يعد الاندماج الاجتماعي من أبرز القضايا المهمة والأساسية المطروحة، التي كانت وماتزال تشغل بال الباحثين والمفكرين وخصوصا الاجتماعيين منهم، نظرا لحركة التغيير السريعة التي يعرفها المجتمع يوما بعد يوم، وسعيا لتحقيق التوازن وتأهيل الفرد ليكون فاعلا داخل المجتمع، وتجنب حالات الاضطراب والفشل والإقصاء التي قد تكون سببا في العديد من المشاكل الإجتماعية مثل الفقر والأمية والجهل والانحراف......غير أنه في الوقت الراهن تباينت الآراء وتعددت حول أدوار الدولة ووسائلها في تحقيق عملية الاندماج في المجتمع. فإذا انطلقنا من قطاع التربية والتكوين والتعليم الذي يعتبر القطاع الحيوي والأساسي، على اعتبار انه مقياس تقدم الشعوب والدول، لأن نجاحها رهين بنجاحه ونجاعته، وتدهورها وانحطاطها رهين بتأخره، وعلى اعتبار أن المدرسة هي مؤسسة التنشئة الثانية بعد الأسرة من أجل تأهيل الفرد للاندماج في المجتمع.فما هي المراحل التي قطعها المغرب في هذا المجال وبماذا توجت في الأخير وما هي أسباب الفشل ورهانات التغيير؟. عرف النظام التربية والتكوين والتعليم في المغرب مجموعة من المحطات التصحيحية منذ فترة ما بعد الاستقلال، حيث الحركة التعليمية سنة 1957 مرورا بإصلاح 1985 ومناظرة إفران سنة 1992 وغيرها من المحاولات وصولا إلى إصلاح سنة 1999 الذي انطلق بخطاب العرش لصاحب الجلالة الملك محمد السادس في افتتاح الدورة الخريفية من نفس السنة، حيث نوه فيه بمكانة التعليم والأستاذ وضرورة مواكبة البرامج والمناهج والتكوينات للتغيرات والتطورات التي أصبح يعرفها العالم بصفة عامة والاستجابة لمتطلبات الوضع الذي يعرفه المجتمع المغربي بصفة خاصة.الذي أفرز لنا منطلقا أساسيا تمثل في الكتاب الأبيض كمرحلة أولى، الذي تضمن الخطوط العريضة للصياغة التصحيحية الكاملة عملا بمفهوم جديد لطرق التدريس المتمثل في المقاربة بالكفايات-مستقاة من دراسات وأبحاث العالم كزافي روجرز-، التي تعتمد على إكساب التلاميذ مجموعة من القدرات والمهارات والاستعدادات ... من أجل تأهيله عبر بناء شخصيته في أبعادها الثلاث المعرفية والوجدانية والسلوكية-الحركية ومساعدته على أن يندمج في المجتمع بأن يكون فاعلا فيه.تم اعتماد هذه المقاربة من أجل تجاوز التدريس بالأهداف الذي كان معمولا به من قبل والذي يعتمد على الأسلوب الإلقائي وحفظ المادة التعليمية واسترجاعها متى طلب الأستاذ ذلك هذا الأخير الذي يعتبر مالك للمعرفة حيث يجد التلميذ نفسه بعيدا عن الواقع أوغير قادر على الربط بين ما تعلمه وما هوموجود في مجتمعه ومحاولة إنتاج منتوج جديد على عكس المقاربة بالكفايات التي تنطلق من وضعية تعليمية واضحة ولها علاقة بوسط المتعلم تجعل التلميذ أمام مشكلة مشوقة تستفزه وتدفعه إلى البحث والتقصي من أجل التوصل إلى الحل عبر أسلوب الحوار لا الإلقاء وتقديم منتوج جديد لا الحفظ واسترجاع المادة المدرسة كما هي حيث الأستاذ عبارة عن مرشد ومساعد وميسر يحب تلامذته كأبنائه يخاف عليهم ومشجع لا منفر عبر تجنب العنف المادي كاستعمال العصا أوالمعنوي كالسب والشتم. وكمرحلة ثانية تم استخلاص إطار جديد أكثر وضوحا وشرحا من الكتاب الأبيض وهوالميثاق الوطني للتربية والتكوين والذي صمم على قسمين رئيسيين متكاملين : يضمن القسم الأول المبادئ الأساسية التي تضم المرتكزات الثابتة لنظام التربية والتكوين والغايات الكبرى المتوخاة منه، وحقوق وواجبات كل الشركاء، والتعبئة الوطنية لإنجاح الإصلاح . أما القسم الثاني فيحتوي على ستة مجالات للتجديد موزعة على تسعة عشرة دعامة للتغيير : نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي، التنظيم البيداغوجي، الرفع من جودة التربية والتكوين، الموارد البشرية، التسيير والتدبير، الشراكة والتمويل . غير أن تطبيق ما جاء في الميثاق الوطني لم يتم بالشكل الذي كان مخطط له لإكراهات اقتصاديةواجتماعية، مما أثبت عجز الحكومة على توفير وسائل النجاح المناسبة، من قبيل تكوين الأطر التربوية بما يتوافق مع الإصلاحات الجديدة وتفعيل الشراكة المؤسساتية من خلال العمل الجاد عبر مشاريع وفق بيداغوجيا واضحة المعالم بما يسمح إشراك جميع الفرقاء التربويين والاجتماعيين والاقتصاديين في تحقيق الأهداف المتوخاة بما فيهم جمعية الأباء وجمعيات المجتمع المدني والمقاولين والجماعات المحلية..... مما دفع إلى ضرورة إيجاد نفس جديد للإصلاح أو إن صح التعبير حيلة جديدة لتدارك الهفوات والخروقات المسجلة بما أسموه تسريع وتيرة الاصلاح بصياغة ما يسمى بالمخطط الإستعجالي كخطوة أو مرحلة ثالثة الذي يشتمل على مشاريع مهمة بدءا من التعليم الأولي مرورا بالتعليم الإعدادي والثانوي وصولا إلى للتعليم العالي والذي صمم على أربعة أجزاء. فالتجارب باءت بالفشل وذلك لصعوبة التطبيق في الميدان، خصوصا بيداغوجيا الادماج التي تعتبر الإطار التطبيقي للمقاربة بالكفايات، لأنها تفتقد إلى إطار ممنهج وواضح بالنسبة للتلميذ والأستاذ بل بالنسبة إلى المنظومة التربوية بكاملها، كما عبر على ذلك جل المفكرين والتربويين المغاربة الأحرار الشرفاء. وبالرغم من أن الحكومة عملت على وضع مجموعة من الإجراءات لمحاولة تجاوز الفشل، من أجل إعادة إدماج التلاميذ، ضحايا الإصلاحات السابقة، الذين وجدوا أنفسهم في الشارع بدون سبب في إقصاء وتهميش تام، عن طريق اعتماد سياسة الدعم من الناحية الاجتماعية كشراء اللوازم الدراسية، مع أن هذه العملية غير كافية لأن هذه اللوازم لا تكفي لتغطية حاجياتهم على طول السنة، مما يجعلهم مضطرين لطلبها من أبائهم أوأو ليائهم الأمر الذي يثقل كاهل الأسرة خصوصا التي تتوفر على أربع أو خمس أطفال، وبالرغم من أن تقديم مساعدات مالية لكل فرد حسب المستويات والمناطق التي تعاني من الهشاشة وضعف الموارد والفقر في إطار ما يسمى ببرنامج تيسيير جاء لتجاوز هذا التقصير إلا أنها لا تعطى في وقتها وأنها كذلك غير كافية، فمن المفروض أن تحصل الأسر على المساهمة المالية المخصصة لكل طفل مباشرة بعد توزيع الكتب واللوازم على الأطفال من أجل تتمة عملية استعداد التلاميذ للدراسة، على الأكثر في نهاية شهر شتنبر، في الوقت الذي يحصل الأباء على الدفعة الأولى في نهاية شهر نونبر أو دجنبر، فكيف بتلميذ يتوفر على لوازم دراسية ويفتقر للباس أنيق يليق بالمدرسة وبمستوى التربية والتعليم . أما من الناحية النفسية نجد غياب تام لتدخل الدولة أو الجهات الشريكة، وفي هذا الصدد نؤكد على ضرورة توفر كل مؤسسة أوكل حوض مدرسي على مركز إنصات يشرف عليها أساتذة أكفاء من ذوي الاختصاص النفسي والاجتماعي، من أجل الاستماع للتلاميذ الذين يعانون من مشاكل نفسية بسبب طلاق الوالدين أونزاعات دائمة مع الأصدقاء أو مع الأساتذة أو الإدارة ....من أجل معرفة مواطن الخلل للتدخل السريع لمعالجة ما يمكن معالجته، لتسهيل اندماجهم في صفوف الأصدقاء وداخل الفصل لكي يشعروا بالانتماء داخل فصولهم والأمان داخل المدرسة ويواصلوا مسارهم التعليمي بشكل إيجابي، لإكسابهم نماذج سلوكية ومعارف وقيم تساعدهم على الاندماج في المجتمع مستقبلا. أما من الناحية البيداغوجية تم التركيز على معالجة الصعوبات التي يعاني منها التلاميذ في القراءة والكتابة والعد والحساب.....عبر ساعات الدعم خارج أوقات العمل المخصصة إلا أن ذلك مسطر في المذكرات والبرامج بشكل امبريقي ولا وجود له على أرض الواقع وبالتالي تتراكم الصعوبات سنة بعد سنة، يشعر التلميذ بالملل وعدم الرغبة بمواصلة الدراسة وبالتالي يضطر إلى مغادرة المؤسسة التعليمية، حيث يجد نفسه في الشارع بما يحمله من مشاكل اجتماعية كالتسول والتعاطي للمخدرات والسرقة ...... ومن الإجراءات التي حاولت الوزارة اعتمادها من أجل تدارك وتصحيح ما تم تراكمه من فشل على مر العصور، إشراك جمعيات المجتمع المدني في محاولة إعادة إدماج الأفراد الذين يعانون الإقصاء الاجتماعي بفعل الأمية والجهل.... عبر برامج التربية غير النظامية ومحو الأمية في إطار مشروع التنمية البشرية، الذي يسعى إلى تنمية قدرات الأفراد حتى يكونوا قادرين على الإحساس بالانصهار داخل المجتمع والعمل فيه بشكل إيجابي وتجاوز الضعف والهوان.وفي هذا الإطار خصصت ميزانيات هائلة وطاقات بشرية مهمة لوضع اللبنات الأساسية لإنجاح هذه العملية، غير أننا من خلال زيارتنا لمجموعة من الجمعيات وعملنا الدائم معهم نسجل عدة خروقات وهفوات تقف حائلا أمام نجاح هذه المبادرة، حيث العنصر النسوي فقط المستفيد الوحيد من هذه العملية في غياب تام للرجال دون اعتماد أي إجراء لإشراكهم، كما أنا الأطر التي تقوم بهذه العملية غير مؤهلة وليست من ذوي الاختصاص مما يسبب مجموعة من الخسائر المادية والبشرية وما يزيد الأمر تعقيدا غياب المراقبة والتتبع مما يشجع الجمعيات على تراكم الأفواج من أجل إغناء ملفاتها لطلب الدعم المادي. فماذا ننتظر من تلميذ لم يلتحق بالمدرسة أصلا أو غادرها في فترة معينة أو يجد صعوبات تعلمية من قبيل صعوبات قرائية أوكتابية أو محتوى دراسي بعيد كل البعد عن تمثلاته وخصوصياته أو أستاذ غير متخصص أو متسلط ... ليس سوى فرد أمي يعاني التهميش والجهل مما يدفعه إلى القيام بسلوكيات غير سوية تميل إلى الانحراف وانتشار الأمية والجهل. وما يؤكد فشل التجارب الفارطة الوضعية المزرية للمجتمع المغربي من حيث توجه الأفراد وانشغالاتهم وتوجهاتهم، وكذلك المرتبة التي أصبح يحتلها المغرب في ميدان التعليم وعلاقته بالتنمية، حسب تقديرات اليونسكو حيث صنف في المراتب الأخيرة بسبب ضعف معدل التنمية الحقيقي، الذي يرجع لعدم تأهيل وتكوين الطاقات البشرية وإدماجها في المجتمع -سوق الشغل بالخصوص -مما يزيد من معدل البطالة والأمية وتراجع مكانة المؤسسة التعليمية، رغم الميزانيات التي صرفت من أجل تطويرها، وذلك بسبب النزيف الذي يحدث من جراء ظاهرة الهدر المدرسي بما فيها من تسرب وفشل وعدم التكيف وانقطاع ... وما تسببه من هدر للأموال الطائلة وانتشار الأمية والفقر والانحرافات كالتعاطي للمخدرات والكحول والتسول والطلاق ... بذلك تصبح المؤسسة التعليمية بصفة عامة غير قادرة على تكوين أجيال الغد وتأهيلهم للاندماج الاجتماعي، لأنها عجزت عن توفير احتياجات المواطنين من استقرار ودخل فردي يكفي لتوفير المطلوب.... مما يجعل عملية تأهيل الفرد من خلال بناء شخصيته كما ورد سابقا أمر صعب، وبالتالي حدوث خلل يسبب في التهميش والإقصاء.فإن أي إصلاح مهما كان نوعه لابد وأن يلامس حاجات واهتمامات الفئة المستهدفة وأن يحترم خصوصياتها، كما أنه مجبر على إشراكها في وضع مبادئه الأساسية، وهذا ما نفتقده في كل الإصلاحات السابقة حيث التحيز إلى فئة معينة على حساب أخرى. وختاما، يمكننا القول بأن التنشئة الاجتماعية سواء في الأسرة بفعل المشاعر العاطفية للأباء أوفي المدرسة من خلال الأنشطة والممارسات الموجهة أوفي النوادي والجمعيات والمساجد وجماعة الأقران..........هي التي تلعب دورا مهما في تكوين شخصية الفرد في أبعادها الثلاثة من أجل تأهيله بأن يكون فاعلا ومندمجا في مجتمعه. وأن أي خلل في التنشئة يؤدي إلى خلل في نسق الشخصية(الفرد)الذي يتسبب بدوره في خلل في الأنساق الأخرى كالنسق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبالتالي يحدث خلل كلي في المجتمع على اعتبار أن هذا الأخير يتكون من أجزاء صغيرة يجمع بينها نسق من الوظائف الأساسية حسب النظرية البنيوية الوظيفية لرائديها تالكوت بارسونز ورويرت ميرتون. * تخصص علم الإجتماع والأنثروبلوجيا