عقب الحرب العالمية الأولى سرى مصطلح «الزمن البريطاني» للتدليل على سؤدد بريطانيا وهيمنتها على مقاليد العالم حينها. بعد الحرب العالمية الثانية، أضحت الولاياتالمتحدة القوة العالمية الأولى عسكريا واقتصاديا، ولكن يدها لم تكن مبسوطة كلية على العالم، مع ظهور غريم ينازعها السؤدد، سياسيا وأيديولوجيا وعسكريا، وهو الاتحاد السوفييتي. أما بعد سقوط حائط برلين، فلم تعد يد الولاياتالمتحدة مغلولة، وأضحت تتمتع بما كان يسميه الرومان بالسؤدد والمجد. وكان خطاب الرئيس بوش الأب في إبريل1991 في الكونغرس، حين أطلق مصطلح النظام العالمي الجديد، العلامة المميزة لما يمكن أن نسميه بالزمن الأمريكي. كان هذا النظام أو هذا الزمن، يعِد بتطبيق القانون الدولي، وقد انتهت الحرب الباردة، والصراع الأيديولوجي الذي رافقها مما كان يشل الأممالمتحدة، وكان يدعو للدمقرطة واحترام حقوق الإنسان، مثلما كان يدعو على المستوى الاقتصادي، إلى رفع الحواجز الجمركية، وتحرير المبادلات والخصخصة، وتم في ذلك السياق إحداث منظمة دولية للتجارة، التي لم يتح لها أن ترى النور في أعقاب نظام بروتنوودس سنة 1946. أما على مستوى الشرق الأوسط، وفي ما يخص النزاع العربي الإسرائيلي، فقد رعت الولاياتالمتحدة مؤتمر مدريد (1991)، رغم عدم دعوة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني إليه. بيد أن المؤتمر كان أرضية لطرح القضية في أفق حل للنزاع الذي كان يُنظر على أنه من مخلفات الحرب الباردة. وتطورت الأمور إلى اتفاق أوسلو (1993) واعتبرت الولاياتالمتحدة أن المرجعية لحل النزاع هو المقتضيات الأممية ذات الصلة، والأرض مقابل السلام، واعتبار القضية الفلسطينية جوهر النزاع. كان لا يمكن لأي رأي حصيف أن يرفض العرض، أو ينحو نحو التعنت، رغم الإجحاف البائن والتسويف في آجال الاتفاقات. بيد أن المقاربة الأمريكية اهتزت مع 11 سبتمبر، وأضحت الاعتبارات الأمنية مقدَّمة على مقتضيات حقوق الإنسان. رفعت الولاياتالمتحدة يدها عن ملف الشرق الأوسط، أو على الأصح القضية الفلسطينية، لتُقدم على إجراءات لم تُقدم عليها أي إدارة سابقة ثلاثون سنة منذ إطلاق النظام العالمي الجديد، أو الزمن الأمريكي، مرحلة كافية لتقييم الحصيلة. هل طابقت تلك الفترة المبادئ الكبرى التي رفعتها الولاياتالمتحدة؟ وهل تحقق ما كانت الولاياتالمتحدة تدعو له من الأمن والسلم والرفاه في العالم؟ لم يعد هاجس الولاياتالمتحدة الاشتغال من داخل منظومة الأممالمتحدة، أو الدبلوماسية المتعددة الأطراف، ولا حتى حول تلك القضايا التي كانت أول من رفعها، ونعتتها بالقضايا الكونية، ومنها البيئة والهجرة، ولا ترى في حقوق الإنسان ولا الديمقراطية محددا لسياستها. أما على المستوى الاقتصادي فقد برز بشكل واضح منذ 2008، أن النيوليبرالية التي كانت تدعو لها، وتعتبر مثلما كان كلينتون يردد، أن الدول التي تتاجر في ما بينها لا تقوم بالحرب، وصلت إلى الباب المسدود. ظهر أن ما كان يسمى بتوافق واشنطن ليس وصفة للنجاح، وتبدت فوارق كبرى بين شرائح المجتمع، ولم يعد ممكنا معالجة المسألة الاجتماعية بناء على المحدد الاقتصادي، أو ما كان يسمى بنظرية الانسياب. وعلى صعيد الشرق الأوسط، رفعت الولاياتالمتحدة يدها عن ملف الشرق الأوسط، أو على الأصح القضية الفلسطينية، لتُقدم على إجراءات لم تُقدم عليها أي إدارة سابقة، منها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإقرار إسرائيل في احتلالها للجولان، وأخيرا عدم اعتبار المستوطنات في الضفة احتلالا. وعلى مستوى آخر تبدت المنظومة التي سعت الولاياتالمتحدة لأن تفرضها بعد الحرب على العراق سنة 2003، من خلال نظام طائفي على اختلالات عميقة، أججت الأحقاد الطائفية والدينية، وأفضت في حالة السودان إلى الانفصال. وهو الخطر الذي يهدد كثيرا من الدول في العالم العربي. لكن هل هي نهاية الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط، رغم الانحسارات التي تبدت على مدى ثلاثين سنة؟ نعم هناك أطراف جديدةعلى الساحة الدولية، مثل روسياوالصين، وهناك أزمة النيوليبرالية، والتصدع داخل الناتو، الذي أصبح حسب الرئيس الفرنسي ماكرون في موت سريري، ما يضعف من دور الولاياتالمتحدة، لكن ذلك لا يعني أنها ستنسحب من الشرق الأوسط، أو تنأى عن شمال افريقيا، وإنما ستقوم بما يسمى عودة الانتشار، إما مباشرة أو من خلال توزيع المهام مع حلفائها، لأنها من خلال تحكمها في المنطقة يمكن أن تؤثر على غريمها السياسي، روسيا، وتناكف ضرتها أوروبا، وتقايض منافسها الاقتصادي الصين، وتتحكم في القوى الإقليمية الناهضة إيرانوتركيا. من هذا المنظور سوف يتغير أسلوب الولاياتالمتحدة في المنطقة، سينتهي ما كان الدبلوماسي الأمريكي بالترو ينعته بالغموض البناء. سيتوزع العالم العربي، من منظور الولاياتالمتحدة، بين خصوم واضحين، سواء أكانوا دولا أو تنظيمات، وحلفاء لامشروطين. لن تكون هناك منطقة رمادية. إما الانصياع للولايات المتحدة، وينبغي حينها القبول بكل حزمتها، حول أمن إسرائيل، وطي الملف الفلسطيني، في إطار صفقة القرن، واتخاذ موقف واضح من إيران، مقابل الحماية والدعم، وإلان فليس هناك من خيار لتلك الأنظمة من إجراءات عقابية، إما اقتصاديا، كما لوّحت لفترة مع تركيا، أو لإضعافها داخليا، من خلال تحريك قنابل موقوتة، إما ذات طبيعة اجتماعية أو إثنية أو عقدية، ما من شأنه أن يفاقم التوتر بالشرق الأوسط وشمال افريقيا. ما يُحسب للرئيس الأمريكي ترامب هو قوله جهارا ما كان يتم التستر عنه من قبل، لقد كان النداء داخل المؤسسات المتعدة الأطراف شعارا لا غير، إذ كان رؤساء الدبلوماسية الأمريكيون يمارسون ضغوطا على تلك المؤسسات، ومنها الأممالمتحدة حتى أضحى دورها شكليا، أما الرئيس الحالي فيهزأ جهارا بمنظومة سان فرانسيسكو، ويدعو إلى سياسة حماية اقتصادية عوض حرية المبادلات التي كان ينادي بها سابقوه، من منطلق أنها كانت تخدم مصالح أمريكا، ويقتضي المساهمة المالية من حلفاء الولاياتالمتحدة. كان الزمن البريطاني يخفي نهاية السؤدد البريطاني، فهل تكون الولاياتالمتحدة استثناء؟ المصدر: القدس العربي