مما لا شك فيه أن عاصفة كورونا ستمر، وستتمكن البشرية من النجاة، رغم الخسائر التي سيخلفها هذا الوباء في الأرواح، خصوصا في صفوف المسنين والمرضى. ومن الأكيد أن البشرية ستعيش في عالم مختلف عن عالم ما قبل كورونا، حيث ستواجه أزمة حقيقية ستنعكس على مختلف المجالات. فإذا كان الإنسان قد عاش ثلاث ثورات مهمة، في نظري، من اكتشاف النار إلى ممارسة الزراعة، إلى الثورة الصناعية؛ فإننا اليوم نعيش مرحلة يجوز أن نصفها بالثورة الإنسانية. وعنوانها البارز هو هيمنة التكنولوجيا الجديدة وسيادة وسائل الاتصال الحديثة، التي أفرزت صراعًا بين تصورين أساسيين في استعمال الشبكة العنكبوتية. الأول يمكن أن نصفه بأنه تصور اجتماعي ذو مضمون إنساني، والثاني تصور غير اجتماعي، ويمكن نعته بالمتوحش. ومن الأرجح أن ينتصر في هذا الصراع التصور ذو التوجه الإنساني. ولعل معالم هذه الثورة الإنسانية بدأت تبصم على طريقة وجودنا الاجتماعي وعلى سلوكياتنا القديمة. وهذا ما سيؤثر في منظومة القيم الحالية بانعكاساتها السياسية والاقتصادية. (كما ورد في مقالنا السابق: المرض ينتهي والتاريخ يستمر). إذا كانت أزمة الطاعون الكبير الذي أصاب، بالدرجة الأولى، أوروبا في القرن 14، قد أحدث تغييرات جوهرية في هذه القارة (مقال جاك أطالي: العالم لن يعود كما كان!)؛ فإن جائحة كورونا ستحدث تغييرًا جذريًا في العالم برمته. وهذه الأزمة هي اليوم بصدد بلورة ثلاثة نتائج بارزة: النتيجة الأولى هي أنه ستضاف في المستقبل، نظرية جديدة إلى علم السياسة. فالشرعيات التقليدية في أنظمة الحكم، والتي تستمد من صناديق الاقتراع، والشرعيات المتوارثة والشرعيات المستمدة من الدين، بدأت تعرف تراجعات ملحوظة مما سيترك المجال لنظرية جديدة تمت تسميتها بنظرية شرعية الإنجازات. وهي نظرية اشتغلت عليها الصين الشعبية، منذ الثورة الثقافية لماو تسي تونغ في ستينيات القرن الماضي. ليتميز بها الحزب الشيوعي الصيني عن باقي الأحزاب الشيوعية في العالم. (وسنفصل القول حول نظرية شرعية الإنجازات في مقال لاحق). النتيجة الثانية هي أن الصراع الكلاسيكي الذي كان بين المعلومة الخاطئة والمعلومة الصحيحة سينتقل إلى الصراع بين المعلومة المقنعة والمعلومة غير المقنعة. حيث لا تفيد الترسانات القانونية وأدوات المراقبة لانتشار وتسييد المعلومة الصحيحة. إن طريقة إنتاج المعلومة واختيار وسيلة وطريقة تصريفها، هي التي ستحولها إلى معلومة مقنعة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة. النتيجة الثالثة والأخيرة، في زمن التطور التكنولوجي وشبكات التواصل الاجتماعي، هي انتقال عملية مراقبة الأشخاص من المراقبة الخارجية إلى المراقبة الداخلية، من خلال استعمال الهواتف الذكية. وهذا ما حدث في الصين لمحاصرة وباء كورونا، في انتظار اختراع اللقاح الفعال للوباء. حيث أصبحت هذه الأجهزة الذكية أدوات فعالة لقياس ردود الأفعال الداخلية للمواطنين إزاء ما يحدث في محيطهم. (يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى المقال الأخير للمؤرخ الاسرائيلي يوفال نوح هراري حول فيروس كورونا).