وقفت لوهلة عندما ولجت بوابة المحكمة صباح يوم حار في مثل هذه الأيام من العام الماضي حين طالعتني لافتات موزعة على الجدران الداخلية لبناية المحكمة تحمل عبارة " القضاء في خدمة المواطن " وهو على ما يبدو الشعار الذي اهتدت إليه وزارة العدل تعبيرا منها على انخراطها فيما يسمى في المغرب ب :"الإصلاح" و هو آخر صيحات الموضة التي يحاول جميع المسؤولين في البلاد مجاراتها منذ قدم الشهيد البوعزيزي حياته قربانا لربيع ديموقراطي يحصد منذئذ كل اشكال اللاعدل في المنطقة, و شيئا فشيئا في كل العالم . أول ما تبادر إلى ذهني آنذاك حين قرأت العبارة هو ما حصل في مصر قبيل إسقاط رموز النظام هناك, حين لجأت وزارة الداخلية بعد استبدال حبيب العادلي في أول إجراء قام به الوزير الجديد حينها أن إستبدل شعار الشرطة من :" الشرطة و الشعب في خدمة الوطن " إلى :"الشرطة في خدمة الشعب" حيث تم تعميمه على المصالح المختلفة للداخلية في خطوة تروم تهدئة الثوار بعد أن أفلحت في حشد غضب شعبي عارم ضدها ,لكن بعد فوات الأوان. هما إذن صورتان متقاربتان من حيث الأسباب و الأهداف و حتى التوقيت , و يبقي أن نستنتج الخلاصات ونصحح المغالطات ومنها في رأيي على سبيل المثال لا الحصر ; أن القضاء كسلطة مستقلة (على الأقل كما يوصف الآن) من حيث المبدأ لا يمكن اختصاره في تقديم الخدمة للمواطن , كون هذا الأخير عندما يلجأ للدفاع عما يراه مصلحة له , تكون في المقابل ضد مصلحة خصمه , وحين يخفق هذا الخصم في إثبات ما يدعم مركزه القانوني ثم يخسر دعواه وبالتالي يصدر حكم ضده يكون و تبعا لشعار الوزارة الجديد "مواطنا أقصي من هذه الخدمة ". اتساءل مع نفسي عن رأي واضعي هذا الشعار في مواطن ما قضت محكمة ما بإدانته و الحكم عليه بالحبس النافذ من أجل أفكاره أو كتاباته أو أغنياته أو رسوماته ؟؟ هل يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار أن القضاء في هذه الحالة قدم خدمة لهذا المواطن أو حتى لأي كان , و هو الذي سلبه أغلى ما يملكه الإنسان أي كرامته ؟؟ تحضرني هنا حالة "معاذ بالغوات" "الحاقد" الذي عوض أن يكون سجله الغنائي حافلا بالألقاب أصبح سجله العدلي حافلا بألقاب من نوع آخر, و بما أن تهمته الحقيقية هي الانتصار للوطن ورفض الانقياد مع القطيع في المرة الأولى, فقد كان على محاميه الدفع بسبقية الحكم وبمبدأ عدم جواز الحكم على الشخص بنفس التهمة لأكثر من مرة مادامت التهمة الحقيقية هي نفسها في محاكمته الثانية. ثم إن هذا لا يستقيم مع الرؤية السليمة للعلائق بين السلط. حيث إن مبدأ "خدمة المواطن" ينطبق على الإدارات العمومية ولا يجوز إلحاقه بسلطة القضاء الذي من المفروض أن يكون مستقلا عن السلطة التنفيذية مبدئيا. لدى وجب علينا أن نتصالح مع قواعد ذات بعد عالمي و نيسر إدماجها ضمن منظومتنا الثقافية كمواطنين ومنها أن المواطن _في بلد ديمواقراطي_حين يكون أمام المحكمة بعد أن يطمأن الى توفر كافة شروط المحاكمة العادلة فإنه يسلم عنقه لسيف العدالة الذي قد يخطأ و قد يصيب و لهذا وضعت درجات التقاضي لاستدراك النقص الذي قد يشوب الأحكام, في حين أن المواطن الذي يخيب أمله من إدارة لم تقدم له الخدمة المرغوبة, له الحق في اللجوء إلى الجهة التي يتقدم أمامها بالتظلم,ثم إلى سلطة القضاء الذي يفصل في المنازعات و لا يقدم الخدمات. يمكننا الحديث عن "الخدمة" حين نتحدث عن الإدارة القضائية ممثلة في كتابة الضبط التي تقوم بالفعل بتقديم خدمات للمواطن بصفتها مرفقا مساعدا للقضاء و هي ليست بقضاء. أسأل و أتساءل :إلى من بالضبط من المواطنين يوجه هذا النوع من الرسائل ؟ "القضاء في خدمة المواطن "هل المقصود هو المواطن الذي يدفع الضرائب ويكتوي بالظلم ؟.أم المواطن المحصن الذي ينهب هذه الأموال دون متابعة. الصحيح من وجهة نظر وطنية و ديموقراطية هي أن القضاء و المواطن معا يكونان في خدمة الوطن, بلا مزايدات. أعتقد أن اتخاذ القرارات ; ذات العلاقة بالشأن العام ; فن دقيق يفترض في صاحبه حصافة و روية دون ارتجال أو تسرع. فالعبرة أساسا ليست بإطلاق الشعارات التي تجمع خليطا من الأغلاط المفاهيمية القاتلة و الفراغ من حيث المضمون , بل العبرة بالتماهي الفعلي مع معايير كونية في مجال حقوق الأفراد و الجماعات, وهو أمر لا يتطلب انتقالا ديموقراطيا و لا مسلسلا ننتظر حلقته الأخيرة بلا أمل واضح. بل فقط إرادة جادة وتفويضا شعبيا نابعا من وعي جماعي بأهمية قطاع العدل بكل مكوناته في بناء دولة تسودها قيم على رأسها عدم الإفلات من العقاب و المساواة أمام القانون و غيرها من القيم الكونية التي وحدها تصنع مواطنا مسلحا بالثقة في قضاء بلده , غير خائف ولا يائس. إن الزائر إلى مقر وزارة العدل بالرباط _مواطنا كان أو غير مواطن_, ينتبه لا محالة ;وهو يجتاز بوابات الوزارة أو حول أسوارها العالية ; إلى جيش صغير من حراس السجن ببدلاتهم المرصعة بشعار و تسمية "مندوبية السجون و إعادة الإدماج "؟؟ وقد يتساءل عمن يقصدون بالسجناء الذين يعاد إدماجهم بوزارة العدل؟؟؟ علما بأن إدارة السجون أعلنت على لسان مندوبها في أكثر من مناسبة طلاقها البائن من وزارة العدل. الجواب واضح نحن الذين نشتغل في هذا القطاع هم السجناء , نعم نحن كذلك فكما يحرم السجناء من حقوق يتمتع بها باقي المواطنين, يأتي المسؤولون عن القطاع ليحرمونا أيضا من حقنا في التمثيلية _ليس بالمعنى المسرحي للكلمة_ بمناسبة تنصيب الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة. وهي تسمية أشبه بتلك التي اخترعها القذافي لليبيا إبان تسلطه حتى إني أخشى أن تخرج إلينا هذه الهيئة بكتاب أخضر و هي الهيئة التي تضم بداخلها عددا من الأشخاص الذين يفترض فيهم الانكباب على إعداد مشروع إصلاح العدالة الحساس للبلد وهم لا يعرفون عنه أو حتى سمعوا به . في حين ترك أهل الاختصاص منسيين و على رأسهم القضاة ممثلين في ناديهم النشط و الجريء المعروف ب"فبرايريي القضاء"من جهة و أطر الإدارة القضائية بمختلف تمثيلياتهم من جهة أخرى.فضلا عن باقي المهن المرتبطة بالعدالة من مفوضين قضائيين و عدول و تراجمة وغيرهم.حق لنا إذن نحن المقصيون أن نعتبر هذه الخطوة طعنا لمواطنيتنا خصوصا وأن المطلوب من مرفق القضاء أن يكون في خدمة المواطن وهو نفسه محروم من أبسط حقوقه أي الحق في تقرير مصيره.القضاة من جهتهم يعتبرون أنهم ساهموا بشكل كبير في لجم الحراك الشعبي الذي أمطروه بسلسلة محاكمات كانت تحاكي المقاربة الأمنية أكثر منها قانونية لما كان يجري في الشارع خلال الربيع الذي لم نرى ثماره عندنا.غير أن أحدا لم يعترف لهم بذلك لا معنويا و لا ماديا و بدى أن الأمور تسير في اتجاه بقائهم أداة طيعة لتمرير الجور و الظلم من خلال أحكامهم.لكن هذا الغليان في جسم القضاء استقبل بكثير من اللامبالاة من قبل الشارع عوض أن يتم استغلاله في الاتجاه الذي قد ينتج عنه تحالف جيد يفتح الطريق أمام إسقاط الفساد. وعلاقة بالموضوع في تونس مهد الثورات تم خلال هذه الأيام وضع حد لمهام 82 قاضيا و جاء بيان وزارة العدل يعتبر أن :" إعلاء مكانة السلطة القضائية و تحقيق استقلاليتها و استرجاع ثقة العامة فيها يحتاج إلى وضع حد لآثار و إفرازات نظام الاستبداد و الفساد, وذلك برد الاعتبار للقضاة الشرفاء الذين عانوا من الظلم و الإقصاء و التهميش و مساءلة المشتبه في ارتكابهم لتجاوزات أخلت بحسن سير المرفق و شرف القضاء ومست من اعتباره و مكانته". إن الطابع الاستهلاكي لمثل هذه المبادرات الرامية إلى الإصلاح في المغرب ,يفرغها من كل هدف يرجى منها و يجعل منها مجرد فقاعات هوائية يعجبك مظهرها لكن سرعان ما تزول حتى قبل أن تقع على الأرض. ليست هذه الخرجات هي المطلوبة لا شعبيا و لا منطقيا , إذ حتى السياق التاريخي لم يعد يقبل بحلول المكياج هذه. السقف أصبح عاليا . والتغيير هو المطلوب و ليس الإصلاح و هو مطلوب الآن وليس لاحقا وليس مجزءا, بل كله و الآن.