لو صدقنا نظرية التعاقد الاجتماعي في جزء منها، فإن نشأة الدولة مرتبطة بحفظ البقاء، ومنع حرب الكل ضد الكل. وعلى امتداد مسار التاريخ الإنساني، حاول البشر التقليص من بطش الدولة /التنين، بتعبير هوبز، من خلال مسار طويل لتأسيس دولة الحق والقانون كآخر نموذج لصيغة الدولة الحديثة. فهل يستغل التنين/الدولة الظروف الصعبة التي يمر منها البشر على امتداد العالم لاستعادة سلطته وجبروته لالتهام كل منجزات البشر في التحرر والحرية واستغلال انتشار الوباء لهدم تاريخ طويل من مكابدة الناس للجم تغول السلطة وكبح جماحها؟ قد يقول قائل، "أن احترام أو عدم احترام الحجر الصحي هو حرية فردية"، لكن لمعترض أن يقول بسهولة: "ولكن هذه الحرية الفردية قد تصير، بل هي بالتأكيد، مؤذية للآخرين". ومن ثمة، تصبح حرية البعض تهديدا لسلامة الآخرين. بناء على ذلك، يصبح من حق الدولة ممثلة في جهازها القمعي، بالمعنى الألتوسيري، من شرطة وسلطة وسجون وإدارة، أن تتدخل ولو بالعنف من أجل إجبار الناس على لزوم منازلهم، بل ويصبح من حقها تسليط العقوبات الزجرية والحبسية على المخالفين. هذا الجدل حول حدود تدخل الدولة وحدود حرية الأفراد، لا ينطبق في الوقت الراهن على الدول التي يعاني الناس فيها عادة من نقص الحرية أو انعدامها، بل ينطبق الأمر حتى على الدول المسماة ديمقراطية، والتي تمتلك تقاليد عريقة في بناء دولة الحق والقانون، حيث لم يسلم الناس في هذه البلدان أيضا من عنف أجهزة الدولة باسم حماية المصلحة العامة، وشاهدنا رجال الشرطة في نيويورك ومدريد وباريس يعنفون الناس في الشوراع لإجبارهم على الالتزام بالحجر الصحي. أما في بلدان الشرق، حيث الفرد مجرد عجينة للطحن والبلع، فالأمر وإن أثار الكثير من الجدل في الشبكات الاجتماعية، فإنه لا يعدو أن يكون "من المألوف"، حيث تتحول صفعة رجل سلطة لمواطن مجرد " بحث عن مصلحته". صحيح، أن للدولة مشروعية استعمال العنف، بالمعنى الفيبيري، وأنها الوحيدة التي يجب أن تمتلك هذا الحق، تفاديا للفوضى. لكن هذه الخاصية، لا يجب أن تنسينا أن استعمال العنف يجب أن يظل مؤطرا بالحق والقانون. إن استغلال الجائحة وظروف الحجر الصحي قد تكون حصان طروادة يمكن أن يستغلها "التنين" عبر العالم لتكريس مزيد من الاستبداد والجبروت والعودة إلى التدخلية الفجة باسم حماية المصلحة العامة وحماية الأفراد من بعضهم البعض ومن انتشار الوباء. تعني دولة الحق والقانون، في ما تعنيه، أن الفرد مركزي من حيث ضرورة احترام كرامته وحقوقه وحرياته. فالحجر الصحي، وبالرغم من خلفيته الطبية والمبنية على سلطة الطبيب والخطاب العلمي، لتبرير الإجراء، فإنه في النهاية يختزن خطورة التحول إلى أداة سياسية لتكريس أطر استبدادية تجعل الفرد مجرد رقم يمكن سحقه بسهولة وبتبرير علمي وطبي لا يمكن مجادلته. في المغرب اعتقلت أمي نعيمة، وهي المرأة التي رفعت أسهمها قبل مدة ما سماه الرأي العام التفاهة المبثوثة على اليوتوب، واعتقل "أبو النعيم المعروف" بمواقفه المتطرفة وإصداره فتاوي هدر الدم المتكررة في حق عدد من النشطاء وصولا إلى تكفير الدولة نفسها، واعتقل نجل العبادي قيادي العدل والإحسان بتهمة نشر أخبار زائفة. واعتقل العشرات من المواطنين لمخالفتهم قوانين الحجر الصحي. مهما كانت حيثيات الاعتقال، ومهما كنت وجاهته في بعض الحالات، فإن الهاجس الأكبر يظل هو موازنة الدولة بين ضرورة حماية الأفراد من جهة، وضرورة تطبيق القانون مع احترام كرامتهم وحريتهم في التعبير من جهة ثانية. وما بين هذه الهواجس خيط رفيع لابد من الحفاظ عليه بقوة وصرامة يؤسس لمفهوم الدولة العاقلة وليست الغاضبة. إن تغول التنين في هذه الظروف الصعبة أمر وارد وخاصة إذا كانت السلطة بدون سلطة مضادة، فالسلطة مفسدة وتصير مفسدة مطلقة إذا كانت مطلقة، حسب تعبير لورد اكتون. في العالم كله، يظل سؤال تغول الدولة حاضرا، وإن بدرجات متفاوتة حسب التاريخ السياسي والمؤسساتي لكل دولة. في العالم كله، وليس فقط في المغرب يعد كورونا وما بعد فترة الحجر الصحي عنوانا قد يؤسس لمرحلة جديدة. المراقبون لا يستبعدون سقوط أنظمة، وصعود أخرى كما تقول دروس تاريخ الأوبئة التي واجهت أجدادانا.وهنا يمكن للحجر الصحي أن يكون علامة فارقة إما لتغول الدولة وهي تمارس جبروتها المبرر بسلطة العلم وإما في اتجاه تعزيز العقد الاجتماعي وبث مزيد من الثقة العمودية والأفقية بين مختلف الفاعلين. في السيناريو الأول سيرى الماسكون بزمام الأمور أن الفرصة سانحة لإعادة ترتيب المشهد وتأهيله، بل وترويض الشعوب على مزيد من الطاعة والخنوع والاستسلام تحت طائلة الخوف وإرادة البقاء ومن ثمة التأسيس لممارسات مكرسة للجبروت والاستبداد ومحاولة استغلال الظرفية لنزع هوية الأفراد والشعوب واستبدالها بأخرى عبر مزيد من التحكم في أدق تفاصيل حياة الناس عبر ضبط زمن الخروج والدخول، وزمن الأكل والتزود به، واللباس وتنميطه على غرار الكمامة وغيرها. وهنا سيتجه النسق نحو مزيد من الشمولية المفروضة على الافراد المضطرين برغبة فطرية في البقاء إلى الالتزام بها. أما السيناريو الثاني، فمبني على استثمار العزل الصحي لتعزيز العقد الاجتماعي وتعزيز الثقة خاصة وان جميع المؤشرات تؤكد أن المواطنين المغاربة يتقبلون ويثقون في إجراءات الدولة بنسب مهمة عززتها عدد من استطلاعات الراي التي تشير بأن المرحلة تاريخية ومفصلية لبث روح جديدة في مغرب ما بعد كورونا. العقل السياسي المدبر لا يجب ان يضيع البوصلة، لأن ما بين السيناريو الأول والثاني مخاطر وعواقب من جهة، وفرص وإمكانيات لا تعد ولا تحصى. وما بين هذا وذاك، يجب أن يبقى مشروع بناء الفرد المبادر والخلاق بعيدا عن كل مس، لأن جزءا من نجاح المغرب في تدبير الأزمة الحالية يعود إلى مبادرات فردية قوية في التعليم، والصحة، والمقاولات وغيرها! *المقال منشور بالتعاون مع منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية: www.menassat.org