بم تفكر؟ سؤال "الفيس بوك" لك، تقرأه كل مرة وكأنك تطالعه لأول مرة! يسألك "الفيس بوك" ببراءة مبالغة في افتعالها، ويتركك لتنقل بعض ما في رأسك، لتدونه طوعا على البياض المضيء أمامك.يُخيِّرُك أن تنقر ما تشاء عليه، كلمة، خاطرة، شعرا، رأيا، صورة، رسما، فيديو… استحسانا ومديحا أو شتيمة وإساءة.. لا يهم.. الأمر سيان. أن ترد على السؤال بجواب مهما قصرت سطوره أو طالت، ولتثبت للفيس بوك أنك فكَّرْتَ وتُفكر، وأنت كائن على قيد التفكير..! بعدها يأتي الأصدقاء والخصوم والأعداء والبصاصون، المتلصصون والمتجسسون، كأسراب ذباب تهاجم كأس شاي بارد، تتجمع حول ما وضعته من أطباق وفواكه متنوعة، وتملأ صفحتك بطنين التعليقات المستحسنة وباللّايكات. بالنسبة لي كل "الفسابكة" يعانون من الفضول ومن الحشرية، ذباب فيسبوكي ملسوع بحشرات "الذباب الإلكتروني". *** قبل زمن "الفيس بوك" كان الواحد يستفرد بخصوصياته لوحده، أو لا يفشي بها لأحد سوى لخُلّاصِه الحميميِّين فقط. فصار اليوم ينشر آراءه في السياسة والمجتمع والرياضة والفنون وغلاء الأسعار، وفي القضايا والشؤون العامة.. ثم يفتح ألبوم ذكرياته وصوره القديمة على قارعة الطريق، ينتقي باستغباء، آخر بروفايل شخصي له بأسلوب السيلفي، بكاميرا هاتفه الذكي، وينتظر إعجاب المعجبين، وإذا صادف صديقا لم "يتفسبك" بعد فإنه يلومه على تأخره ويستدعيه للانتساب إلى ملاذات القارة الزرقاء ونعيمها. *** يخبر الواحد عن نفسه كل شيء، بل قد يُنبئ الناس عماذا أكل وشرب، يضع وجبة الطعام الذي تناوله بالصورة والتعليق. وبعضهم لا يتردد في أن ينشر على الناس حالته العاطفية، يقول مثلا: إنه "يحب"، وقد يسمي حبيبته ويدلنا على دارها "صفحتها" المصونة!. آخرون من غير المحظوظين في الحب، يقرون للجميع أن علاقتهم العاطفية "جد معقدة". يلجأ البعض إلى الإفصاح عن مكان تواجده، وعن حالته الشعورية الآنية، ومن لا يحسن التعبير يُسعفه الفيس بوك بعلامات "إيموج" جاهزة صفراء خاصة: (فرحان، حزين، قلق، مهموم…. إلخ). بل يطلب منه تحديد الحالة التي هو عليها، أو العمل الذي هو بصدده: (بصدد التفرج على التلفزيون، أحتفل الآن، أسافر في القطار، أستمع إلى أغنية، أشاهد فيلما، أبحث أو أطالع كتابا، ألعب لعبة فيديو… إلخ). آخرون يشكون مرضهم، بدل التوجه إلى طبيب أو صيدلية. أو يخبروننا أن ابنهم، والدهم، والدتهم، أختهم، قريبهم.. في حالة مرض ويعاني المسكين، ويطلبون من أصدقائهم "الفسابكة" الدعاء بالشفاء. وقد ينشرون لقطات من سرير المرض والمستشفى، ويوثقون بالصورة إجراء عملية جراحية. لم يكن اعتباطا تسمية صفحة "الفيس بوك" بالحائط والجدار، فقد تحولت الصفحات إلى حائط مبكى كبير، وجدار ضخم بحجم كوكب الأرض. *** كلما دخلتَ"الفيس بوك"أشهر سؤاله الأبدي في وجهك: "بم تفكر؟". رواد الفيس بوك كلهم مفكرون، وشعار "الفيس بوك" هو: "أنت تَتَفَسْبَكْ.. إذن أنت تفكر"، فلتعترف بما يدور في تلك الرأس… وبعدها يصل رجل اسمه رينيه ديكارت قادما من "عصر الأنوار" ليؤكد لنا أن الإنسان الفيسبوكي موجود. ولم يخطر ببال هذا الفيلسوف الفرنسي أن نصف من "يفكرون" فيسبوكيا غير موجودين، هم مجرد بروفيلات مزيفة. يختفون وراء هويات وصور وذكريات منتحلة ومشاعر ومواقف غير حقيقية، وشعارهم: " أنا أتلصص على الآخر.. فأنا هو الحقيقي الوحيد". لم يعد التجسس على الغير لديهم مرضا نفسيا، بل صار هواية ولعبة مسلية، لعبة رقمية إلكترونية من هذا العصر. هم الحداثيون المعاصرون حقا! والنصر لمن يملك المعلومة، حتى لو كانت نميمة مسيئة ضد صديق. بل إن كثيرا من الآباء والأزواج صاروا يتجسسون على أبنائهم وأزواجهم من نافذة مواقع التواصل الاجتماعي. وها قد تم تسهيل مهمة المخبرين وأجهزة المخابرات، صارت صفحات الفيس بوك تغني عن بطاقة سيرة الذاتية، إلى المتقدم للحصول على منصب شغل، أو المرشح لمهمة. وقد عمد أحدهم إلى حذف مواقفه وصوره التي يعلن فيها مواقفه السياسية، وخلعت أخرى الحجاب، بعد التقدم لمباراة توظيف رسمية، وعلى هذا المنهاج يفعل كثيرون. وننسى أن إدارة الفيس بوك تبقي في أرشيفها على كل ما ينشره رواد موقع التواصل الاجتماعي حتى لو قاموا بحذفه، بل أكثر من هذا فإن أصحاب الفيس بوك يجدون المتاجرة بمعلومات الفسابكة إلى الأجهزة الاستخباراتية المعنية سبيلا مشروعا لزيادة أرقام مؤشرات شركتهم العملاقة في البورصات. *** لكن الطّامة الكبرى أنه مع "الفيس بوك" و"التويتر" وباقي مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحنا أمام خبراء مزعومين، من دون خبرة وبلا دراية، لا يخجلون من الكلام والإدلاء برأيهم في كل شيء.. وعن كل شيء، من تسيير مباراة صغيرة في كرة القدم وخطة مدرب الفريق الوطني، والاقتصاد والسياسة والدين والفلسفة والطب والصيدلة وعلوم الفضاء والتكنولوجيا الدقيقة، وصولا إلى سبل القضاء على فيروس كوفيد 19.. ولا يهم هؤلاء "الخبراء" إن كانوا يتقنون الكتابة والتعبير أولا يخطئون في اللغة.. تتساوى لديهم الأحرف وتنقيطها وعِلَلها وإعجامها وحركاتها، فالجزم والنصب سواء.. أكبر اعتداء ومجزرة ضد اللغة تمارس بهمجية وبربرية كبرى غير مسبوقة على الفيس بوك، وغيره من مواقع التواصل على الأنترنيت. ولا تسأل عن هجمة القادمين من عصور الجاهلية ممن يركبون الإبل والجمال وبأياديهم سيوف ونبال ورماح يدعون القوم إلى دخول الدين الصحيح. فقل باسم الله وصحح اختراع الكفار، هو "سيف أبوك".. لا "فيس بوك". ما دفع "أُمبرطو إيكو" إلى التحذير من "وباء" الأنترنيت، حين كتب في مجلة إيطالية أنه "لا يحق لأيّ شخص الكلام في أيّ موضوع إلا إذا كانت معرفته به كبيرة جدا". وتساءل صاحب "اسم الوردة": "هل يمكننا إسكات الأغبياء؟". هو الذي سبق أن عبّر عن خوفه من أنّ "الأغبياء كانوا سابقاً يثرثرون في المقهى، أما بزمن الفيس بوك والتويتر فيجب مواجهة سيطرة الأغبياء". لكن الفيلسوف والكاتب الإيطالي وجد نفسه قبل وفاته في مواجهة من يتهمونه بالنخبوية وبكونه "ضدّ الديمقراطية" وضد "الحق في التعبير". *** لكن "الفيس بوك" كان رائدا وحاضرا وشريكا في صنع ثورات الربيع العربي. فك الحصار الإعلامي عن الثوار والمتظاهرين، أخذ مكان "المنشور السياسي" المطبوع بماكينة "الرونيو" على ورق "الستانسيل"، والموزع سرا من تحت المعطف. وشغل أجهزة الاستخبارات وهي تتبع عن كثب قادة التظاهرات، وتعمل على تكبير حجم "البيكسيل" لصورهم في الساحات. كم من مدون فيسبوكي وجد نفسه مساقا إلى المخافر ليلا، ومجرجرا أمام المحاكم بسبب تدوينة صغيرة. أما السياسيون، فاتخذوا "الفيس بوك" بوصلة لمعرفة اتجاهات الجماهيرية، وتيرموميتر لقياس درجات حرارة من معهم، ومن يصطف في الضفة المعادية لهم. وأكثرهم صاروا "بلابل تغرد" على الجمهور من خلال نافذة النخبة المسماة ب "تيوتر". فمتى سيُحفر سور هذا السجن ومن سيعلن عن تنظيم "عملية الهروب الكبير"؟ الهروب من أين.. و إلى أين؟ هَيْتَ لك..! غُلِّقَت الأبواب.. هَيْتَ لكم.. !