يحكى أن راعيا من رعاة الغنم أحتال ذات مرة على شبل صغير فاصطاده وقرر أن يعتني به حتى يكبر. ضم الراعي الشبل إلى قطيعه وأصبح يطعمه مما يطعم منه كلابه ويصطحبه معه أينما ذهب وولى وجهه. كبر الشبل واشتد عوده، فصار كالأسد شكلا وهيئة لكنه كالكلب معنى وفعلا، يحرس الغنم ويلاعب الكلاب ويبصبص للراعي حين يراه ويخاف من الضباع، والأدهى من ذلك والأغرب أن الحمير لم تعد تهابه وتخشاه كما تفر بطبعها من الليوث وقد قال الله تعالى في حقها في محكم تنزيله (كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة(1)). الأسد الحقيقي يعتمد على قوّته وذكائه من أجل توفير قُوته، فهو مهاب بطبعه، يزأر أو يزمجر فيبعث الرهبة فيمن حوله لكن أسدنا يعوي فيزعج السامعين، الأسد لا يقبل الجيفة لكن أسد الراعي يكتفي بما يلقى إليه من بقايا الطعام. دبجت بهذه القصة لأصف حال قوم رضعوا من ألبان المخزن وقبِلوا العطايا والهدايا والمنح ووِهبوا المأذونيات والامتيازات فسكتوا عن الانتهاكات تقلدوا الوزارات فدافعوا عن المفسدات دخلوا البرلمان فنسوا الطغيان بنوا الثروة من أموال الشعب فخرسوا عن تحقيره وتفقيره، تحول بعضهم من علماء يحمون حمى الشرع من أن يدوسه المفسدون ومن حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة وكف الحيف والانتصاف للمظلومين من الظالمين واستيفاء الحقوق من الممتنعين إلى أدعياء يبررون فساد المفسدين ومن مناضلين يدافعون عن القانون والحريات إلى لوبيات يكرسون الاستبداد والاستعباد ومن صحافيين يفضحون المنكر والرذيلة إلى دعاة للفسق والانحلال. كلما تحدث مسئول من جماعة العدل والإحسان عن حق من حقوق الجماعة المهضومة أو كتب ليصف واقعا موبوءا أو حاور ليبين اختلالا واضحا إلاّ وقوبل بوابل من الردود العنيفة والانتقادات اللاذعة والفتاوى الغريبة، وخير مثال على ذلك لما تم التذكير بحق الجماعة في المخيمات الصيفية من أجل تأطير أعضائها وتوعيتهم، وهو حق تتمتع به كل الجمعيات والأحزاب والمنظمات الحكومية وغير الحكومية بل إن شواطئنا أصبحت قبلة ومرتعا لكل منحل ومنحرف، فانهالت عليه التحليلات والانتقادات من كل حدب وصوب. الرجل ذكّر بحق التخييم في معرض التذكير وليس في سياق المطالبة، في إطار التنبيه وليس من أجل التفعيل، وبمجرد ما سمع حراس الفساد و الاستبداد الخبر بل التقطوا الإشارات قبل خروجها وتلقفوا الكلمات وهي ساخنة كما يقول المثل المغربي لتحمي حميتهم وتثور ثائرتهم بل إن منهم من كانت يده على الزند لا ينتظر الإشارة للرد والتفنيد بل هو مستعد ليفتي ويؤصل ويحمل المسؤولية دون حرج ودون تحري، وآخرون ذهبوا أبعد من ذلك فاعتبروا الأمر إرباكا للإصلاح في إطار الاستقرار الذي انخرطت فيه الحكومة ولم ينل منه الشعب إلى حد الآن سوى زيادة في أسعار المحروقات وما سيترتب عن هذا الإجراء من مضاعفات على جيوب المحتاجين، ثم إسرافا في الفرجة أثناء حلقات فلكلورية في جلسات البرلمان، وأخيرا تعدد حالات التدخل العنيف لتفريق الاحتجاجات. هذا الواقع اليوم في ساحة الخلاف السياسي وفي ميدان التدافع الإصلاحي أدى إلى تمييع العمل النضالي حتى أصبح من الصعب التفريق بين الصادق وغير الصادق والمناضل وغير المناضل، والموالون للسلطة الراضعون ألبان المخزن ينالون من خصومهم بطريقة لا تخلو من جفاء وتعالٍ وتكبّر، فهم ينظرون لكل معارض من أبراجهم العاجية التي يطلّون منها على مخالفيهم ساخرين من عقولهم، معتبرين أن أول الخطوات على الطريق أن يخالف وجهة نظرك ويرفض مشروعك، وهذا الرفض بالنسبة لهم هو أول شروط المواجهة، بحيث يظل المناضلون الصادقون محبوسون مع الرد والرد على الرد، معزولون عن هموم الشعب كما يظن المنبطحون. قال الشاعر(2): ويشقى المرء منهزما .. ولا يرتاح منتصرا ويبغى المجد في لهفٍ .. فإن يظفر به فترا شُكاةٌ مالها حَكَمٌ .. سوى الخصمين إن حضرا فهل حاروا مع الأقدار .. أم هم حيروا القدرا ؟ (1) الأسد (2) محمود العقاد