ضد الغزو الأمريكي للهند الصينية . وقد أدت كولست الأحزاب على اثر إحداث مارس 1965 ، وهزيمة الطبقة البرجوازية العربية في حرب الستة أيام ،الى ثورة قواعد أحزاب الحركة الوطنية ، تلك القواعد التي طلقت مع الإصلاحية الحزبية ولتطرح السلطة بمفهومها الثوري الذي لا بد ان يمر عبر العنف الثوري وليس عبر صناديق الاقتراع، حيث اعتبر شباب المرحلة حزبي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحزب التحرر والاشتراكية، نسخة مفبركة للأحزاب التي قادت الحرب في الشرق وكانت النتيجة الهزيمة التي اعتبرت هزيمة للطبقة التي خاضت الحرب . . أدى النفق المسدود لتجربة اليسار السبعيني الذي تحول الى أرخبيل من النسيان بعد الانشطار التي عرفته صفوفه ، الى ظهور مشروع إيديولوجي آخر حاول ان يجعل من نفسه بديلا عن المشروع البرجوازي الصغير والمشروع الماركسي اللينيني الذي عجز عن حسم الحكم بالطرق الثورية مثلما عجز المشروع الأول عن حسمه من خلال البلانكية . ان هذا المشروع هو ذاك الذي جسدته منظمة الشبيبة الإسلامية ومنظمة الجهاد فرع المغرب اللذين دخلا في صراع مفتوح مع الأحزاب (اليسارية ا و ق ش ح ت ش) ومنظمات الحركة الماركسية، ووصلت المواجهة حد الاغتيالات واستعمال العنف بكل أشكاله المادي والمعنوي . ان هذا المشروع الاسلاموي الذي استغل في بداية الصراع بعض المساعدات التي كان يمنحها له بعض رموز الإدارة ، انقلب عليها لما تبين هدفه الاستراتيجي الذي كان هو إقامة الدولة الإسلامية خاصة بعد نجاح الثورة الخمينية في إيران التي كانت سندا يقتدى به في مجال العمل الإسلامي .هذا المشروع وكغيره من المشاريع الأخرى عرف طريقه الى الفشل الذي انتهى بأصحابه إلى الفرار خارج المغرب ومن بقي منهم بالداخل عرف طريقه إلى السجن . بالموازاة مع هذه المشاريع العامة ( الصراع على الحكم ) كان هناك مشروع إيديولوجي وسياسي يقوده الجناح السياسي الذي كان يقدم التغطية للجناح البلانكي في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية . هذا المشروع الذي كان مكملا للمشروع الأول من خلال مراحل النضال التي كانت تستوجب تغيير التكتيك الى إستراتيجية والعكس ، كان المطالبة بالملكية البرلمانية من خلال مقاطعة جميع الاستحقاقات انتخابية او دستورية ، بحجة ضرورة انتخاب مجلس تأسيسي شعبي يتولى وضع دستور جماهيري يكبل الملك من حيث سلب جميع اختصاصاته لصالح الوزير الأول الذي ينتسب الى الأحزاب وليس إلى القصر . وهو المطلب الذي أطلقوا عليه عنوان ( ملك يسود ولا يحكم ) كمقدمة للانتقال الى المرحلة التالية حين تكون الظروف تناسب ذلك . وحيث ان من أهداف الحزب الوصول الى الحكم وهذا حق مشروع ، فان هذا المبتغى أي ( الحكم ) كان أصل الصراع الحزبي والسياسي بالمغرب طيلة ثلاثين سنة من المواجهة العقيمة انتهت بانضمام الأحزاب الى القصر وليس العكس . ان من المفارقات الغريبة التي تستوجب التدقيق حين تصر النخبة المتعلمة ، بما فيهم أساتذة من الجامعة وبعض السياسيين على ترديد عبارة ( ملك يسود ولا يحكم )، والحال ان هذا التوصيف خاطئ لأنه يحمل في طياته دلالة تناقضاته،ذلك ان القول بملك يسود تستوجب ألا تضاف له كلمة و ( لا يحكم ) ، لان كلمة يسود جاءت من ساد وسيادة ، أي القوة والهيمنة و السيادة الذي تحدده العديد من مقتضيات الدستور . فما معنى القول ب (ملك يسود ولا يحكم )؟. الملاحظ ان الخلط الذي سقط ولا يزال يسقط فيه العديد من المتدخلين في الشأن العام ، حين يخلطون بين ( ملك يسود ، أي يحكم ) الملكية الفاعلة المندمجة والتنفيذية لتطلعات الشعب و (لا يحكم ) الملكية البرلمانية التي تهدف إلى التقليص من سلطات الملك لفائدة الوزير الأول الذي سيأتي عن طريق الأغلبية البرلمانية ، ومن ثم إضعاف المؤسسة الملكية لصالح الأحزاب السياسية . ان هذا الخلط بين الملكية التنفيذية التي يحتفظ فيها الملك بالدور الرئيسي في هرم الحكم في المغرب، وبين الملكية البرلمانية التي تحول فيها سلطات الملك الى الأحزاب ، وهو المبتغى الذي يطلقون عليه خطا تعبير ( ملك يسود ولا يحكم ) ، لا يختلف في الخلط مع أولئك الذين يستعملون في مطالبهم او من خلال كتاباتهم او شروحهم تعبير ( الملكية الدستورية في المغرب )، وكأن هذا أي، المغرب يعيش بدون دستور مثل العديد من الأنظمة الملكية العشائرية في الشرق العربي ، او انه يحكمه دستور عرفي مثل النظام السياسي البريطاني ، وكأني بهؤلاء يجهلون كون المغرب عرف منذ استقلاله خمسة دساتير 1962 ، 1970 ، 1972 ، 1990 و 1996 الذي صوت عليه الجميع بالإجماع ( يلاحظ ان حزب الطليعة ، النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان قاطعوا التصويت على التعديل الذي ادخل على الدستور في سنة 1996 ) .ان نفس الخلط الذي سقط فيه أصحاب ( ملك يسود ولا يحكم ) كدلالة على الملكية البرلمانية ، سقط فيه من يقول بالملكية الدستورية التي يخلطونها بالملكية البرلمانية المقابلة للملكية الفاعلة والمنتجة كذلك. هو الأمر الذي يقتضي التوضيح من هؤلاء للإعراب عن ( ماذا يريدون ) ، أي عليهم قبل التطرق الى الموضوعات الدقيقة التي تثير الحساسية ان يكونوا في مستوى الفهم والإدراك للمفاهيم السياسية الدقيقة التي يريدون إيصال خطابهم منها ، أي ان يكونوا في مستوى خطاب الآخر الذي يسخر( السخرية) أعوانه من هكذا خرجات لأناس ربما لا يصدق عليهم القول ( لا يميزون بين الألف والعصا )،لأنه اذا كان ممكنا وجائزا قبول تدخلات المبتدئين والسطحيين ، فانه لا يمكن قبول زلات من يدعي ( أستاذ باحث متخصص) حيث كثر عددهم بشكل أكثر غرابة عما كان عليه الأمر في السابق. لقد فشل المشروع البرجوازي الصغير في إقامة الجمهورية البرلمانية ، وفشل المشروع الماركسي في إقامة الجمهورية الديمقراطية الشعبية ، وفشل العسكر في إقامة جمهوريات دكتاتورية على طريقة أمريكا اللاتينية ، وفشل المشروع الاسلاموي في إقامة نظام الخلافة الراشدة ومنهم من فشل في إقامة الدولة الإسلامية ، كما فشل دعاة ( ملك يسود ولا يحكم ) من إقامة ملكية برلمانية يكون فيها التقرير للأحزاب وليس للقصر . لكن لنطرح السؤال من ربح المعركة بمختلف أشكالها وتموجات أطوارها ؟ اعتقد ان الجميع يعلم الجواب . انها المشروعية التي يجسدها القصر والدولة الذي استطاع تذويب الكل في جرته ( الجرة ) حيث غاب النضال التنظيمي والإيديولوجي وليعوض بالنضال من اجل المصالح واقتسام المنافع بين نفس الوجوه التي مل الناس من النظر إليها في كل مرة تكون الانتخابات على الأبواب ، حتى اذا ما انتهت أغلقوا دكاكينهم وانشغلوا بمصالحهم . وان مسخرة التحالفات بين أحزاب كانت قبل الانتخابات تطعن بعضها البعض ، الأصالة يتحالف مع العدالة ، وهاذين الحزبين يتحالفان مع الاتحاد ، وتحالف الاستقلال مع الاتحاد الدستوري ، والتقدم والاشتراكية مع الحركة الشعبية ..لخ يعتبر اكبر عنوان على الرداءة التي عرفها الحقل الحزبي منذ بداية الألفية الثالثة ،وهو ما يفسر الأزمة المكشوفة للأحزاب التي تعتمد على الدولة وليس الدولة هي التي في حاجة إليها كما كان الأمر في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي . الآن خريطة القوى السياسية أصبحت على الشكل التالي : 1 – القصر الذي ربح الرهان وأصبح الكل في الكل ، حيث وصل من القوة ما لم يسبق ان وصله في حربه مع معارضيه خلال جميع المحطات التي كانت تستهدف الحكم وليس الحكومة . من وراء القصر هناك الدولة المسنودة من طرف القوات التالية : ا – الشعب الذي يتمسك بالموروث الإيديولوجي خاصة التأكيد على ما ينصص عليه الفصل التاسع عشر من الدستور ، وما يضفيه عقد البيعة من طقوس خاصة بين الأمير وبين الرعية ، وهو ما يجعل الملكية في صلب القلب المغربي وليس العكس . و يمكن الاستشهاد بالخرجات الملكية وبتجاوب المواطنين مع الزيارات التي يقوم بها الملك من حيث ظروف الاستقبال ، والتلويح بالأيادي نحو الملك . كما يمكن استشفافه من انصياع الشعب لكل ما هو آتي من دار المخزن ، وقد استغل الهمة هذه الخاصية ليربط مشروع حزب الأصالة والمعاصرة بالملك ليحقق نتائج هامة في الانتخابات الأخيرة التي عرفتها المملكة . ب – القوات المسلحة الملكية التي تربطها طقوس خاصة بالملك وبالملكية منذ أكثر من أربعة عشر قرن خلت ، حيث نجد دور الجيش في قلب الحدث الوطني ، سواء كان ذلك بطريق مباشر وفي أحيان كثيرة يتم ذلك بطريق غير مباشر . ج – القوات العمومية المختلفة التي تتلقى توجيهاتها من القصر وليس من الحكومة او مؤسسة الوزير الأول غير الموجودة الى الآن ( وزارة الداخلية ). ان تعيين ضباط الجيش وضباط القوات العمومية ورجال السلطة يرجع الاختصاص فيه الى الملك الذي يعتبر رئيسها الفعلي ، وليس الى الحكومة التي تعتبر حكومة الملك مكلفة بتصريف الأعمال اليومية فقط . ويمكن الإشارة الى هذا من خلال العديد من القرارات الإستراتيجية التي اتخذها القصر دون علم الوزير الأول فأحرى أن يكون ذلك في علم الحكومة . مثلا قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، مع جمهورية فنزويلة، الطريقة التي اتبعت في إعفاء مدير صندوق الإيداع والتعمير ، المفاوضات مع البوليساريو، التعيين في المناصب السامية مثل المدراء العامين ، الولاة والعمال ، مدراء الأجهزة الأمنية ..لخ. د – المجالس العلمية ، رابطة العلماء ، دار الحديث الحسنية ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، خريجو القرويين والمعاهد والكليات الإسلامية مثل كلية ابن يوسف وكلية أصول الدين بتطوان ..لخ . ه – الأجهزة الإعلامية المختلفة المؤثرة في بلورة الرأي العام وقيادة السلوك الشعبي نحو غايات تتناغم مع أصول الدولة التيوقراطية ، وهنا لا يجب ان ننسى ان الفصل التاسع عشر من الدستور يعتبر الملك أميرا للمؤمنين ، مع ما يعطيه له عقد البيعة الذي يجمع الأمير بالرعية وليس بالأحزاب، من سلطات وادوار سياسية ودينية خاصة في الحقل السياسي المغربي، تجعل مكانته تسمو فوق جميع السلط المعروفة في الدستور (الممثل الأسمى للأمة ). وفي هذا المجال فان جميع الملوك العلويين يحرصون على تأكيد انتسابهم الى أهل البيت الكريم . و – أعيان القبائل المغربية الذين يمثلون المحافظة في صورها الضيقة . وإذا كانت الإدارة الكلونيالية عند حمايتها للمغرب قد اعتمدت على سلطة الأعيان في تطويع القبائل ، فان نفس الأعيان من خلال نزعتهم المحافظة والمهيمنة يوفرون الدعم للمركز سواء من خلال الضرائب او من خلال فرض الطاعة والإخلاص، او من خلال توفير الكتلة الناخبة المحافظة في مواجهة جميع الموجات المهددة للقيم وللموروث الإيديولوجي الذي يميز النظام السياسي المغربي عن غيره من الأنظمة الأخرى في العالم ( الخصوصية المغربية الأصيلة ) . لقد أدرك فؤاد الهمة هذه الحقيقة التي استغلها في تقديم حزبه كحزب للملك وانه يعمل على مشروع ملكي ، فاعتقد الأعيان المؤثرون في القبيلة ان الأصالة والمعاصرة مرسول من طرف الملك ، فلم يترددوا في تجنيد القبائل للتصويت له ، كاستجابة لأمر ملكي ، فكانت نتيجة الانتخابات بالشكل الذي مكن حزب الهمة من الحصول على الأغلبية في البادية، مع تحقيق تقدم مهم في المدن مقارنة مع أحزاب أخرى كالاتحاد الاشتراكي ، حزب الاستقلال ، التقدم والاشتراكية ، العدالة والتنمية ، الحركة الشعبية ، الاتحاد الدستوري ..الخ. 2 – الأحزاب السياسية : بخلاف التصنيف الحزبي الذي كان شائعا خلال ستينات ، سبعينات ، ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ، حيث كان معيار التمايز بين الأحزاب هو التعارض الإيديولوجي والتنظيمي والموقف من الحكم والحكومة ، أصبح التصنيف المعتمد الآن أكثر سهولة بسبب وجود فقط مجموعتين من الأحزاب هما : أ – المجموعة الأولى ونطلق عليها تسمية الأحزاب الانتخابية ، لأنها كلها تشترك في المسلسل الانتخابي بهدف الدخول إلى البرلمان ومنه الى الحكومة اذا توفرت بعض الشروط التي تسمح بذلك . وقد سمينا هذه الأحزاب بالانتخابية ، لان أي حزب اذا فاز بالأغلبية وكون حكومة ، فان هذه ستكون حكومة جلالة الملك ، وليست حكومة حزب او أحزاب الأغلبية . ان الفصل 24 من الدستور يعطي للملك اختصاص تعيين الوزير الأول وليس رئيس الوزراء ، وباقتراح من هذا الوزير يعين باقي أعضاء الحكومة ، ومن ثم فإذا كانت الأحزاب تتقدم الى الانتخابات ببرامج انتخابية مختلفة ومتشابهة ، فانه بعد الانتخابات تتولى تطبيق برنامج الدولة الذي هو برنامج الجميع ، وليس برنامج الأحزاب التي تظهر قبل الانتخابات ولتختفي بعدها . ان هذه الأحزاب كلها ملكية ويأتي على رأسها حزب الأصالة والمعاصرة ، حزب العدالة والتنمية ، حزب الاستقلال ، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، حزب التقدم والاشتراكية ، الحزب الاشتراكي ، حزب المؤتمر الوطني الاتحادي ، حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ، اليسار الاشتراكي الموحد ...الخ . ان الفرق داخل هذا التحالف والإجماع الانتخابي هو في تحديد الموقف من الدستور ومن الاختصاصات المخولة لجلالة الملك . أي الموقف من الملكية الفاعلة المندمجة والمنتجة وهي ما يطلقون عليه الملكية التنفيذية ، وبين الملكية البرلمانية التي من مضمونها نقل السلطات الأساسية للملك إلى الوزير الأول ، وهو ما يعني إضعاف الملك لصالح الوزير الأول الآتي من الانتخابات ، وإضعاف المؤسسة الملكية لصالح الأحزاب ، وهو ما يتنافى مع الوظيفة الأمامية ( الإمامة) التي يتصف بها النظام السياسي المغربي وتعطيه شرعية وقوة وجوده. وبينما تتمسك الأغلبية الحزبية بوظائف الإمامة وبالملكية الفاعلة ، فضل حزبان من الائتلاف الانتخابي التمسك بالملكية البرلمانية التي يشيرون إليها ب ( ملك يسود ولا يحكم ) وكان عليهم الاكتفاء بقول (ملك لا يسود ) او ( ملك لا يحكم ). ان هذين الحزبين هما حزبا الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ، واليسار الاشتراكي الموحد. ب – الأحزاب الجمهورية وتتلخص في حزبين هما : حركة النهج الديمقراطي ذات الاتجاه الماركسي ، وجماعة العدل والإحسان ذات الاتجاه الاسلاموي . فبينما ينظر النهج الديمقراطي والجماعات الماركسية التي تقع على يساره للجمهورية الديمقراطية الشعبية ، نجد ان جماعة العدل والإحسان توزع تنظيرها بين أصحاب الخلافة الإسلامية ( الشيخ عبدا لسلام ياسين) وبين أصحاب الدولة ( الجمهورية ) الإسلامية ( السيدة نادية ياسين ). واذا كان يجب احترام مواقف هذين التنظيمين كوجهة نظر في خصوص مستقبل الحكم بالمغرب ، فان مجهودات اليسار الماركسي سوف لن تخرج عن الحقل الثقافي السياسي داخل أصوار الجامعة وفي بعض المنتديات الاجتماعية المعروفة ، ومن ثم فان تواجدهم لن يخيف الدولة في شيء ، بل قد تستعمل أدبياتهم للإشباع الثقافي لا غير . أما جماعة العدل والإحسان ورغم معارضتها القوية لنظام الحكم في المغرب ، فان تحركها لا يستطيع تجاوز المربع المرسوم لها بعناية فائقة . يلاحظ أن حركة النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان قاطعا العملية الانتخابية الأخيرة للجماعات المحلية ، وسيستمران في مقاطعة الاستحقاقات القادمة دون التأثير في الكتلة الناخبة التي تنساق وراء مشاريع الدولة وليس ضدها. إذن بعد فشل جميع المشاريع الإيديولوجية العامة ، وانتقال الجمهوريين من مطلب الجمهورية الى التسليم بالملكية ، واندماجهم في الائتلاف الانتخابي ( باستثناء النهج والعدل والإحسان ) ،هل أصبح مجديا الآن الاستمرار في استعمال تعبير ( ملك يسود ولا يحكم ) رغم حمله في طياته دليل تناقضاته ؟ . ورغم انحسار المطالبين بهذا النموذج في الحكم في حزبين هما اليسار الاشتراكي الموحد، وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ، رغم النتائج الكارثية التي حصداها في الانتخابات الأخيرة، التي اعتبرها العديد من المحللين إدانة من قبل الناخبين للاختيارات الحزبين المتناقضة مع الإجماع الوطني حول حقيقة الخصوصية الوطنية من فلسفة الحكم بالمغرب ،وهذا تدل عليه النسبة المئوية التي حصدها حزب الأصالة والمعاصرة في الانتخابات بسبب استغلاله اسم الملك في تسويق صورة الحزب بالبادية ، ومن جهة أخرى بسبب تخلي هذه الأحزاب خاصة حزب الطليعة عن تاريخه مصدر قوته وقبوله الدخول في الانتخابات دون تحقيق أدنى مطلب من المطالب التي دأب يتحجج بها لتبرير مقاطعته للاستحقاقات السياسية التي عرفتها المملكة منذ استقلالها . وهذا الوضع يبين بالملموس ان تحاليل الحزب في تقييم الوضع السياسي بالمغرب كانت كلها خاطئة مما أضاع معه المغرب وقتا ثمينا في صراع عقيم دام أكثر من أربعين سنة . قد يطرح بعضم بعض الأسئلة من قبيل : ما هي الأسباب الرئيسية التي حدت بحزب الطليعة إلى الانتقال من مطلب الحكم الى مطلب الحكومة ؟ ما هي الأسباب التي حدت بالحزب ،الانتقال من مقاطعة جميع الاستحقاقات السياسية التي عرفها المغرب الى المشاركة فيها دون ان يتحقق أدنى شيء من الشروط التي كان يطرحها للمشاركة في الانتخابات ؟ . اعتقد ان منظري الحزب بعد ان أعيتهم السنوات العجاف ، وبعد ان شعروا بان الركب والأحداث قد تجاوزهم بكثير، بسبب التغيير الكبير الذي عرفه المغرب في العشرية الأخيرة ،اعتقدوا ان شروط المرحلة والوضع السياسي الذي يوجد فيه المغرب ، أضحى قوة تساهم في تثبيت وجودهم خاصة بعد الانقسامات والانسحابات التي عرفها الاتحاد الاشتراكي ، وتحوله من المعارضة الى الحكومة مع حزب التقدم والاشتراكية ، وهو ما يعني ان منظري الطليعة الى جانب اليسار الاشتراكي الموحد ، اعتقدوا من خلال مشاركتهم في الانتخابات ان الحكم في حاجة ماسة إليهم لكي يلعبوا دور المعارضة التي كان يلعبها الاتحاد الاشتراكي في البرلمان ، من جهة لإعطاء الجسم التشريعي ديناميكية سياسية وتشريعية من موقع المعارضة التي فشلت في لعبها الأحزاب الإدارية ، ومن توظيف هذا المشهد لتجميل الديمقراطية بالمغرب . لذا اعتقد هؤلاء خاصة بعد اللقاء الذي عقده الهمة مع قيادة اليسار الاشتراكي الموحد ، ان النظام في حاجة إليهم للعب ذاك الدور ، ومن ثم فان المؤشرات التي تكون قد تجمعت لهم ، ان وزارة الداخلية ستزور لصالحهم الانتخابات لخلق معارضة قطبية تتكون من الطليعة واليسار الاشتراكي إضافة الى المؤتمر الوطني الاتحادي والحزب الاشتراكي .وقطب آخر سيتكون من المعارضة الاسلاموية لمواجهة الحكومة القادمة التي ستكون حكومة الهمة ومن معه . لكن التعليمات الملكية السامية بان تكون الانتخابات حرة ونزيهة أبطلت جميع تلك التخمينات ، كما أسقطت أي تخرجة كان الهمة يفكر فيها عندما استقبل قيادة اليسار الاشتراكي الموحد . ورغم النتائج الانتخابية التي كانت كارثة بالنسبة لحزب الطليعة سواء في انتخابات شتنبر 2007 ، او في انتخابات يونيو 2009 فلم يصدر عن القيادة الهرمة أي بيان ليوضح للرأي العام حقيقة ما جرى ، او قدمت نقدا داتيا أو دعت إلى مؤتمر استثنائي لتقييم الحصيلة وتسليم الحزب الى الشباب عنوان التغيير والتجديد . فما استمرت قيادة الحزب تتشبث به إلى جانب اليسار الاشتراكي لا يتجاوز المطالبة ب (ملك يسود ) و ( لا يحكم ). ففي ظل هذه الحقيقة عن فشل الجميع وتحولهم الى لاهثين نطرح السؤال : اذا كان هؤلاء يطالبون بملكية (يسود فيها الملك ولا يحكم ) رغم تناقض المعنى بين ( يسود ) و ( لا يحكم ) فمن هو إذن مؤهل للحكم في ظل هذا الوضع الحزبي الضعيف و الرديء ؟ . ان النتائج الكارثة التي حصدتها الأحزاب عند مشاركتها في الانتخابات الجماعية والبلدية ، حيث تجلى ضعف تمثيلية الأحزاب للشعب ، يجعل ان لا مفر من التركيز على بقاء الملكية التنفيذية باعتبار ان الملك حسب الدستور وعقد البيعة هو الممثل الأسمى للأمة ، وليس الأحزاب التي لا تمثل سوى مصالح قيادتها وليس قواعدها ، هذا اذا كانت لها من قواعد تنفد تعليمات قيادتها .