(على خلفية قرار الحكومة المغربية إلغاء مجانية التعليم العالي وما خلفه من تداعيات) تداولت وسائل الإعلام الوطنية – المكتوب منها والإلكتروني- خبر اعتزام الحكومة الحالية التخلي عن مجانية التعليم العالي..هذا الخبر الذي أكدته القناة الرسمية الأولى في نشرتها الرئيسية لمساء يوم السبت/الأحد 28/29 يوليوز المنصرم،فبعد نشرها الخبر نقلت لنا بعض ردود الفعل الغاضبة للمواطنين-الطلبة منهم على وجه الخصوص-في خطوة منها ممجوجة تذكرنا بما كانت تقوم به من تأليب للرأي العام الوطني كلما أعلنت أسرتي التعليم أو الصحة،بالخصوص، ممارسة حقهما في الإضراب من أجل نيل حقوقهما المستحقة وتحسين ظروفهما الاقتصادية والاجتماعية،متناسية – أي القناة الأولى- ومستغلة جهل الكثيرين بأن الدخول في إضراب عن العمل هو حق مشروع تنص عليه قوانين جل الدول بما فيها المغرب. قرارات مثيرة للجدل.. ينتظم قرار الحكومة الحالية الأخير هذا في سياق القرارات الحكومية- المتسرعة والمثيرة للجدل- التي تنتهك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية..للمواطنين،خصوصا منهم ذوي الدخل المحدود أو المتدني إلى ما تحت سقف الحد الأدنى للأجور المنصوص عليه قانونا،بل الذين لا دخل لهم أصلا كما هو الشأن بالنسبة لكثير من الأسر سواء في المدينة أو في البادية،وإن كان أغلبهم في هذه الأخيرة أسوء خصوصا مع توالي السنوات العجاف المتتالية بسبب الجفاف وشبه انعدام فرص الشغل. فقرار الإجهاز على مجانية التعليم جاء أسابيع بعد الزيادة في المحروقات،دون مراعاة من الحكومة للتأثيرات السلبية المباشرة التي سيخلفها هكذا قرار على السلع والأسعار...وما تلاه من قرار- غير مسبوق- لرئيس الحكومة في خرجته الإعلامية الأخيرة عبر قناة الجزيرة من "عفو" عن الفاسدين ناهبي المال العام...هذه الخطوة التي صدمت المتتبعين والمهتمين بالشأن العام وخلفت استياء وتدمرا بالغين لدى عموم المواطنين..ففي الوقت الذي كان فيه الرأي العام ينتظر من الحكومة المنتخبة فتح ملفات الفساد وتحريك القانوني والحقوقي وزير العدل والحريات الأستاذ مصطفى الرميد مساطر المتابعة،بصفته رئيس النيابة العامة،في حق كل من سولت له نفسه مد يده لنهب المال العام،عينا كان أم أطيانا،بمآت الهكتارات من الأراضي الصالحة للزراعة، أم عقارات...يفاجؤون بالعفو والصفح عن هؤلاء الفاسدين وعديمي الضمير الوطني. إن إلغاء الحكومة لمجانية التعليم هو تراجع صارخ وإجهاز عما تبقى من أهم المكتسبات التي حققها الشعب المغربي، بعد حصوله على الاستقلال... نتيجة تضحيات جسام قدمها قربانا من أرواح شهداء وما دون ذلك والمتمثلة أساسا في: 1) المجانية 2) التعميم 3) التعريب 4) الوحدة (وحدة المناهج الدراسية عبر عموم التراب الوطني بالنسبة لعموم المتمدرسين من أبنائنا وبناتنا). كما أنه إخلال، من جهة أخرى،بالتزام الدولة بمقتضيات البند (ج) من الفقرة الثانية من المادة ال13،المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية،والتي تؤكد أن " ضمان الممارسة التامة" للحق في التربية والتعليم يتطلب،من بين أمور عدة،"جعل التعليم العالي متاحا للجميع على قدم المساواة تبعا للكفاءة بكافة الوسائل المناسبة،ولا سيما بالأخذ بمجانية التعليم". محاولة يائسة لامتصاص الاحتقان.. ورغم محاولات - وزير التعليم العالي وتكوين الأطر،في حواره الصحفي مع جريدة "أخبار اليوم" عدد 818 بتاريخ 28/29 يوليوز- التوضيح، من أن وزارته تسعى لفرض رسوم تسجيل على الطلبة المنحدرين من أسر ميسورة فقط، في خطوة منه لامتصاص الاحتقان الشعبي الذي خلفه القرار،إلا أنه لم يوفق في ذلك لعدة أسباب من أهما: ** جل الطلبة المنحدرين من أسر ميسورة لا يلجون الجامعات والمعاهد الوطنية برفقة أقرانهم من أبناء وبنات الطبقات الشعبية،ولا يخفى على أحد أين يدرس هؤلاء الذين يولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهب. ** جرت العادة،في السياسات المتبعة من لدن جل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال أن تمرير القرارات المصيرية والتي ترهن البلاد للمجهول،والتي يحتمل أن يكون من شأن تطبيقها إثارة قلاقل مجتمعية،يتم عبر إحدى الطرق التالية: إما أن يتم تطبيقها بالتدريج (سياسة الخطوة خطوة والجرعة جرعة،على قاعدة المقولة الشعبية "ماصعيبة غير البداية"...). أو ب"إلهاء" الرأي العام الوطني بأمور أخرى كما كان الشأن بالنسبة لمدونة الشغل وللميثاق الوطني للتربية والتكوين فقد اقتضى تمريرهما في البرلمان،زمن حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي،"إلهاء"(وهذا نفس التعبير تماما الذي جاء على لسان الراحل عبد الكريم الخطيب،في حوار صحفي مع أسبوعية "المستقل" عندما سئل عن مصير "الخطة" شهورا بعد المعارك الضونكيشوطية بين من مع الخطة ومن ضدها) إلهاء المغاربة بمشروع خطة إدماج المرأة في التنمية،والذي كلف بتنزيله أحد الوزراء آنذاك السيد سعيد السعدي،والذي سيكون كبش فداء لفشل التنزيل في أول تعديل حكومي يومها. أو أن يتم التنصل من مسؤولية اتخاذ القرار المزمع اتخاذه والتراجع عنه إن تأكد رفضه شعبيا وتسببه في أحداث شبيهة بما عرفه المغرب في عقود سابقة...فيتم إرجاؤه لحين تنضيج الشروط الموضوعية لتنزيله،عملا بالقول الشائع (كم من حاجة قضيناها بتركها). ** إن هذا القرار ما هو في الحقيقة إلا تطبيق لمقررات (الميثاق "الوطني" للتربية والتكوين) -السيئ الذكر- والذي تمت المصادقة عليه زمن الراحل الحسن الثاني،وكان من أبرز مهندسيه الراحل مزيان بلفقيه المستشار الملكي يومذاك،والذي قال شهورا قليلة قبل رحيله لما سئل من طرف أحد الصحفيين عن جريدة "المساء"،أثناء تواجده في حفل التخرج الذي أقامته (المدرسة الحسنية للمهندسين)بالدارالبيضاء،عن مآل الميثاق،قال بالحرف -والعهدة على الصحفي ناشر الخبر- :(الميثاق فاشل ولقد فشلنا في تطبيقه). ورغم هذا الاعتراف الصريح ممن كان يقف مباشرة وراء الميثاق،بل أكثر من ذلك فإن العاهل المغربي الملك محمد السادس،وفي خطابه الشهير بمدينة الدارالبيضاء،غذاة توليه الحكم،قال عما جاء في الميثاق من إلغاء لمجانية التعليم:(إن المغاربة ليس بمقدورهم أداء الرسوم الدراسية عن أولادهم). إن "ميثاق التربية والتكوين" تضمن قرارات خطيرة، لم تطل مجانية التعليم فقط بل طالت أيضا على سبيل التمثيل فقط: 1) اللغة العربية،بمزاحمتها بفرض اللغة الأمازيغية كلغة ثانية والفرنسية كلغة ثالثة في الأعوام الأولى من سن التمدرس،مما يعتبر–حسب الخبراء في علوم التربية وعلم نفس الطفل-إرهاقا له وإجهادا لقدراته الذهنية الشئ الذي يحول بينه وبين الاكتساب السلس والسريع للغته الوطنية الرسمية. 2) الفتاة المغربية،بحرمانها من حق التعليم والتعلم مقارنة بأخيها الفتى المغربي،حيث تقتضي الأعراف والعادات أن الأسرة المغربية إن عجزت عن توفير الرسوم الدراسية لكل أولادها سيكون ذلك على حساب فتياتها وفق الاعتقاد القديم،والخاطئ بطبيعة الحال:(إلَيْقرا يَقْرا الوَلْد أمَّا البَنْت دابا تزَوَّجْ)... ورغم كل ما تضمنه من سلبيات تقدح في جوهره ومضامينه عدا عن شكله لم نسمع عن إلغائه بشكل رسمي لحد الآن،علما أنه بما تضمنه من هكذا قرارات كان ينبغي،ومن باب أولى وقبل تنزيله،فتح نقاش موسع فيه،نقاش تشارك فيه كل النخب السياسية والحقوقية والنقابية ومنابر إعلامية وذوي الاختصاص ببلادنا في مجال التربية والتعليم من الشرفاء والمخلصين والغيورين على مصلحة البلاد ومستقبلها بدل التعاقد مع "خبراء" أجانب من أمثال البلجيكي "كزافيي" بعقود مكلفة ومتضمنة لشروط مجحفة في حق شعبنا(نفس الأمر ينسحب على اختيار الناخب الوطني سواء بالنسبة لكرة القدم أو لغيرها من مختلف الرياضات الوطنية)،ويتم عرض مجريات هذا النقاش على أمواج الإذاعات الوطنية وشاشات التلفزة تنويرا للرأي العام ليتمكن من إبداء رأيه على علم وبصيرة ساعة عرض المشروع عليه في استفتاء شعبي شفاف ونزيه ليقول الشعب كلمته ويتحمل مسؤوليته التاريخية في مصير أولاده وأجياله القادمة. في حين سمعنا واطلعنا على إلغاء ما دونه خطورة من مشاريع أخرى،رغم شبه الإجماع على سلبيتها،فهي لا ترقى إلى مستوى ما تضمنه (ميثاق التربية والتكوين) من سلبيات جوهرية،خطورة بعضها قد لا يتكشَّف ضرره في الأمد المنظور،من تلك المشاريع التي تم إلغاؤها في ميدان التعليم فقط ما يلي: - المخطط الاستعجالي(رغم ما أنفق عليه من ميزانيات وجنّد له من طاقات بشرية ونظم له من دورات وما ناله من تغطيات إعلامية،بوسائل سمعية بصرية رسمية بوجه خاص. - مشروع بيداغوجية الإدماج،وما رافقه من إلغاء للتعاقد مع "الخبير" البلجيكي (كزافيي روجيرز)،وجل نساء ورجال التعليم،إن لم نقل كلهم، في مختلف أسلاكه يتذكرون مدى التطبيل الذي سبق ورافق هذا المشروع وما تم تسخيره له من إمكانيات مادية ولوجيستية وطاقات بشرية ( تردد في الأوساط التعليمية وبعض وسائل الإعلام أن الغلاف المالي الذي رصد له بلغ 5 ملايير سنتيم أو يزيد)... - الكتاب المدرسي- وبشكل فاجأ الجميع- الذي كان يتم إعداده للسنوات الأولى من التعليم الأساسي،والذي بلغت نسبة إنجازه 90 في المائة،واستغرقت مدة ذلك 9 أشهر من العمل المتواصل والدؤوب لمجموعة فرق المؤلفين التربويين،والذين كانوا يجرون اللمسات الأخيرة على هذا العمل لتقديمة بشكل نهائي في 30 يوليوز الماضي. خلاصة ذلك أن ما لم تستطع حكومات سابقة التجرؤ على الإقدام عليه،من زيادة في المحروقات وإلغاء لمجانية التعليم وتوفير الحماية لمن نهب المال العام... قامت الحكومة الحالية بتنفيذه بكل "جرأة"،حتى لا أقول شيئا آخر، مع الأسف الشديد. ** أما ما أكده السيد الداودي من أن هذا القرار الذي اتخذه لا علاقة له بالحكومة ولا بأية جهة أخرى غيرها،وأنه يتحمل وحده المسؤولية الكاملة لقراره...فلا أظن أنه سيتمكن به من تنفيس الاحتقان،بل سيزيد من حدته،إذ سيكون من شأن هكذا كلام إظهار الحكومة بمظهر جزيرات منفصلة عن بعضها مفككة مقطوعة الأوصال ومكونات الإئتلاف الحكومي والمنتمية أصلا لأحزاب ذات مرجعيات مختلفة،بمظهر يعكس عدم التجانس والانسجام... فيما بينها،ويظهر من جهة أخرى أن منصب رئيس الحكومة هو مجرد منصب شكلي فقط لاسلطة له على "وزرائه"،وأن كل واحد منهم يغرد خارج السرب وكأن كل وزير من الوزراء ملتزم بتطبيق برنامج حزبه لا برنامج الحكومة حسب التصريح الحكومي الذي أدلى به السيد عبد الإله بنكيران أمام ممثلي الأمة. بعض من انتظارات شعبية.. كنا ننتظر من الحكومة عموما ومن السيد الداودي خصوصا،كمسؤول مباشر عن قطاع التعليم العالي،بل ومن الدولة بشكل أخص،استنفار كل الإمكانيات من أجل توفير تعليم مجاني- بل وبالزيادة في المنح المقدمة لطلبتنا ولطالباتنا المنحدرين من أسر ذات الدخل المتوسط وما دونها- تعليم ذي جودة عالية...تحسينا لترتيب تعليمنا الجامعي المتدني أصلا على المستوى الدولي،والذي يؤكده عدم تصنيف جامعاتنا بين صفوف المآت من الجامعات المصنفة كأحسن الجامعات في العالم مردودية ومستوى علميا متقدما،رغم مرور أزيد من 60 عاما على استقلالنا. إن الشعوب الحية-والشعب المغربي واحد منها- قد،أقول "قد" تتغاضى وتتجرع مصوغات حكوماتها، إن اقتضى الحال طبعا ولمست في مسؤوليها الحكوميين الصدق ونظافة اليد،بتطبيق سياسات تقشفية في عدة مجالات باستثناء مجالين رئيسيين:التعليم والصحة.على اعتبارين هامين: - لاتقدم ولا رفاه ولا نهضة...بدون التقدم العلمي. - العقل السليم في الجسم،فلا تقدم علمي مع انتشار الأمراض والأوبئة... بل كنا ننتظر من هذه الحكومة،خصوصا أنها أول حكومة في ظل الدستور الجديد والذي جاء فيه بعض من مطالب الحراك الشعبي الذي قادته حركة 20 فبراير في سياق الربيع العربي، كنا ننتظر منها أن تتقدم للبرلمان،وبكل جرأة وشجاعة...،بمشاريع قوانين تطيح بعدة قوانين تم تمريرها فيما سبق ضدا على الإرادة الشعبية،من مثل: - مدونة الشغل، لما جاء فيها من إجهاز على مكتسبات مستحقة لليد العاملة. - قانون "مكافحة الإرهاب". - ميثاق التربية والتكوين. الدارالبيضاء في :04 غشت 2012