قد يسجل كل واحد منا و هو يشاهد شاشات التلفاز أو يتابع مواقع التواصل الاجتماعي أن الوباء يخلف يوميا إصابات و ووفيات جديدة و بالتالي مآسي أخرى تنضاف إلى كاهل الشعوب، هنا ربما نفهم أن السمة البارزة للفيروس المستجد هي "العدالة"، فهو لا يصنف و لا يميز بين الناس و لا يراعي جنسياتهم أو سنهم أو انتماءاتهم الاجتماعية و السياسية، بل إنه قادر على اقتحام جسد أي إنسان كيفما كان موقعه أو جنسه أو عرقه، ليصير معيار القدرة على المقاومة و الشفاء من هذا الضيف الثقيل جدا على البشرية هو مدى قوة "المناعة البيولوجية" للفرد لا غير. لكن بالمقابل فإنه لا يخفى أن هذا "الوباء-الجائحة" يمثل فرصة غير منتظرة لمراجعة العديد من المفاهيم و التصورات و السياسات التي رسمتها مجتمعات الألفية الثالثة لماضيها و لحاضرها و لمستقبلها و أيضا لمساءلة معاني وجودها و نوع المبادئ التي وضعتها لتدبير العلاقات فيما بينها. و لعل أبرز القضايا التي يثيرها النقاش حول التغييرات الناجمة عن الوباء هي قضية "التربية" التي ينبغي أن تعتمدها الشعوب لتأهيل أفرادها و تمكينهم من امتلاك الكفاءات المعرفية و السيكولوجية و الأخلاقية المطلوبة لتحقيق الاندماج و التوازن المنشودين. إن العديد من الملاحظات تفرض هذا النقاش التربوي، منها خصوصا عدم انضباط الأفراد بالعديد من المجتمعات لإجراءات "الحجر الصحي" و "حالة الطوارئ" التي فرضتها غالبية الأنظمة السياسية بالعالم للوقاية من الفيروس، فيمكن تفسير عدم الانخراط هذا بالنظر إلى اعتبار الإنسان كائنا "عاشقا للحرية"، كما يمكن تفسير ذلك باعتبار هذا الإنسان "جاهلا" بالمعرفة العلمية و غير مصدق بتوجيهات العلم التي تحمي حقه في الحياة و حقوق من يتقاسمون معه هواء المحيط المشترك. لكن من بين التفسيرات المهمة التي يمكن تقديمها لتهور الإنسان المعاصر في مثل هذه الظرفية الدقيقة هي نوع التربية التي يتلقاها الأفراد، و كذلك مدى نجاعة آليات التنشئة الاجتماعية المعتمدة بمختلف المجتمعات في تكوين و بناء الإنسان العاقل الأخلاقي و المسؤول عن أفعاله. في هذا السياق ينبغي الاعتراف بأن هناك خللا كبيرا في نوع المبادئ التي تستند عليها عملية تربية الناشئة و الأجيال الصاعدة،(هذا إن كانت هناك مبادئ واضحة أصلا) و هو ما يجعل الغالبية من الناس تجد نفسها غير قادرة على الاختيار السليم و التصرف المسؤول و الانضباط الحكيم لقواعد العقل سواء أثناء فترات مواجهة الأزمات أو بدونها. و إذا كان لابد من نمذجة ينبغي تقديمها لتأكيد القول الأخير، فليس هناك أفضل من نموذج مجتمعنا المغربي حيث القضية التربوية، باعتراف الجميع سياسيين كانوا أو تربويين أو مثقفين، هي القضية المصيرية الأكثر تعقيدا و الأكثر تشعبا نظرا لارتباطها بأبعاد تاريخية و ثقافية و سياسية و اقتصادية متشابكة، و هذا التعقيد و الارتباك تبرز ملامحه من خلال العديد من المظاهر و المؤشرات منها: – لعب المنظومة التربوية ببلادنا على حبلي الأصالة و المعاصرة، فلا هي بتربية "محافظة" على مقومات التراث الماضوي و لا هي بتربية "حداثية" ترتكز على مفاهيم العقل و الحرية و التقدم، لذلك فهي منظومة تنتج عموما "إنسانا منافقا غير متصالح مع ذاته و مع الشعارات الرنانة التي ترفعها هذه المنظومة باستمرار". – الضعف الفادح للكفاءات المعرفية و الأخلاقية لدى الأجيال الصاعدة سنة بعد أخرى، فمعرفيا نجد أن نمو نسب النجاح و الحصول على الشواهد بالمدارس و الجامعات المغربية مثلا لا يعكس حقيقة المستوى المعرفي الأكاديمي الهزيل، إذ نفهم هذا الوضع خاصة عندما تحصل منافسة بين عينة من المتمدرسين المغاربة و عينات من دول أخرى قريبة أو بعيدة. أما أخلاقيا فارتفاع مظاهر العنف و الغش و كل السلوكيات اللامدنية بالوسط المدرسي و خارجه بشهادة المدرسين و الآباء و المتتبعين للشأن التربوي كفيل بتبيان أزمة القيم لدى الناشئة. – عدم تنمية ملكة الحس النقدي و روح الإبداع و الابتكار بالمؤسسات التنشئوية عموما و بالمدرسة على وجه الخصوص، فالطفل بالأسرة المغربية غالبا ما يجد نفسه في إطار مقولة "إعادة الإنتاج"، فهو مطالب بالامتثال "لمنظومة قيم متناقضة"، و هو امتثال يستند على مبادئ الطاعة و آليات الثواب و العقاب، و بالمقابل يبتعد عن وسائل الحوار و التشارك و مبادئ التعاقد. أما داخل المدرسة فالتلميذ المغربي يجد نفسه و لو في قلب المواد العلمية مطالبا بالحفظ لا التفكير، و ببلوغ النتيجة لا معرفة منهج استنباطها، و بتقديس المقرر لا بنقده و إبراز محدوديته، و هو ما يجعل رهان التسلح بالعقل و ادوات الشك و التساؤل و النقد التي تراهن عليها مادة الفلسفة مثلا رهانا صعب المنال. – سيادة مظاهر الأنانية و الانتهازية و الوصولية سواء لدى الناشئة أو لدى من يفترض فيهم الحرص على تقديم النموذج المطلوب، و اتضح ذلك ،على سبيل المثال لا الحصر، عندما تهافتت الحشود على مراكز التسوق الكبرى لشراء الأطنان من البضائع في مشهد أقل ما يمكن القول عنه أنه تجسيد لهمجية مرفوضة حتى في لحظات المجاعات الكبرى. فالتحليل البسيط لهذا المشهد يبين أن شعار الأفراد المعلن في حياتهم اليومية يستند على مقولتي"الغاية تبرر الوسيلة"، و "أنا و من بعدي الطوفان".و هو طبعا شعار يتنافى مع قيم المواطنة التي تفترض أخلاق التضحية و التضامن من جهة، و إحداث التناغم المطلوب بين الحقوق و الواجبات من جهة أخرى. – جعل التافهين و الغوغائيين من "فنانين" ساذجين و "رياضيين" غير مهذبين بمثابة القدوة و النموذج الذي ينبغي أن يحتذى به للأجيال الصاعدة، فتكريم هؤلاء على منصات الشهرة و حصولهم على أموال طائلة كمكافأة على تفاهتهم كان له وقع و أثر سلبي على منظومة التربية مما أدى إلى قلب القيم: فصارت قيم العقلانية و الانضباط و المسؤولية مرادفة للتأخر و مثارة للسخرية، بينما اصبح التمرد و حفظ الاغاني الرديئة و التلفظ بالكلمات النابية و عدم احترام الغير هو ما يستحق الإعجاب و التقدير!! أكيد أن ما سبق ذكره من ملاحظات و مؤشرات سابقة ليس إلا مظهرا بسيطا من مظاهر أزمة تربوية عميقة يمكن مقاربتها من خلال عدة زوايا. و على ما يبدو أن الحجر الصحي الذي فرضته "أزمة كورونا" يشكل فرصة ذهبية لمساءلة منظومة التربية و القيم السائدة في مجتمعات تائهة غير مالكة لمشروع تربوي واضح المرتكزات و منسجم الأبعاد. فعودة كل مكونات الأسرة مكرهين إلى المنزل يمكن أن يكون مدخلا لتحقيق العديد من "المكتسبات التربوية" منها: – إعادة الاعتبار لمبادئ الانضباط و المسؤولية لدى جميع أفراد المجتمع كيفما كان موقعهم أو سنهم أو جنسهم أو مستواهم التعليمي و الاقتصادي، فاليوم ملايين البشر في كل أنحاء العالم يدركون أن سلوكهم ينبغي أن يكون محسوبا و خاضعا لتوجيهات العقل و العلم. بذلك فالتربية على هذه المبادئ هو ما يجعل الإنسان يدرك أن المصلحة الشخصية لا تتحقق إلا من داخل نسق المصلحة الجماعية، و هذا الإدراك مدخل حاسم لتكوين الإنسان المواطن المتمتع بحقوقه و الحريص على واجباته. – فهم أهمية التربية على التضامن و التعاون سواء بين أفراد المجتمع الواحد أو بين الدول و الشعوب، ذلك أن "عدالة" فيروس كورونا جعلت الناس يدركون أنهم أمام مصير مشترك رغم كل الاختلافات و التفاوتات الحاصلة بينهم، فاليوم صرنا نسمع عن تبرع الأغنياء بجزء من ثرواتهم لصالح المعوزين و الفقراء، و عن تفكير الدولة فيمن لا يمتلكون أجرا قارا، و عن تعاون الأنظمة الاشتراكية(الصين) مع أعتد الأنظمة الرأسمالية (أمريكا)، غير أن المرجو بعد تجاوز أزمة الوباء هو ترسيخ قيم التضامن مع الغير عبر وسائل التربية لا توظيفها سياسيا و إيديولوجيا، فالعبرة المستخلصة من هذه الأزمة هي أن المشترك الإنساني بين الناس أقوى و أعمق بكثير من الاختلافات القائمة بينهم، و عليه يصير التضامن قيمة عليا و واجبا أخلاقيا و معيارا للتحضر. – جعل الإنسان يدرك حجمه الطبيعي في هذا الوجود و إخراجه من نرجسيته و تمركزه الذاتي، فإذا كان رهان العلم الحديث هو تحقيق السيطرة على الطبيعة و تمكين الإنسان من جعله سيدا على كل مكوناتها، فإن قوة هذا الوباء و بقية الظواهر الطبيعية تثبت زيف و وهم هذا الرهان، حيث أن شعور الإنسان بالضعف أمام قوة الطبيعة و حتمية الموت ينبغي أن يقوده إلى التفكير في الحفاظ على البيئة التي يعيش فيها من خلال احترام توازنات الطبيعة الكبرى و الحد من الاستغلال المتوحش لمواردها، و بذلك ينبغي أن تصير التربية البيئية مكونا أساسيا من مكونات المنهاج التربوي لكل الشعوب. – تمكين الآباء بفضل أزمة الوباء من الاحتكاك الحقيقي بأبنائهم، فنمط العيش بالخصوص داخل المدن الكبرى كان يجعل أطراف الأسرة الواحدة في قارات متباعدة و لو أنهم يتقاسمون نفس الجدران و السقف الواحد، أما اليوم فتتاح الفرصة لكل أب و لكل أم لكي يتعرف فعلا على أبنائه، أي أن يدرك حاجاتهم و مشاكلهم و نوعية شخصيتهم. و بالتالي استيعاب الآباء للمسؤولية الملقاة على عاتقهم، فليس إنجاب الأطفال هو وظيفة الأسرة بل إنما وظيفتها هي توفير كل الموارد و الوسائل التي تمكن من تربية الأطفال و تمكينهم من الكفاءات السيكولوجية و الثقافية لبناء شخصية متوازنة قادرة على الاندماج و الانخراط الإيجابي في المجتمع. – جعل النظام التربوي بكل مكوناته(حكومة، وزارة، إدارة، أساتذة…) يفكر بشكل علمي و عملي في كيفية استثمار التكنولوجيا و توفير الإمكانيات المادية و البيداغوجية و التقنية لتسخيرها بهدف تحقيق نجاح العملية التربوية، فالأكيد أن الأجيال الصاعدة هي أجيال "رقمية تكنولوجية"بامتياز، لذلك فما فرضته هذه الأزمة هو استثمار التطبيقات الرقمية لتدريس التلاميذ "عن بعد"، على أن الصعوبات و الانتقادات الكثيرة لهذا النمط من التدريس يفرض انفتاح المنظومة التربوية على الوسائل التكنولوجية و حسن توظيفها حتى لا تبدو المدرسة "متجاوزة و غبية" أمام "تكنولوجيا و هواتف ذكية". حاصل القول إذن أنه إلى جانب إحصاء عدد المصابين و الوفيات الناجمة عن الأوبئة و الأمراض الفتاكة ينبغي كذلك التفكير في كيفية جعل هذه الأزمات مدخلا للتفكير في كيفية إعادة تربية المجتمعات الإنسانية وفق قيم إنسانية أصيلة تؤمن بالأصل الواحد و المصير المشترك، أي التربية التي تحاول ما أمكن ألا تخضع للحسابات الإيديولوجية- الاقتصادية الضيقة، و تنتصر للقيم التنويرية العالمية كالتضامن و الاحترام و الغيرية. فاليوم لم يعد يهم خضوع نظام التربية لمرجعية الأصالة أو لمبادئ المعاصرة، بل ما يهم هو مدى نجاعة الأنظمة التربوية في تكوين إنسان عاقل منضبط مسؤول عن أفعاله واع بحقوقه الأساسية و ملتزم بواجباته المواطنة.