في زقاق أندلسي صغير جلست بعض النساء الهرمات المتشحات بالسواد عند عتبات بيوتهن الواطئة، كأنهن ينتظرن ملاك الموت بمنتهى الاشتياق ، عيونهن على أصص الورد المثبتة على الحائط المقابل ،وقسمات وجوههن تكشف عن تبرم عضال ، والصبايا الصغيرات يلعبن لعبة القفز على الحبل بانشراح طفولي تام. لكل جيل زمنه : هذا هو عنوان المشهد باختصار شديد ، ولاجيل يرحم سابقه أو لاحقه ، فالنساء الهرمات لايبالين بفرح الصبايا والصبايا لا يراعين حزن النساء الهرمات ، ومع ذلك يظل الزقاق متسعا للجميع . ولعله يستمد خصوصيته الأساسية من هذه المفارقة الوجودية : عش حياتك وانسحب في هدوء ! تقدم بوجمعة من السيدة الجالسة عند باب أول منزل على اليسار وقبل رأسها ، لكنها لم ترفع عينيها عن أص الورد المعلق أمامها . أهي نائمة بعينين مفتوحتين؟ ربما . وحين رأتنا الصبايا الصغيرات أوقفن اللعب وصاحت إحداهن وهي تشير إلينا : - هاهم المورو قد جاؤوا . في الداخل استقبلتنا فتاة في حوالي العشرين ، صافحتنا بعينين زائغتين ودلتنا على غرفتنا. سريران صغيران ومزهرية بينهما وعلى الحائط صورة لمصارع يغرز رمحه في ثور مضرج بالدماء. ثم وقفت عند باب الغرفة تشملني بنظرات استطلاع من قدمي إلى رأسي وهي تبتسم وتحرك قدمها اليسرى . مد بوجميع يده نحوي : - هات خمسين بسيطة ! تسلمت الفتاة المئة بسيطة بنفس الابتسامة ومضت راكضة. وأخذ بوجميع ينزع ملابسه. - سأستحم ثم نذهب إلى سوبرمارشي الحي كي نشتري بعض المواد الغذائية ، المطبخ هنا مشترك وعلينا أن نساهم فيه بقسطنا. نزعت حذائي فشعرت بارتياح لامثيل له ، واستلقيت على السرير المحاذي للنافذة . كانت صيحات الصبايا المنبعثة من الزقاق تكسر جو السكينة الذي يسود هذا المنزل الصغير وتهدهد سباتي، فغفوت . ولما عاد بوجمعة من الدوش كان الليل قد خيم وصياح الصبايا قد انقطع . جلس بوجميع على حافة سريره وتناول حذائي ثم أخرج من حقيبته سكينا وبدأ يفتح نعل الحذاء . - سنقتطع ما ندخن والباقي سأسلمه غدا لأنطونيو. - من ؟ - ستتعرف إليه غدا، غجري لطيف يسكن في طريق مالاگا. وقفت أمام رفوف المشروبات وقد تفتحت شهيتي لكل الأصناف ، كنت حائرا بينها مثل طفل صغير يجد نفسه بعد سنوات من الحرمان أمام جبل من اللعب التي لم يتح له فيما قبل أن يرى مثلها. ثم تناولت قنينة «باستيس» وقنينتي نبيذ وبضع جعات ، وصرت أبحث عن لحم الخنزير غير حافل بنواهي بوجمعة الذي يذكرني دوما بأن لحم الخنزير يسبب الزرقة في شرايين الساقين. كان بوجمعة قد اقتنى قليلا من الجبن وعلب السردين والفاصوليا المصبرة والخبز والسجائر، فاتقفناعلى تقاسم المصاريف ، وخرجنا . كانت نساء الزقاق قد دخلن إلى بيوتهن ولا أثر للصبايا ، ثمة فقط بضعة شبان يبادلون صديقاتهم قبلا خفيفة وهم يشربون السانگريا ويرقصون على إيقاعات موسيقية تنبعث من آلة تسجيل وضعت على نافذة أحد المنازل. شربنا قليلا من الجعة ودخنا فأحسست بارتخاء لم أعهده من قبل وأسلمت نفسي للنوم، لكن بوجمعة شغل جهاز الموسيقى فضجت الغرفة بموسيقى «البينك فلويد» ، وكان علي أن أستفيق مكرها، قلت له : - أرجوك، خفض قليلا، نحن لسنا وحدنا في البيت وأنا متعب. - هل جئنا لننام ؟ قم واستحم لنخرج ، هذه مدينة لاتومن بالمتعبين ولا وقت فيها للنوم . أحيانا تسعفه الحكمة، فقد وجدتني بعد الاستحمام أستعيد قواي ورغبتي في السهر إلى آخر الدهر، ولذلك ما إن وطئت قدماي أرضية الشارع الكبير حتى صار لمشيتي إيقاع آخر، كنت أمشي على غرار زنوج هارلم وأنا أحرك رأسي وكتفي جهة اليمين وجهة الشمال كمن يرقص في مكانه، وأوسع الخطى كمن يستعد للمبارزة ، وكان بعض الشبان الأمريكان يبادولنني التحية قائلين: = سلاما أيها الجنوبي «hi southern» فازددت اختيالا وإقداما على الحسناوات. وكنا قد مررنا بأكثر من حانة ، لأن تغيير الحانات كما يقول بوجمعة يرفع من وتيرة السكر ، حتى وصلنا إلى خمارة شعبية في نهاية أحد الدروب معظم روادها من المطلقات والأرامل والباحثات عن اللذة بأي ثمن . طلبنا شراب السانگريا في كؤوس «حياتي» واندمجنا في حوار مع الجميع ، وحظينا بكرم أكثر من أرملة ، إلى أن حططنا الرحال في طاولة بها سيدة إنجليزية برفقة زوجها وإيرلنديتان خجولتان ، إحداهما معلمة والأخرى موظفة بريد . كانت السيدة الإنجليزية تبدو في حال من السكر وهي تعتذر للإيرلنديتين عن احتلال الإنجليز لإيرلندة فيما كان الزوج الذي لعبت الكأس برأسه يدافع عن بريطانيا عظمى تمتد من أستراليا إلى جزر المالوين لتعلم الشعوب فن العيش ، ثم يقول وهو ينظر إلي : - أنتم الأمريكان مثلا تستعمرون نصف الكرة الأرضية في السر ولا أحد يجرؤ على محاسبتكم،لأنكم أقوياء بالدولار وبالأسلحة والعملاء المنتشرين في كل بقاع العالم. كان بوجمعة يلتهم شفتي الإيرلندية البريدية حتى خلت أنه سيضاجعها أمامنا ، وكانت الزوجة الإنجليزية تتكئ على كتفي وتقول لي : - لاتهتم بما يقول فهو يخرف ، لقد أدركته الشيخوخة. ثم تفرغ كأس «الدجين» في حلقها وتنظر إلى المعلمة الإيرلندية الجالسة بجواري وتغمزها. وينهض الإنجليزي ليحضر كؤوس السانگريا والدجين من الكونتوار: - اشربوا نخب بريطانيا العظمى. - كفاك شربا يا جورج ، علينا أن نغادر . - أنت مخبولة ، إلى أين سنذهب ونترك هذا المكان الأليف ؟ - إلى الفندق ، هل نسيت أن لك بنتين في انتظارنا؟ - دعيهما وشأنهما ، لاشك في أنهما الآن برفقة شابين وسيمين . نهض بوجمعة يمسك بيد البريدية ومضي بها في اتجاه بيت النظافة . كانت المعلمة الإيرلنيدية تنظر إليهما ذاهلة ثم التفتت إلي وابتسمت ابتسامة كشفت عن أسنان صافية والتمعت عيناها ببريق من نوع خاص ، ثم همست في أذني بلكنة بدت لي مثل شدو متلعثم: - أنا لا أكره الإنجليز، لكن هذا الرجل مقرف. قلت لها : - دعيك من الإنجليز ومن قرف هذا الرجل ، وحدثيني عن جيمس جويس وصمويل بيكت وبرنار شو وويليام بليك وأوسكار وايلد ،،، اتسعت حدقتاها وقالت : - من أين تعرف كل هؤلاء ؟ قرعت كأسي بكأسها ودنوت من وجهها فصفع أنفي أريج عطر لاعهد لي به فيما قبل : - ما اسم هذا العطر ؟ - باتشولي ، جلبته من أمستردام . - يا إلهي ، رائحته تسحر الأنوف وتذهب بالعقول،، ضحكت وغرست عيناها في عيني وقالت : - كلامك جميل ، لكن ضجيج المكان ،،، كانت الزوجة الإنجليزية تحاول أن تنهض زوجها الذي استلقى على الأريكة من شدة السكر وانبجست من بين شفتيه رغوة الشراب. كانت الزوجة تبدو محرجة وهي تنظر إلينا وكأن لسان حالها يقول :» لابأس ، هكذا هم رجال الإمبراطورية البريطانية» . عاد بوجمعة يتقدم البريدية وعلى محياه علامات الخيبة ، وقبل أن يجلس نظر إلى المعلمة وقال لي : - دعها تأتي لتجلس بجانبي. لم أدرك قصده ، كنت أعرف أنه أناني حقير ، غير أني لم أجد لرغبته ما يبررها . أما البريدية فقد ظلت واقفة ثم قالت لصديقتها : - سنذهب . لكن المعلمة اعتذرت لها بلطف وقالت : - بإمكانك أن تذهبي ، سألتحق بك بعد نصف ساعة. انصرفت الإيرلندية البريدية بعد أن ودعت الجميع بلطف نادر وبوجمعة ينظر إليها شزرا وكأنه ينظر إلى قطعة غائط . - ماذا جرى بينكما ؟ - لاشيء ، أردت أن أطحنها فوجدت بها العادة الشهرية. - وما المشكل ؟ لم يجبني وظل يرمق المعلمة وكأنها آخر ما تبقى من النساء على وجه الأرض، ثم حول بصره في أرجاء الحانة باحثا عن أنثى ليست بها عادة شهرية. قلت له على سبيل الاستفزاز: - اطحن هذه العجوز الإنجليزية فهي في حاجة وزوجها قد غاب عن الوجود. - لم لا تطحنها أنت وتترك لي هذه المعلمة الفتية؟ - اسألها إن أرادت . وبدون أي تردد اقترب بوجمعة من المعلمة وأمسك بيدها فانتفضت ونهضت في الحال ثم خطت بضع خطوات قبل أن تعود لتقول لي : - نلتقي غدا في الشاطئ ، الساعة الحادية عشرة صباحا ، في الموضع المقابل لفندق كوسطا ديل سول . تصبح على خير . بدا لي وجهها وكأنه لقطة مكبرة لوجه إليزابيث تايلور( التي كنت أعشقها كثيرا) وحينها تذكرت أن أسالها عن اسمها ، فقد قضينا سهرة كاملة من دون أن يتعرف أحدنا على اسم الآخر . فقالت : - اسمي « ديانا» . ومضت ترفل مثل حمامة عذراء. كانت الزوجة الإنجليزية قد يئست من إيقاظ زوجها الذي ألم به إغفاء مفاجئ فجلست تشرب كؤوس الدجين واحدا تلو الآخر وعلى وجهها ارتسمت خرائط المرارة العظمى ، فبدا لي أن أواسيها وأحاول إخراجها من حال اليأس إلى حال الانتشاء. قلت لها: - ما رأيك في كأس من السانگريا ؟ اهتزت لاقتراحي وبدت كما لو أنها خارجة من دهليز مليء بالعقارب . - فكرة سديدة أيها الشاب اللطيف . ونهضت في الحال وأحضرت ثلاثة كؤوس ، لكني لم أعثر لبوجمعة على أثر . كان قد تنقل إلى طاولة أخرى بها بعض النساء الثملات فشعرت بارتياح كبير. ناولت الإنجليزية كأسها فأجزلت لي من الشكر ما يعادل عشر كؤوس ، ثم قرعت كأسها بكأسي وعيناها على عيني ودنت مني وقالت : - ما اسمك ؟ - جيمي . مدت يدها إلي وصافحتني بحرارة رجتني كهرباؤها: - أنا «ساره» من ليفربول . أعمل في مؤسسة خيرية لإيواء المشردين. وأنت ؟ - أنا لاعب كرة سلة في فريق من الدرجة الثانية في نيوجيرزي. كان الحديث بيننا هادئا تتخلله لحظات صمت وتردد، وكنت خلالها أبحث عن أجوبة أخرى لأسئلة محتملة ، لكن المرأة بعد أن شربت كأسها أخرجت حافظة النقود وقالت : - الكأس معك تحلو، ائتنا بكأسين أخريين. عدت بكأسين لأجد بوجمعة يجلس بجوار الإنجليزية وقد شرب كأسه ووجهه ينم عن سخط لامتناه ، وقبل أن أنهي كأسي قال لي : - تعال نمض إلى حال سبيلنا فقد كرهت هذا المكان. نهضت وقبلت يد السيدة الإنجليزية فارتعشت وقالت : - شكرا جزيلا أيها الجنتلمان ، أكيد أننا سنلتقي هنا غدا ، سأكون برفقة ابنتي الاثنتين وسأعرفك بهما. ثم مضينا أنا وبوجمعة باتجاه نزل خالتي ماريا ونحن صامتان ، لايكاد أحدنا ينظر إلى الآخر.