مرّت عليّ سنوات، وأنا أبحث عني، لعلي أجدني على الصورة التي شكلتها عن نفسي، وبها تعرف علي الناس في الحي وفي المدينة وفي كل مكان. أعترف أني كنت ضحية وهدفا لمن أرادوني كما يريدون، لا كما أنا، لكنني أيضا صرت ضحية نفسي، وبذلك ساعدتهم من حيث أدري او من حيث لا أدري. بعد نومة كانت أشبه بالصدمة، استفقت، دون أن استعيد وعيي، استفقت على شخص آخر غيري، غير الذي ألفته يمثلني، في أجواء الصمت أراه يشبهني، له نفس ملامحي دون زيادة ولا نقصان، الرأس نفسه والعينان نفسهما ولو بنظرات مختلفة، وبحركات مختلفة، وبردود أفعال لم أعهدها مني. فتحت دولاب ملابسي، أين ملابسي، لم أجدها، وجدت مكانها ملابس أخرى، بالألوان نفسها، لكنها ليست على مقاسي، تصغرني بسنوات، وبعضها لا أتذكر اني لبست مثلها يوما، وهناك من يدعوني بصوت خافت لأرتديها وأتعود على ارتدائها، ويعدني بانه سيوفر لي منها ما أحتاجه داخل بيتي وخارجه. حاولت الحديث مع نفسي بالطريقة التي تعودت عليها، قبل أن أنطق أمام الناس، حمدت الله أن مخارج الحروف ما تزال هي نفسها، ولكن الكلمات مختلفة، بينما الكلمات الأخرى غير المختلفة، لا تستطيع ان ترتب نفسها في جمل وفقرات أعرفها، تتداخل وتتزاحم فلا ينتج عنها معنى، والكلام بلا معنى يفقد قائله المعنى، فما فائدة الكلام بلا معنى سوى إحداث الضجيج، ومن الضجيج ما يتبعه تصفيق، ويا للعجب. نزلت من السلم مغادرا البيت، لمحت لحظة الخروج ان المطبخ لم يعد في مكانه، فقلت في نفسي، لا مشكلة المهم في المطبخ لذة ما يُطبخ فيه لا مكانه، عندما أغلقت الباب لاحظت ان القفل ليس نفسه، لا يهم.. الشارع لم يتغير، ولم يتغير الرصيف والمقهى، والبقال، وبائعة "المسمن والحرشة" والخضار والجزار و"السمسار" يردون التحية بلا حماس، منهم من ردها بنظرات فقط، لا يهم.. هناك آخرون يردون التحية بالعناق وبالدعوة الى الجلوس معهم، لكني لا أعرفهم، وبعضهم كما لو اني اذكر انه كان يضع الشوك في طريقي قبل النومة اياها، الغريب في هذا ليست بائعة" المسمن والحرشة" ولا الخضار والجزار، ولا من يعانقون، الغريب أن مشيتي لم تعد تلك المشية القاصدة، الرأس يقرر اتجاها، والأطراف لا تستجيب كلها، فترتبك المشية، وأثعتر كثيرا لكن لم أسقط، الحمد لله. على الطريق كلما قطعت مسافة قصيرة، احس أني أبتعد عن المارة، أحس أني انحرف عن المسار دون أن ألحظ أمامي علامات تشوير تدعو للانحراف، لأشغال أو لسبب آخر، لا أستطيع أن أرى سوى مسافة قصيرة أمامي، مع أن الزمن نهار والشمس بادية في كبد السماء. وأنا أحاول إقناع نفسي ألا شيء تغير، وأني انا هو انا، اجتهد في البحث عن فرح كاذب، افتش عنه في انجاز احققه او يتحقق أمامي، أو في كبش فداء أحوله من ضحية الى فاجر، وأحمله المسؤولية. صدى الأشياء الجميلة يُسمع بداخلي، ويُسمع أمل افراد عائلتي والاقارب والجيران، وأمل راعي الحي كذاك، الحقيقة ما يُسمع بداخلي يزعجني، ويذكرني، ويحرض الضمير ضدي، ويجعل السبيل الوحيد أمامي هو الهروب مني، ولكن الى أين، الى أحضان من كانوا الى عهد قريب يحاربونني ويحاولون نفيي، ويحاولون اليوم قتلي بضمّي، هل أضع يدي في أيديهم لأهرب مني، أم أعترف لنفسي أني أنا لست أنا، أنا شخص، ولا شيء يمنع أن تكون قصتي قصة جماعة أشخاص، أو قصة حزب سياسي، ما دام الحزب مجرد مجموعة أشخاص.