أتصفح كتابا عن السرطان. ألاحظ كيف أن السرطان، بغتة، بدا أكثر رحمة بالإنسان من الفيروس التاجي المستجد. وأتأمل كيف أن هذا ليس بالانقلاب الكبير الوحيد الذي نستقبله اليوم، مستسلمين حينا ومقاومين حينا آخر. ثم أمرر شريط انقلابات أخرى تجري أمام أعيننا في عصر الجائحة هذا، في الاقتصاد والتدبير والبيئة والتعليم واليومي وغيرها. «كان مرض السُّل يسمى «الاستهلاك» لأنه يَستهلك؛ فهو يُذيب الرئة أو العظام. بينما السرطان يُنتج. بل هو وحش من الانتاجية المفرطة» (جون غونتر). بينما الآن، فيروس كورونا-19 يَشُل. يوقف عديدا من مظاهر النشاط الانساني، ويجعل بهجة الحياة حبيسة الذاكرة وقصة حنين. العمل، التواصل، الحركة، اللقاء، الحميمية، السفر، الحرية، التوقع،… وغيرها من قدرات وإمكانات وحاجيات الانسان يُعاد سبكها في علاقتها بالمكان والزمان والسلطة والتكنلوجيا. والسؤال الذي يقفز من أعماق دهشتنا عقب هذه الصدمة الكبرى، هو ذاك الذي طرحه جورج جونسون: «كيف يمكن للحياة أن تكون بمثل هذه القوة، وبمثل هذا الضعف أيضا؟». وفي الوقت الذي نشهد هذا الاستنفار العالمي حول خطر هذا الفيروس، لابد أن نسجل عطب ذاكرة الحياة أيضا، ومعطوبية الحياة التي نستعيدها بحنين، باعتبارها «الطبيعي في نمط عيشنا»، في وقت لم تكن البتة طبيعيةً. وهنا تخدعنا الذاكرة، فتكون أشبه بشاهد زور. وإذ يُظَهِّر هذا الفيروس جانب المأساة الجديد، نكاد ننسى جوانبها القديمة. حروب طاحنة وأخرى بالوكالة تحصد – وما تزال- ملايين البشر خلال العشرين سنة الماضية (العراق، أفغانستان، سوريا، اليمن، ليبيا، فلسطين، لبنان، الصومال، تشاد، مالي، السودان، جنوب السودان،…)، نتج عنها عشرات الملايين من اللاجئين والنازحين والمهاجرين السريين (من سوريا وليبيا ومصر واليمن وأفغانستان وتونس والمغرب والسودان وجنوب السودان وميانمار)، انتهاكات صارخة لحقوق الانسان (مصر، السعودية، البحرين)، حصار اقتصادي ظالم لدول ولمئات الملايين من المواطنين استنادا إلى شرعية القوة وإرادة تدمير الآخر المختلف (غزة، كوبا، إيران، فينزويلا، كوريا الشمالية)، بالإضافة إلى ملايين من لاجئي المناخ والاستغلال الاقتصادي الإمبريالي (في دول إفريقية عدة – دول الساحل بخاصة). وهي معاناة مأساوية بالجملة يقف خلفها الغرب (أمريكا وأوروبا وروسيا بدرجة أساسية) إما مخططا أو داعما أو مؤيدا أو مستفيدا أو ساكتا أو خليطا من هذا وذاك. هذا بالإضافة إلى ملايين العمال الذين حولتهم آلة الإنتاج إلى عبيد جدد، يلهثون وراء الرزق على حساب آدميتهم وسعادتهم وحريتهم (في الصين ودول آسيوية وثالثية أخرى)، وملايين المرضى والوفيات بسبب تلوث المناخ في كبريات العواصم الصناعية في العالم، ودون أن ننسى طبعا ملايين الفقراء الذين طحنتهم الأزمات الاقتصادية المتتالية والسلطوية السياسية وضعف الحكامة، ورمت بهم إلى قارعة البطالة والمرض ونقص الحريات، بل ونقص الماء! لكن، ولأسباب منهجية، نضع مظاهر المأساة هذه جانبا للحظة. * هشاشة طويلة الأمد تحت رحمة كورونا، نجد أنفسنافي وضع من الهشاشة غير مسبوق. تجاوزنا معه الكثير من المشاعر السلبية إلى ما هو أسوأ منها. فالأسوأ من الشعوربالخوف يتمثل في عدم القدرة على توقع ما بعده. والأسوأ من الشعوربالضعف يتمثل في ضعف الإمكانات نفسها التي يُفترض فيهاأن ترفع هذا الضعف الانساني. يقول آلان تورين واصفا الوضع: «في جانب، لدينا آلة بيولوجية، وفي الجانب الآخر، لدينا أشخاص ومجموعات دون أفكار، دون قيادة ولا وِجهة، دون برنامج، دون استراتيجية، ودون لغة. إنه الصمت». ففي أقل من شهرين، نرى، والقول لإدغار موران كيف «كَشَف الفيروس أن العالم يعيش حالة اعتماد متبادل، لكن بدون آليات تضامن عالمية». يحتمي الانسان اليوم بالتكنلوجيا الرقمية: يتواصل، يُبلغ الرسائل، يسأل عن أقربائه، يبُث الأخبار، يقوم بالتحسيس، يشتغل خلف الشاشات، كل هذا يتم عن بعد. ولكن إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع مع هذا الانطباع الضاغط بأننا تحولنا إلى أناسمحجور عليهم، ولا حيلة لهم إلا الانتظار، بما فيه انتظار الأسوأ؟ هذا هو السؤال المحير! على لوحة القيادة مكتوب: فترة هشاشة طويلة الأمد. فحتى مع توفر اللقاح والدواءوانحسار تفشي الفيروس، ستبقى إعاقتنا ممتدة في الزمن، اجتماعيا واقتصاديا. تضغط هذه الأزمة بالكثير من القسوة، على الفقراء وعلى المصابين بأمراض مزمنة، وعلى المصابين بأمراض نفسية وعقلية، وعلى المصابين بالفيروس، وحتى على الذين يملكون قدرات محدودة على التحمل والمقاومة النفسية. اختبَرت هذه الأزمة الناس، ودفعت بعضهم إلى حافة الجنون واليأس والموت. ربما لم يشعر المترفون على القمة بكثير من هذا، ولكن الضغوط في وسط الهرم وفي قاعدته كبيرة. وهنا، أختلف مع من يقول: ها قد تساوى الفقير والغني! لا!إذ مازال للأغنياءخيارات أكثر، مازال بإمكان الغني أن ينام ملء جفونه، أن يستعين بمخزون من الاطمئنان تجاه المستقبل، أن يلجأ إلى ادخاره لسد كل حاجياته، أن يسد حاجات أطفاله، أن يستشير طبيبه عن بعد، أن يُطل من شرفة بيته، أن يتنزه في حديقته الصغيرة، إلخ. بينما على مستوى الوسط والقاعدة، تنْفَتح البدائل المتوفرة على الكثير من قصص العنف والاكتئاب وإراقة ماء الوجه والتسول والجوع. * حرية محجورة: حين أسرع البعض إلى التعليق على قرارات الحجر الصحي وقوانين الطوارئ، معتبرا إياها إجراءات ممهدة لعودة السلطوية ومؤامرة على الحرية، بدا هذا البعض وكأنه يعيش غيبوبة اتجاه حقائق الواقع. منذ البدء، كان هذا عبارة عن نقاش مغلوط، زائف، وسفسطائي. فما الفائدة فيالدفاع عن تصور مثالي للحرية إذا كان من شأنه أن يزيد من حصد أرواح الآلاف في الأسبوع الواحد. هناك حاجة إلى التفكير بجدية في كل ما يقع، ومن دون استغراق في التفكير كثيرا في المابعديات. لأن الكارثة هنا، قائمة وشامخة. هنا تبدو تنظيرات بعض الفلاسفة –الذين يستحقون الاحترام في جميع الأحوال- مجرد ترف في القول. لسبب بسيط، هو أن الكثير مما يقولونه ليس جديدا تماما أو أن وقته إما فات أو لم يَحن بعد (مثلا، جورجيوأغمبن، ونظرية الفيروس-الفزاعة التآمري على الحريات! [والذي تكفل صديقه جان-لوك نانسي بالرد الجميل عليه]، وكذا فتحي المسكيني واستغراقه المتسرع في مابعديات ميتافيزيقية أقرب إلى الهذيان). في هذا الظرف الاستثنائي، يكون الإفراط في التفاؤل عبر طرح سيناريوهات سوداء أو وردية ما بعد-ليبرالية أو ما بعد-أمريكية، أو التسرع في وضع خطاطات وخرائط للنظام الدولي الجديد، أو الإفراط في التشاؤم، لا يغري بالكثير من المتابعة وينم عن لا جدية واضحة- عكس ما يعتقد أصحاب هكذا أطروحات. وعلى حد تعبير عزمي بشارة «فقط الفلاسفة الموسميون في زمن الكوارث يستنبطون من كل تفصيل نبوءة، ويستسهلون التعميم من وقائع منتقاة إلى نظرية شاملة، وكان يمكن استنتاج غيرها لو انتقوا وقائع أخرى. ولهذا السبب يمكن اعتبار هذا النوع من التفلسف ظاهرة نافلة». أعجبني نعوم تشومسكي في حواره مع قناة «DiEM 25» ، والذي من دون أي اندفاع "بطولي"لتفسير ما سيأتي وسرد المابعديات، قام بتذكير واضح وشديد بالكارثتين المخيمتين فوق رؤوسنا منذ عقود واللتانما تزالاقائمتين بعد: الحرب النووية والكوارث التي سيتسبب فيها الاحتباس الحراري- وبالتأكيد، لم ينس تذكير العالم بوباء «النيوليبرالية المتوحشة».واعتبر أنّ الأزمة تنبيه ودرس لنا في التعامل مع أزماتنا اليوم لمنعها من الانفجار والتفكير في جذورها، وكيف أنّها ستقودنا إلى المزيد من الأزمات الأشدّ سوءاً. باعتبار أن الجانب المُضيء في هذا الوباء، هو أنه قد يدفع الناس إلى التفكير في نوع العالم الذي نُريده. نعم، إن العديد من المسارات التي سلكها العالم فيما قبل وهو معصوب الأعين، لا بد وأن يجري تعريضها للنقد والتساؤل الجدي. تَذَكَّر السياسيون فجأة شيئا اسمه السيادة، وتحدث بعضهم عن السيادة الصحية. وفي هذا اعتراف بالاستدراج الذي انطلى عليهم وعلى العقل السياسي والفكر القوميَين بتخطيط من الرأسمال العابر للحدود وأيديولوجية الخصخصة. مع كورونا، نكتشف إلى أي مدى كان رفع يد الدولة عن بعض القطاعات انعطافا حقيقيا تجاه الوجهة الخاطئة، ويضرب تشومسكي في حوار آخر معه مَثَلا مُعبرا بهذا الشأن، يبين كيف أننا «سَلَّمنا مصائرنا لكبريات شركات الأدوية… وهي لا تخضع للمساءلة… وبالنسبة إلى هذه الشركات،صناعة كريمات جديدة للجسمأكثر ربحية من إيجاد لقاحات تحمي الجنس البشري من الزوال». (من حواره مع موقع تروث أوت الأميركي غير الربحي). وهذا الانحراف الكبير جاء الفيروس ليضع له بعض الكوابح. وحين يقول مثلا سلافويجيجيك أن كورونا هو »الفيروس الأخطر على الرأسمالية«، يكون على حق إلى حد بعيد. غير أن هذا التهديد يتجاوز التأثير السلبي على دورة الإنتاج ومؤشرات الاقتصاد وانتقال الرأسمال، إلى الكشف عن الوجه الآخر للرأسمالية المتطرفة. فقد عرَّى هذا الفيروس، أولا، ضعف الرأسماليةفي مواجهة هذا التحدي الجديد لوجودها هي، وثانيا، أبرز محدودية قدرتها على تلبية حاجات المواطنين في ظروف طارئة (الحروب، الأوبئة، الأزمات الاقتصادية الكبرى،…).فقد ظهر بما لا يدع مجالا للشك أن التنظيم الفائق للرأسمالية غير مؤسَّس على الوقاية والحمايةوإنما على الفعالية الربحية والاندفاع غير المحسوب. وهنا مكمن خطرها على نفسها وعلى البشر وعلى البيئة. هكذا، في الأزمات الكبرى التي تهدد النوع، تتراجع التنظيمات الرأسمالية -باستثناء القادرة منها على التكيف-، وتتقدم مؤسسات وهياكل أخرى، في مقدمتها الدولة (المؤسسة القطرية الجامعة/الدولة المنقدة)، إلى جانب مختلف أشكال التضامن (كمؤسسات للعطف والعناية) والدين والأخلاق والأيديولوجيا (كمصادر للمعنى الوجودي ولصناعة الأمل) والبطولة (كإرادة للتضحية). ويبدو أن فتحي المسكيني أخطأ حين حاول فك الارتباط بين أثر تفشي الفيروس والرأسمالية؛ لأنه نظر إلى الصورة (كورونا كتحدٍّ) دون خلفيتها (الأسئلة التي لا يمكن تأجيلها أكثر مما حصل). لكنفك الارتباط هذا، لا يعدو أن يكون ظاهريا، لأنه هو نفسه يعود ليقرر أن كورونا يطرح إشكالية ما أسماه ب «سياسة الحياة» على الكوكب. ولنا أن نتساءل: كيف يمكن فصل سياسة الحياة على الكوكب عن الرأسمالية؟! إنالانحراف في مسارات الحياة الذي يتحدث عنه اليوم الإنسان العادي والفيلسوف على حد سواء، هو قضية ملحة بالفعل. بل يمكننا القول أن فتح هذا النقاش على مصراعيه لن يجد فرصة أحسن من هذه.إذ لابد من مساءلة الفكر الذي أمسى عاجزا عن التركيب وترتيب الأوليات وإدراك المخاطر على النوع البشري والكوكب، والاقتصاد الذي أمسى أكثر تمركزا وإقصاء وتدميرا. بل إن هذا الانحراف شمل حتى العلم. فهو الآخر يتعين أن يدخل تحت مطرقة النقد. ففي الوقت الذي «يجب علينا -يقول إدغار موران- أن نرى إنجازات العلم المعاصر، يجب أن نرى في نفس الوقت مظاهر ضعفه» (حوار له مع مجلة لوموند). يتحول العلم، شيئا فشيئا، وبدعوى التخصص، إلى كانتونات علمية لا تتواصل فيما بينها وتفتقد، نتيجة لذلك، الرؤى الواسعة والأفكار الطولى. وما فتئ العلم، أيضا، يسقط في يد الاحتكارات الكبرى، التي تبحث عن الربح على حساب المصلحة العامة، والانتاجية على حساب الحفاظ على حقوق الكوكب. وخلف العلم تقف أيديولوجيا التقدم، ذات المهارة الكبيرة في حجب قوتها التدميرية للأبعاد غير الاقتصاديةللإنسان وتنكرها لما هو أصيل في الطبيعة.جرى حشو الانسان الاقتصادي (الهومو-إيكونوميكوس) بعديد من الأساطير الجديدة: (1) التطور الاقتصادي المرتكز على البحث العلمي واستغلال الطبيعة هدف وجودي في حد ذاته، و (2) اليد الخفية كفيلة بترتيب هامش الفوضى.(3) أما السبق التكنولوجي فهو يعلو على كل نقاش، باعتباره ينال شرعيته من قدرته الاستعمالية لا من النقاش العمومي حول المصلحة العامة والحريات والخصوصية. (4) فلم يعد من حق أي جهة أن تضع أوليات أو حدودا أو علامات إرشادية في الطريق؛ لأنه حسب العلموية الجديد، فإن المعوق الوحيد للعلم هو التمويل، إذا توفر التمويل فيجب أن تُرفع كل القيود.. هذه هي اللازمات التي يجري ترديدها بلا كلل ولا ملل، مع أنها تحمل بذور مغالَطات واضحة. * النظام الدولي: يبدو من الضروري ألا نضع هذا الفيروس خارج إطاره الخاص، وبعدها يمكننا أن نتناول تداعياته. والعديد من السرديات الأقرب إلى الأماني يجري تداولها بسبب تحليلات مراهقة. هكذا تتنفس براعم «سردية المؤامرة» التي ستحصدها مناجل الحقيقة قبل نموها. فحتى الآن لا يوجد أي دليل أن الأمر يتعلق بمؤامرةجرى تدبيرها في الصين أو أمريكا قصد تغيير النظام الدولي. وكل ما يقدَّم حتى الساعة عبارة عن استنتاجات قائمة على تخمينات محضة. ولا أحد يقدم أي دليل جدي على ما يدعيه. والاكتفاء بالتلميح في هذه الدراسة أو تلك، دون تقديم تفاصيل أو حجج، لا يعني جدارة البحث والتحليل بل غياب الأدلة. يتساءل عزمي بشارة «هل سوف يغير الوباء النظام الدولي بمعنى المنطق الذي تقوم عليه علاقات الدول وهو توازن المصالح وتوازنات القوى؟ هل سوف تصبح الدول أكثر عقلانية أو أكثر أخلاقية، أو كليهما بسبب الوباء؟»، ويجيب «لا أعتقد ذلك. نأمل أن يصبح الناس عموما أكثر عقلانية أخلاقية، وسوف يؤثر ذلك على السياسة، وربما على طبيعة الأنظمة، ولكن ليس بالضرورة على علاقاتها. ولكن نأمل ولا نتنبأ«. وهذا عين الصواب. إن التوقف عنالتعاطي مع الولايات المتحدةالأمريكية كما لو أنها فريق كرة قدم، على وشك النزول إلى القسم الثاني،ستكون بداية جيدة بالنسبة للباحثين في مستقبل النظام الدولي. كما أن يقظة الحنين إلى ثورة صينية تعيد عقرب الساعة إلى مَاو تسي تونغ لأمر يبعث على الغثيان. وبين ذاك التمني وهذا الحنين، يرزح واقع عنيد تحكمه ضوابط وعلاقات وتوازنات مستحكِمة، تتغير ببطء ولا تنسحب بسهولة. لا نية لأمريكا في التخلي عن قيادة العالم، ولديها من المال والخبرة والوسائل ما يؤهلها لذلك، ومن القوة ما يمنع غيرها من بلوغ في يتمناه. يتوجه العالم أكثر فأكثر إلى توزيع القوى على أقطاب دولية عديدة، وتضعف أمريكا أكثر فأكثر، لكن هذا لم يُخرج أمريكا من محور اللعبة. ما زال في يدها عديد من المفاتيح وأمامها عديد من الخيارات، كما أنها تتوفر على هوامش عديدة للمناورة والفعل، بما فيها استعمال الأساليب القذرة التي دأبت عليها واحترفتها. وبخصوص الصين، يبدو أن الصورة التي تقدمها عن نفسها فيها الكثير من التشويه، كما أن القراءات التي يقوم بها البعض فيها الكثير من الخطأ.من الثمانينيات، وربما قبل ذلك، كفَّت الصين أن تكون دولة شيوعية، أو أن تكون لها النية لتوسيع هكذا أيديولوجية. ما عاد هَم الحزب الشيوعي، أن يكون القط أسودا أو أبيضا، همُّه أن يكون القط قادرا على التهام الفئران، على حد قول الرئيس دِنغ شْياوبنغ، مؤسس الصين الحديثة. ففي الحقيقة، يحكم الحزبالشيوعي الصين -على حد قول محمد حسنين هيكل – «بمزيج من آراء كونفوشيوس وماركس، مضيفا إليهما بعض آراء ميلتون فريدمان-الكاهن الأعظم الجديد لاقتصاد السوق». نعم، قد (هل رأيت فعلا "قد" هذه؟) تحصل في المدى القريب بعض التغييرات في طبيعة العلاقات بين بعض الدول، لكن ليس في بنية العلاقات الدولية (والبنية شيء والعلاقات شيء آخر). وعمليا، يصعب تقدير ماذا سيكون عليه الأمر على المدى الطويل. وإذا كانت قدرات توقع المحللين السَّحرة فعالة وجدية، لكان الأحرى بهم أن يتوقعوا أزمة كبرى كهذه التي نعيشها اليوم.وإذا كان هناك من شيء لا بد من الالتفات إليه الآن بالذات، فهو تحديدا ذلك القدر من العمى الذي كشفت عنه عقولنا وأيديولوجياتنا وبرامجنا التوقعية. * الوعي المشترك: نحن نشاهد الكل يتهم الكل بخصوص ما يجري، لكن قليلون من انتهبوا إلى حصة مسؤوليتهم فيما كل هذا، وقرروا أن يعيدوا النظر في خطاطاتهم الذهنية. لقد كان الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون أشجعهم في هذا الباب حين أقر في خطاب مسؤول أنه سيعيد التفكير في عديد من قناعاته. هذا في وقت ما زال عديدون يؤمنون بفكرة «أن الجحيم هو الآخر» ولذا يستمرون في إلقاء جميع التبعات عليه، في السياسة والفكر والعلاقات الاجتماعية والاقتصاد. التحدي الأساس: التفكير وإعادة التفكير بعمق ودون انجرار وراء اليومي، في المصير الفردي والجماعي والإنساني من خلال فكر مركب يُعْلي من قيمة التواضع والتواصل ولا يستبعد حسابات اللايقين. ف«الحَجر الجسدييجب أن يدفع إلى رفع الحَجر عن الذهن» على حد تعبير إدغار موران. وإذا كنا بصدد التفكير بجدية في تجاوز سلبيات الماضي، فإن النقد والتفكير الحكيم يجب –وهذه وجهة نظري التي لا تلزم أحدا- أن ينصب على بعض المحاور الحيوية بالنسبة للإنسان الفرد وللإنسانية عموما، وهي: ثقافة الاستهلاك، البيئة، الأخلاق العامة والتخصصية، الروحانيات، الحوار، التضامن والنسل. كيف؟ 1. تنتصب ثقافة الاستهلاك على رأس هرم الأولويات. لأنها تتمحور كقطب رحى بالنسبة للتغيير في المستقبل. "أنا أستهلك، إذن أنا موجود"، "أنا أستهلك، أنا سعيدة"، ومثيلاتها من اللازمات، تحكي قصة كائن مُسْتَلب، أمسى يُتَقوم بما هو خارج عنه، كائن انحدر بوجوده إلى حيث يجعل من نفسه مجرد حلقة في دورة إنتاج تعيد تعريفه خارج إنسانيته باعتباره حرا. هنا أصبح الإغواء والإغراء عبر الإشهار والتحفيز على الاستهلاك الأقصى أولى من التخَلُّق والتعقل والتضامن والزهد. لم تعد الحرية شعورا وجوديا بالأساس وحقا طبيعيا، بل قدرة شرائية. وهذا انقلاب خطير، يهدد عديدا من القيم الأساس. 2. يُطرح موضوع البيئة في هذه الأيام بصورة هامشية، لكنه فرض نفسه في جميع الأحوال؛ لأن المفارقة كانت صارخة: فالفيروس العَولمي الأخطر والأكثر تهديدا بالنسبة للانسان، نَزَل بردا وسلاما على كوكب الأرض! انخفاض مَنسوب الجزيئات السامة والغازات الدفيئة في الجو، رَتْقُ ثُقب الأوزون، تكاثر كبير في بعض الأصناف الحيوانية والنباتية، تحسن جودة الهواء بنسبٍ عالية في عديد من الدول، وغيرها من الانقلابات الخضراء، أشارت بصورة واضحة بسبابة الاتهام إلى الصناعات والخدمات الملوِّثة، وأعطت لنُشَطاء البيئة في العالم حجة واقعية جديدة ومُهمة عن صوابية المقاربات التي يطرحونها. ومع أننا لا نتوفر على أي برنامج أو سيناريو مُبَشر بأننا سندخل مرحلة العمل الأخضر الشامل أو الجاد، إلا أن بصمة الفيروس الخضراء ستبقى حاضرة في النقاش العالمي حول البيئة على المديين القصير والمتوسط، حتى ولو تسارعت الخطى إلى تحريك عجلة النمو غير النظيف مجددا بعد إلغاء قرارات الإغلاق القُطْرية. 3. ولا بد أن يكون للأخلاقيات بمعناها الواسع حضورا في تفكير الغد. أخلاقيات العلم وأخلاقيات المهنة، وأخلاقيات السياسة، وأخلاقيات الاقتصاد، وأخلاقيات الإدارة وأخلاقيات العناية وأخلاقيات الحرب وأخلاقيات التواصل، وغيرها. إننا نعاين عديدا من مظاهر السقوط الأخلاقي في مختلف مظاهر الحياة الانسانية بسبب الازدراء التي تعرضت له الأخلاق من لدن السياسي ورجل العلم والمهني والموظف والعسكري والناشط المدني والانسان العادي. في أكثر من نقاش ومجال، اعتُبر الحديث عن الأخلاق رِجعية ودعوة إلى إحياء التقاليد، بينما اعتُبر رفع كل المُوجهات الأخلاقية للفكر والعلم والعمل تقدمية. فاليد الخفية التي جرى التأكيد على فعاليتها السحرية في اقتصاديات آدام سميت، جرى تمديدها إلى العلم (لازمة «لا يقيد العلم إلا العلم»!) والعلاقات الدولية (شرعية القوة!) والسياسة (التدافع السياسي المجرد من جميع الضوابط [الشعبويةالتهريجية مثلا]) وغيرها. وفي كل مرة يجري فيها كشف ضعف هذا الاستدلال، يجري الدفع قدما في اتجاه آخر، كنوع من تهريب النقاش. 4. وسيكون لعودة الاعتبار للمعنويات والروحانيات والجماعة مساحات جديدة أوسع في النقاش والممارسات الفردية والجماعية على السواء. فمع الأزمة، برزت بوضوح أهمية الجماعة كونها تُوفر فرص اللقاء بالآخرين وسياقات التنشئة الاجتماعية وإطارات العمل المشترك، كما برزت وظيفة دُورِ العبادة والدين في الاستجابة للحاجات الجماعة الروحية وخلق المعنى ودفئ الطقس العبادي. ولا بد أن يتزامن هذا ويتكامل مع عملية رد الاعتبار للجواني، أي للذات وحاجتها إلى السلام الداخلي والملذات الروحية والشعور بالسعادة. وبالتالي الحاجة إلى تأكيد أهمية التزكية والسعي إلى السمو الروحي، وذلك عبر أعمال العبادة والسلوك العرفاني (الصوفي) وإنماء الذائقة الفنية والتأمل والاسترخاء ونهج فن البساطة والتواضع واللقاء بالآخرين ومساعدة الغير والحوار مع المختلف والعمل الجماعي المجرد من قصدية تحقيق وتوزيع الأرباح. 5. ولا يبدو أننا سننجح كثيرا ما لم ندعم جسور الحوار ومؤسسات التضامن، محليا وقُطريا ودوليا. فأزمة الحوار وضعف التضامن قائمان منذ مدة، لدرجة جرى التطبيق مع وجودهما بصورة أو بأخرى، بل واعتبرا أمريْن عاديين يلازمان العيش المتجاور بين أفراد وجماعات مختلفين (بالنسبة للأول) والتفاوت القائم في الطبيعة كحقيقة وجودية (بالنسبة للثاني). بينما المطلوب أن يُنظر لفضيلة الحوار كمكسب للعيش سوية، ولتقوية التضامن كهدف للكائن ومعيار يُتَقوم به وجوده. 6. ولا أعرف مما أبدأ الحديث بشأن أهمية التفكير الجدي في مسألة الديمغرافية العالمية (النسل والسكان)، ولكن قناعتي، التي أنقلها هنا، ببساطة، هو أن حاجياتنا واستهلاكنا كبشر الآن وفي المستقبل، بناء على التوقعات التي تتحدث عن بلوغ 10 ملايير نسمة في أفق 2050، لن تكون إلا عبئا إضافيا على الكوكب. وأن هذا التطور، وفق المنحى الحالي، لن يكون إلا خطيرا على الأرض والبيئة والسلام الأهلي والدولي، وبالتالي على الإنسان نفسه. ولن أبالغ إذا قلت أن زيادة الديمغرافية البشرية يعني، في المستقبل، زيادة المشاكل الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالفقر والبطالة والماء والهجرة والنزاعات. هل سنحتاج إلى التفكير جديا في تحديد النسل على المستوى الكوكبي، عبر التفكير جماعيا في إيجاد وسائل للتوعية والتحفيز قصد خفض معدلات الانجاب، خاصة في أفريقيا وآسيا؟ جوابي: نعم، سنحتاج إلى ذلك.