الذين عوّلوا من ساسة المخزن على انتصار منتخب الكرة في موقعة مراكش ضد فيلة ساحل العاج للتنفيس عن البؤساء والعاطلين والمكروبين عوّلوا على الريح. فقد أخفق المنتخب المغربي مرة أخرى في تحقيق فوز يُبقيه منافسا على العبور إلى المرحلة التالية من التصفيات، في عقر داره، وبين جماهيره، ومناصريه، والمُنفقين عليه. وقبل ذلك بأسبوع، عجز الفريق المغربي عن الفوز على النكرة التي لما يصلْ عدد سكانها مليوني نسمة، القابعة في المرتبة 108 على الصعيد الكُروي العالمي، فاتُّهِم الحَكَم بدل القَدَم، وأُشيرَ إلى بساط الملعب، الذي لا يشبه ما اعتاد لاعبونا الناعِمون المُنَعَّمون اللعب عليه في الخارج، كسبب رئيسي في نتيجة التعادل المخيبة للآمال المحركة للآلام. فماذا أو مَنْ يا تُرى سيصبح السبب في نكبة مراكش التي يضاهي ملعبُها ملاعبَ أوروبا الغنية؟ تاريخ هزائم المغاربة في الكرة منذ آخر مشاركة في كأس العالم سنة 1998 حافلٌ. فباستثناء بلوغ نهاية كأس إفريقيا في تونس عام 2004، لم يستطع المغاربة اجتياز الدور الأول في كل المحطات. لا يعني هذا أن تاريخ الكرة في المغرب تاريخ مجد وانتصارات، لكن في السنين الأخيرة زادت النكبات والخيبات. بمقارنة مختصرة نجد أن المغرب قبل سنة 1998 فاز بكأس إفريقيا مرة واحدة، وبلغ نصف النهاية ثلاث مرات، ولعب في كأس العالم أربع مرات ( لاحظ أننا نعتبر اللعب في المنافسة العالمية فقط نصرا كبيرا ومفخرة)، وأبلى بلاءً حسنا في دورة المكسيك سنة 1986... ومعروف أنه إذا استثنينا هذه الومضات التي لا يد فيها للقائمين على شؤون الكرة، ولا تدبير مستقبلي ولا تكوين ولا تخطيط، لا نكاد نجد كذلك منذ بدء المسابقات الإفريقية والعالمية سوى ظُلْمة الهزائم والويلات. أناس أعرِفُهم طلّقوا مباريات المنتخب المغربي منذ زمان، فاستراحوا من ارتفاع ضغط الدم، والاكتئاب، و"الفقصة". وأناس آخرون لا يتحدثون عن الكرة إلا كوسيلة للتنكيت والضحك. في فترة ماضية كان المخزن ينحي باللائمة على التحكيم الرياضي الخارجي بدل التحكيم السياسي الداخلي. أو يعلق الهزيمة المنكرة، عندما يلعب الفريق في بلد إفريقي، على مشجب الطقس الحارّ، كأننا من روسيا أو السويد. وقد تُعزى الأسباب كذلك إلى الحشرات والزنابير. ثم جاءت فترة صار يُعتمَد فيها على المحترفين في الخارج لضعف البطولة الوطنية التي ترى اللاعبين فيها يركضون شتاءً فوق البرك المائية، فأغدقت عليهم العطايا، وهُيئت لهم وللمشرفين عليهم ظروف السُفراء والأمراء، حتى إذا خسر المنتخب ومرّغ أنفَ المغاربة في التراب، لم يجد المخزن بدا من وضع المدرب في قفص الاتهام، ولْتذهب الأموال. أما في الحاضر، فكل شيء قد يشار إليه لتبرير الهزيمة والإقصاء. وكل وسيلة قد يُلجأ إليها للحفاظ على ماء الوجه، حتى لو اقتضى الأمر تعيين أربعة مدربين على رأس الإدارة التقنية للمنتخب ودخول كتاب غينيس للأرقام القياسية. ولا بأس، في زمن الأنترنيت الذي يستحيل فيه طمس الحقائق، من قول بعض الحقيقة والحديث عن غياب التكوين القاعدي والملاعب والنزاهة في التسيير... كرة القدم في المجتمعات الراقية رياضة وصناعة. والمحبون لها يلعبون هُم الكرةَ قبل منتخباتهم، أو يلعب صِغارُهم. يلعبونها في المدارس، والجامعات، والملاعب المعشوشبة المنتشرة في الأحياء كانتشار الأسواق. يلعبونها رياضةً للبدن، وترويحاً عن النفس. والرياضيون يؤدون الضرائب، ويساهمون في التنمية. ثمة أمور يرفضها إسلامُنا كالمبالغة في أجور اللاعبين والمدربين والإنفاق على القضية برمتها لا يليقُ ولا يسعُ المجال لمناقشتها الآن. ما رأيك أخي الرياضي في المسؤولين عن الكرة في الدول الغربية الثرية الذين بدؤوا يطالبون بوضع سقفٍ لسعر انتقال لاعب من نادي إلى آخر؟ أما في مغربنا فهي سياسة أولا وثانيا وأخيرا. القَيِّمون على شؤون الكرة في بلادنا -والمجتمعات المتخلفة عامة- يعتبرونها قضية سياسية سِيادِية لا هزْل فيها. وحسبك حُجة تعيين رئيس جامعة الكرة الحالي وطريقة "انتخابه". الكرة في المغرب المخزني وسيلة ناجعة للإلهاء، والإبعاد، والتنويم، والصدّ عن الله. وسيلة ناجحة – لحد الآن – لإلهاء العاطلين عن طلب الشغل، وإبعاد الكبار عن الاهتمام بالسياسة والحُكم، وتنويم الجماهير المفقّرَة عن النهوض لطلب الحقوق، ومنها الحق في ثروات البلاد، وصدّ الشباب الصاحي شيئا فشيئا من الغفلة المتوارَثة الكارهِ للفتنة العارمة عن الله. الكُرة "المتلفزة" في المغرب الاستثنائي فرصةٌ لاسيّما بين الشوطين لأقطاب الاقتصاد والتجارة1 لبيع منتوجاتهم وبضاعة الشركات العالمية العابرة للقارات. إذا كان الصحفيون المُصوِّرون في العالم الديمقراطي ينقلون كلَّ صغيرة وكبيرة تحدث فوق ميدان اللعب، وفوق المدرجات، ومنها أحداث الشغب، والاحتجاج الزائد على الحكم، والتشابك بين اللاعبين (القضية قضية مال)، وكلها نادرة، فإن مُصوِّري تلفزتنا المقيَّدون بأوامر العُمّال والوُلاة يُحوّلون كاميراتهم عند حدوث ذلك نحو علَم البلاد كأننا لا نعرفه، أو نحو الطيور. وقد يذيعون، في حالات الخسارة الكارثية، بدل الصفير وصيحات الاستهجان والشعارات المناوئة للمسؤولين عن القطاع الرياضي في البلاد، تسجيلا للتصفيق وهتافات الفرح والتشجيع، أو يقطعون الصوت، ويفسحون المجال للمعلق الرياضي ليمارس دوره في التضليل والتعمية وذبح العربية. الذين يعتبرون كرة القدم رياضة من الرياضات يعيشون خارج الزمن الحاضر. كرة القدم رياضة في المدارس والشواطئ والأزقة. أما في ملاعب احترافنا حيث العنف والجريمة والمخدرات ومقاهي المراهنة وحرق الأعصاب فهي ظاهرة اجتماعية لها صلة بالكثير من المصائب والعواقب الوخيمة. ومن مقدمات النهوض بها ووضعها في المكانة التي ينبغي وضعها فيه، القطع مع الاستبداد في تسيير الشأن الرياضي، وقلبُ أوضاع القطاع رأسا على عقب ليصير مصدر التشغيل والتنمية الاقتصادية والدمج الاجتماعي، وراية الدفاع عن قيمنا ومبادئنا، وجعل الملاعب والقاعات الرياضية أمكنة ثانية للتربية والتخليق، باعتبارها امتدادا للمدارس والمعاهد والجامعات التي فيها تكتشف المواهب والطاقات، وتلك قضية أخرى.