أعاد فيروس كوفيد19، من جديد، إلى الواجهة مقولة «الأخ الأكبر»، التي أطلقها الكاتب الإنجليزي جورج أوريل في روايته «1984»، لوصف صورة الدولة البوليسية التي تمارس الرقابة على الناس. لكن اليوم يبدو «الأخ الأكبر» في صورة المنقذ المعول عليه، وليس في صورة الجلاد الذي يريد كتم الأنفاس. فأمام خطر انتشار الفيروس وتهديده لحياة البشر، طرحت تساؤلات عديدة في أوساط عدد من المفكرين والمدافعين عن حقوق الإنسان، عما إذا كان استعمال العديد من الدول وسائل المراقبة اللصيقة لتعقب حركات الحاملين للفيروس، يمكن أن يشكل تحديا في فترة ما بعد القضاء على الوباء؟ وطرحت تساؤلات حول هل يجب حماية الحياة الخاصة في ظل كورونا، أم إنه للقضاء على الوباء يمكن تقبل كل وسائل المراقبة؟ لا شك أن وباء كوفيد19 يعد أخطر تحدٍّ يواجهه هذا الجيل. فإذا كان وباء الأنفلونزا الإسبانية في 1918 أهلك ملايين البشر، فإن الظروف العالمية في تلك الفترة كانت صعبة، حيث كانت دول العالم منهكة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية متدهورة، ما سهل تفشي الوباء، وفتكه بما يقارب 100 مليون شخص. لكن، اليوم، توجد الدول الكبرى التي أصابها الوباء في وضع أفضل من حيث الثروة والتكنولوجيا والتقدم الطبي، ولهذا، سعت إلى استعمال مختلف الوسائل لمحاربة الفيروس، بما فيها الرقابة التكنولوجية، وتسخير أجهزة المخابرات في هذا المجال. في العدد الأخير من مجلة L'Obs الفرنسية، نقرأ تحقيقا مطولا بعنوان: «الأخ الأكبر هل يمكن أن ينقذنا؟»، تحدثت فيه عن لجوء عدد من الدول إلى مراقبة المواطنين عبر الهواتف الذكية للحد من انتشار فيروس كوفيد 19، وهو خيار كان مرفوضا ولا يمكن حتى التفكير في تقبله قبل ظهور الوباء. دول مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وألمانيا وإيطاليا وغيرها لجأت إلى أسلوب المراقبة الرقمية للسكان للحد من انتشار الفيروس. مثلا، في فرنسا، وضعت شركة أورانج للاتصالات رهن إشارة المعهد الوطني للصحة معطيات تحديد المكان، بخصوص تنقلات المواطنين الفرنسيين، قبيل الحجر الصحي، حيث ظهر تنقل كبير للفرنسيين من المدن الكبرى إلى القرى، وبفضل هذه المعطيات، تمكنت السلطات من تحديد الحاجيات الصحية في كل منطقة. وخلال فترة الحجر، تتولى شركة الاتصال تمكين السلطات من معطيات حول مدى احترام المواطنين للحجر، وهذا الإجراء يلقى موافقة من معظم الفرنسيين، رغم أن هناك من يطالب بوضع إطار قانوني له. وفي أمريكا، عرضت شركتا غوغل وفيسبوك على البيت الأبيض وضع تطبيقات لمراقبة حاملي الفيروس. وفي إسرائيل، يتولى جهاز المخابرات «الشين بيت» الحصول على معطيات تحديد الموقع لجميع المواطنين دون إذن قضائي، وكل من تبين أنه مصاب بالفيروس، يجري تتبع مسار تحركاته السابقة لمعرفة كل الأشخاص الذين التقاهم. أكثر من هذا، كشفت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن جهاز المخابرات الإسرائيلي هو الذي يتولى إبرام الصفقات مع الدول لشراء معدات الحماية من الوباء، من معدات تنفس، ووسائل إجراء التحاليل. وفي بولونيا، وضعت السلطات تطبيقا مفروضا على المواطنين تحميله ووضع صورة سيلفي عليه، وإلا ستداهمهم الشرطة، ويمكن التطبيق من رصد حركتهم. أما الصين، فإنها ذهبت بعيدا في استعمال وسائل مراقبة الفيروس عبر التطبيقات على الهواتف الذكية، واستخدمت مختلف الوسائل التكنولوجية الأخرى. وإذا كانت مثل هذه المراقبة غير مستغربة في دولة كالصين، فإنها في الدول الأوربية بدأت تلقى تقبلا من أجل الحد من انتشار الفيروس، لكن هناك من يتخوف من أن تستمر هذه المراقبة بعد القضاء عليه. ومن هؤلاء الكاتب نوح هراري، الذي كتب مقالا في فاينانشل تايمز، يرى فيه أن الوباء قد يشكل نقطة تحول في تاريخ المراقبة، من قبولها ضد الفيروس، إلى تعميمها فيما بعد لتصبح مراقبة لصيقة، مثلا يقول: «عندما تلمس شاشة هاتفك الذكي وتنقر على رابط ما، فإن الدولة تريد أن تعرف المعطيات التي تطلع عليها، أما مع كورونا، فإنها تريد من خلال لمسك شاشة هاتفك الذكي أن تعرف درجة حرارتك وضغط دمك»، ويتخيل الكاتب في 2030، في دولة شمولية مثل كوريا الشمالية، أن يوضع سوار على يد كل مواطن لقياس درجة تفاعله مع خطاب الزعيم. وفي المغرب، لا توجد معطيات حول مدى استعمال تقنيات تحديد الموقع لمعرفة تنقلات المصابين بالفيروس، رغم أن القانون المتعلق بحماية المعطيات الشخصية يسمح باستعمال المعطيات الشخصية لغرض الأمن والدفاع، خاصة أن خطر كورونا أصبح قضية أمنية. وعموما، تظهر هذه التطورات أن فيروس كورونا لن يؤدي فقط إلى إحداث تغييرات في السياسة والاقتصاد العالمي، لكنه سيؤدي إلى خلخلة عدة مسلمات ذات صلة بالحريات والحقوق والديمقراطية، مقابل عودة مفهوم الدولة القوية الراعية للخدمات وسلطتها في المراقبة باستعمال الوسائل التكنولوجية.. فهل يمكن التوفيق بين الحريات والديمقراطية، من جهة، ومتطلبات الدولة القوية الحامية الرقيبة، من جهة أخرى؟ سيطرح هذا النقاش بحدة، دون شك، في مرحلة ما بعد كورونا.