"مسلموالصين ليسوا في هذه الدنيا" هذه عبارة للأمير "شكيب أرسلان" قالها قبل نحو80 سنة، بعد أن سعى جاهدا لتقصي أحوال مسلمي الصين والتعريف بهم، ولوأطلقت هذه المقولة اليوم لكانت أفضل تعبير وتوصيف لواقع مسلمي الصين، وذلك راجع إلى طبيعة الصين وخصوصيته الثقافية والتاريخية والسياسية، فالصين ليس بالبلد العادي الذي يمكن استيعابه في سنة أوسنتين، بل هوذاك المجهول الذي كلما اكتشفت بعضه تبين لك أن ما تجهله أكثر مما تعرفه. وموقفي هذا نابع من تجربة شخصية، فقد أنفقت وقتا طويلا في اكتشاف هذا البلد، وتخصصت في اقتصاده خاصة الحقبة التي أعقبت سياسة الإصلاح والانفتاح بعد 1978، لكني لازلت عاجزا على فهم هذا البلد واستيعاب توجهاته، وتطلعاته تجاه مواطنيه وتجاه باقي شعوب الأرض، بل أعتقد أن الوصف الوارد بالقران الكريم عن "يأجوج ومأجوج" ينطبق على الصين وخروجهم للعالم والله أعلم. خاصة في ظل نظام سياسي شديد الرقابة وتقييد الحريات الفردية والجماعية، وهوية سياسية وأيديولوجية وثقافية هجينة، ففي الصين كل شيء مختلف ف "الاشتراكية بخصائص صينية"، و"الرأسمالية بخصائص صينية" ، و"القمع أيضا بخصائص صينية"، بل حتى الدين والتدين خاضع لنفس القاعدة، فالدولة تشجع الإلحاد منذ نجاح الحزب الشيوعي في السيطرة على البلاد وقيام جمهورية الصين الشعبة في عام 1949، لكن مع ذلك فإن الصين ترفع لواء الدفاع عن الثقافة الكونفوشية خاصة بعد القضاء على "عصابة الأربع" وتبني البلاد لسياسات الانفتاح .. وهذا المقال هو مساهمة متواضعة في حملة التضامن مع مسلمي "الإيغور"، فقد أظهرت وثائق تم تداولها خلال الأيام الماضية، تفاصيل عن الممارسات الصينية بحق مسلمي "الإيغور"، داخل معسكرات الاعتقال بإقليم "شينغيانع" (أي الحدود الجديدة). وتتضمن الوثائق التي نشرها الائتلاف الدولي للصحفيين الاستقصائيين، معلومات عن ظروف احتجاز أكثر من مليون مسلم "إيغوري"، وأبرز ما ورد في هذه الوثائق : * استخدام الصين نظام صارم للمراقبة، في مراكز الاحتجاز، التي تؤوي أكثر من مليون شخص من "الإيغور" وغيرهم من أبناء الأقليات المسلمة. * تهدف بيكين من هذه المعسكرات، استيعاب الأقلية المسلمة وتغيير فكرها، خلاف لما تدعي الصين "توفير التدريب المهني للمحتجزين". * ضمت وثائق مسربة رسالة من 9 صفحات، أرسلها نائب الأمين العام للحزب الشيوعي "زهوهيلون" إلى مسؤولي المعسكرات، وجاء في الرسالة: "لا تسمحوا لأحد بالهرب، وضاعفوا العقوبات والانضباط لمن يتصرف بشكل خاطئ، وشجعوا على الندم والاعتراف." لكن المسؤولين الصينيين يؤكدون أن ما يسمونه ب "مراكز التدريب المهني" أو"إعادة التثقيف" لا تنتهك حقوق الإنسان في الإقليم، وتم رفض تبادل المعلومات حول مراكز الاحتجاز، ومنع الصحافيين والمحققين الأجانب من الدخول أو الاقتراب أو التصوير. أولا- نبذة عن إقليم "شينجيانغ" منطقة شينجيانغ ذاتية الحكم لقومية "الإيغور"، هي المقاطعة الشمالية الغربية التي تطالب بها الصين منذ تولي الحزب الشيوعي الصيني السلطة عام 1949، ويشير مسلمي"الإيغور" الذين يعيشون هناك إلى المنطقة باسم "تركستان الشرقية"وينبغي بنظرهم أن تكون مستقلة عن الصين، وتستحوذ "شينجيانغ" على سدس مساحة اليابسة في الصين، وتحدها ثمانية بلدان من بينها "باكستان"و"كازاخستان"و"قيرغيزستان"..وتعد "شينجيانغ" حلقة وصل مهمة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي خطة تنمية ضخمة تمتد عبر آسيا وأوروبا، وتأمل بكين في القضاء على أي احتمال للنشاط الانفصالي لمواصلة تطويرها في "شينجيانغ" ، التي تضم أكبر احتياطيات من الفحم والغاز الطبيعي في الصين. ثانيا- علاقة الصين بمسلمي "الإيغور" عبر التاريخ تميزت العلاقة بين مسلمي "الإيغور" و"الصينيين" بنوع من الاضطراب وحالة من المد والجزر، فقد تمكن "الإيغور" منذ وصول الإسلام إلى حدود الصين في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، من إقامة دولة "تركستان الشرقية" التي ظلت صامدة على مدى نحو عشرة قرون قبل أن تنهار أمام الغزو الصيني عام 1759 ثم عام 1876. وفي عام 1950 ضمت الصين الشيوعية الإقليم بالقوة، ودفعت إليه بعرق "الهان" الذي أوشك أن يصبح أغلبية على حساب "الإيغور" السكان الأصليين. وقد عانى المسلمون في "شنغيانغ" منذ ذلك التاريخ من التضييق عليهم في العبادة ومنعهم من الحج والقيام بالشعائر الدينية، وحرمانهم من الوظائف الحكومية وتفضيل الصينيين من عرق "الهان" عليهم، فأصبح المواطنين من قومية "الهان" يتحكمون في كل شيء في الإقليم، بالرغم من تمتع الإقليم بحكم ذاتي، وقد عملت الحكومة الصينية على التلاعب بالتركيبة السكانية للإقليم عبر استقدام أعدادا كبيرة من "الهان" من أنحاء الصين، وتهجير "الإيغور" من مقاطعتهم إلى المدن الصينية الأخرى. غير أن درجة تضييق الحكومة على مسلمي الإقليم لم تكن بنفس الدرجة طيلة هذه الفترة، فقد عانى الإقليم كما عانت باقي أقاليم الصين من ممارسات النظام الشيوعي وخاصة إبان فترة الثورة الثقافية، لكن مع انطلاق سياسة الانفتاح والإصلاح، استفادت ساكنة الإقليم بما فيهم المسلمين من بعض المزايا، كإقامة الشعائر الدينية وبناء وترميم المساجد. والجدير بالذكر، أن تعامل الصين مع أقليات مسلمة أخرى ناطقة بالصينية من غير أقلية "الإيغور" الناطقة بالتركية، يشوبه قدرا كبيرا من التسامح نظرا لغياب التطلعات الانفصالية لهذه الأقليات ومنها مسلمي "الهوي". لكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 كثف النظام الصيني من حملة مطاردته للاستقلاليين "الإيغور" وتمكن من جلب بعض الناشطين "الإيغور" خصوصاً من "باكستان" و"كازاخستان" و"قيرغيزستان" في إطار ما يسمى "الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب". ورغم المطاردة الصينية ظلت بعض التنظيمات السرية تنشط داخل البلاد منها بالخصوص الحركة الإسلامية "تركستان الشرقية" التي تتهمها بكين بتنفيذ سلسلة انفجارات في إقليم "شنجيانغ" وشباب تركستان الشرقية، وفي 19 سبتمبر 2004 قام "الإيغور" بتأسيس حكومة في المنفى لتركستان الشرقية يرأسها أنور يوسف كما تمت صياغة دستور. ثالثا- لماذا تحتجز الصين "الإيغور" في "شينجيانغ"؟ يتخوف النظام الصيني من مسلمي "الإيغور" لأنهم بنظره يحملون أفكارًا متطرفة وانفصالية، لذلك فإن المخيمات وسيلة فعالة للقضاء على التهديدات التي قد تهدد سلامة أراضي الصين وحكومتها وسكانها، فقد حذر الرئيس الصيني "شي جين بينغ" من "التطرف الديني" ودعا إلى استخدام أدوات "صارمة" للقضاء على التطرف الإسلامي أثناء زيارته ل "شينجيانغ" في عام 2014. وقد دعى صراحة إلى "الاحتجاز التعسفي" في خطب سرية كشفت عنها صحيفة "نيويورك تايمز" في الأسابيع الماضية. ونتيجة لذلك، أصبح الاعتقال التعسفي يستخدم على نطاق واسع من قبل المسؤولين الإقليميين في عهد "تشن كوانجو" سكرتير الحزب الشيوعي في "شينجيانغ" والذي اشتهر بزيادة عدد نقاط التفتيش الأمنية والشرطية ، ودعا المسؤولين إلى "اعتقال كل من يجب القبض عليه"وفقا لتقرير نيويورك تايمز. ففي مارس 2017، أصدرت حكومة "شينجيانغ" قانونًا لمكافحة التطرف يحظر على الناس إطلاق اللحى، وارتداء النقاب في الأماكن العامة، وأصبحت الحكومة الصينية تصف أي تعبير عن الإسلام في "شينجيانغ" بأنه متطرف ، كرد فعل على حركات الاستقلال السابقة ونشوب العنف في بعض الأحيان. وألقت الحكومة باللوم في الهجمات الإرهابية على حركة "تركستان الشرقية الإسلامية"، وهي جماعة انفصالية أسستها جماعة "الإيغور" في العقود الأخيرة، وبعد هجمات 11 سبتمبر بدأت الحكومة الصينية تصنف عدوانها ضد "الإيغور" على أنه جزء من الحرب العالمية على الإرهاب، وقالت إنها ستحارب ما تسميه "الشرور الثلاثة" (الإكراه والتطرف الديني والإرهاب الدولي) بأي ثمن. وعموما، علينا ألا نستغرب من تعامل الصين بعنف وراديكالية مع مسلمي "الإيغور" مقارنة بباقي القوميات والاثنيات (على سبيل المثال "التبت") فدعم الغرب ل "التبت" وتطلعاتهم الانفصالية يحد من حركة الصين في الإقليم، لكن في حالة المسلمين فالوضع مختلف، خاصة وأن حالة الوهن التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، وتحالف أنظمة عربية مع حكومة الصين ضد مسلمي "الايغور" ، يجعل من ممارسات الصين في الإقليم غير مستغربة. ونتيجة لذلك فمن غير المستغرب أن نرى سكوت الأمة وحكامها وعلماءها على هذه المآسي والجراح، لأناس عزل لا ذنب لهم إلا أنهم قالوا "ربنا الله"، بل إن بعض حكام العالم العربي لم يتورعوا في سحق شعوبهم المطالبة بالحرية والكرامة ، حكام افتقدوا كل معاني الانتماء لأمتهم ودينهم، حكام نصبوا نفسهم أعداء للأمة، فهم لا يتورعون في سفك دماء المسلمين في اليمن وليبيا وسوريا ومصر، بينما عندما يتعلق الأمر بضر يمس المواطن الغربي، فهم يتألمون ويفتحون قلوبهم وخزائنهم لأمريكا، وباقي سادتهم الغربيين، فلماذا سياسة الكيل بمكيالين؟ فالصدقة في المقربين أولى. وبالمقابل لا يسعنا إلا أن نقدم الشكر والامتنان لتركيا وماليزيا وأندونيسيا وباقي البلدان المساندة لمسلمي "الإيغور" على مواقفهم المشرفة شعوبا وحكومات، فمن المؤكد عندما يصبح المواطن المسلم يتمتع بكامل حقوقه ويملك قراره في تحديد مصيره واختيار من يمثله، إذاك يصبح من الممكن حماية باقي الأقليات لمسلمة في باقي بقاع المعمور. فالمعاناة التي تعيشها الأقليات المسلمة مصدرها ضعف الأمة الإسلامية و"غثائية" الأمة رغم كثرة أفرادها ووفرة مواردها وتعدد أوراق الضغط التي بين أيديها. فالتضامن الحقيقي يبدأ ببناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم، وتحرير المجتمعات المسلمة من الخوف والاستبداد والفقر وغياب التنمية، ورفع منسوب العلم والحرية البناءة، أما غير ذلك فهي مجرد معارك لا قيمة لها. كما أن دعوات مقاطعة الصين والبضائع الصينية وإحلال بضائع بلدان أخرى إسلامية، يعد ورقة ضغط يمكن لكل مسلم أن يُفَعِلها ، خاصة وأن الصين "تفكر من محفظتها"، بل إن مقاطعة البضائع الصينية التي تجتاح مختلف شوارعنا لم يعد ضرورة لرفع معاناة مسلمي "الإيغور" فحسب، بل هوأمر لابد منه لحماية أقوات ملايين المسلمين، فسياسة الصين في إغراق الأسواق بالسلع الرخيصة، وقتل الصناعات المحلية، خطر لا يقل خطورة عن معاناة إخوتنا من "الإيغور" بداخل أسوار هذا العالم الفريد.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون. * أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية.