الكاتب جاء في ثنايا مؤلف "حقيقتي" الصادر حديثا، لصاحبته ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس التونسي المُطاح به زين العابدين بن علي: " أستغرب كيف أن حالة البوعزيزي فجّرت مثل هذا الغضب الاجتماعي الذي كان منعدما بالمرة في حالتين متشابهتين وقعتا قبل أسبوعين بمدينة المنستير...". اعتراف ليلى الطرابلسي يميط اللثام عن جزء من الحقيقة التي غُيبت في خضم حالة من الذهول والإرباك التي أصابت الرأي العام العربي، جراء الرجة القوية والمفاجئة التي أحدثتها الثورة الشعبية في تونس، وهي على خلاف القراءة السياسية المتواترة إعلاميا، التي تذهب إلى كون حادثة إحراق البوعزيزي لذاته، كانت هي السبب المباشر في إشعال الثورة في تونس ومنها إلى باقي دول الربيع العربي. استغراب الطرابلسي له ما يبرره، لأن واقعة البوعزيزي لها سوابق، ولسان حالها يقول: لماذا لم تقم الثورة حينها؟ وهذا الواقع يؤكد على أنه لولا تداعي الناس وخروجهم للتضامن مع البوعزيزي، ما كانت لتقوم ثورة في تونس. فالفارق بين حادث إحراق البوعزيزي لذاته وحوادث أخرى سابقة في تونس وغيرها، هو أنه في حالة البوعزيزي كسّر الشعب جدار الصمت والخوف، وثار في وجه الظلم والاستبداد، في حين في الحوادث الأخرى التزم الصمت. وهكذا، فإذا كان القدَر قد جعل من حادث إحراق البوعزيزي لذاته الشرارة التي أوقدت نار الغضب الشعبي في أرجاء تونس، فإن الفضل في قيام الثورة ونجاحها، يعود بالأساس إلى روح التضامن والتآزر التي سرت في قلوب ساكنة منطقة سيدي بوزيد، فتداعت للاحتجاج على الظلم، فتداعى لها باقي الجسد التونسي. إذن فإن القراءة السياسية المتداولة في وسائل الإعلام، والتي تجعل من البوعزيزي هو مفجّر الثورة في تونس هي قراءة مجانبة للحقيقة، ومع ذلك تلقفتها وسائل الإعلام العربية والدولية وقدمتها على أنها هي التفسير الوحيد لما حدث، وهو ما انعكس سلبا على عدة دول عربية ضمنها المغرب، بعد أن حولت وسائل الإعلام من البوعزيزي بطلا ورمزا للثورة التونسية، فأصبح الانتحار بالحرق "بطولة"، وبذلك صار "الحرق الذاتي" كأقسى أسلوب في الاحتجاج من حالات معزولة في المجتمع المغربي، إلى ظاهرة خطيرة تهدد الشباب، بل امتدت الظاهرة لشرائح عمرية واجتماعية مختلفة، تعبيرا عن أقصى درجات اليأس والإحباط، وهو أمر مُستغْرب ومستهْجن في مجتمع يدين بالإسلام الذي يحرم الانتحار مهما كانت دوافعه وطرقه. في مصر حدثت قصة مشابهة لما حصل في تونس، مع وجود الفارق، حيث تعرّض الشاب خالد سعيد إلى الاعتداء والتعذيب من طرف بعض أجهزة الأمن المصري أدت إلى وفاته، فقرر بعض الشباب المصري التضامن مع الضحية، وفي مقدمتهم وائل غنيم أحد رموز الثورة المصرية، الذي أنشأ صفحة "كلنا خالد سعيد" على الفيس بوك، ودعا فيها لجعل تاريخ 25 يناير يوما للتظاهر والاحتجاج في "ميدان التحرير" تضامنا مع الشهيد، ولولا روح التضامن والتعاطف مع الشهيد خالد سعيد التي عبّر عنها قطاع واسع من المجتمع المصري، ما كان للشعب المصري أن يقوم بثورة عارمة أسقطت نظام الاستبداد. هذا يفضي بنا إلى سُنّة كونية مضطردة في التاريخ البشري، وهي أن التغيير لا يحدث في مجتمع ما إلاّ في الوقت الذي يصبح فيه الشعب كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما دلّنا على ذلك رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.